من لاعب الشطرنج إلى لاعب النرد

2019-01-22 12:00:00

من لاعب الشطرنج إلى لاعب النرد
mural tag of Mahmoud Darwish in downtown Tunis

تتراكم السنين، وتتزاحم الخيبات، من تلّ الزعتر إلى حصار بيروت، ومن "أحمد العربي" إلى "مديح الظل العالي"، من أحمد الذي "يريد هوية فيصاب بالبركان" إلى الظل العالي الذي تكبر فيه الفكرة وتصغر فيه الدولة.

يمكننا القول أنّ درويش لم يكُن مِن هُواة الشّطرنج كَفكرة. كلّ شيءٍ في الشطرنج يَخضع للعقل ولقوانينِه الصّارمة، إلا أنّ الشطرنج بقوانينه المُحْكَمَة، لا ينفعُ ولا يَصْلُح ليكون نموذجًا أو مدخلاً لفهم الحياة، لأنّ الحياةَ أصلُها صدفةٌ، لحظةُ الولادةِ، وآخرُها صدفةٌ، لحظةُ الموتِ، وليس لنا أيّ سيطرة ٍعلى أيّ منهُما ولا قدرةٌ للتّحكم. فكيف لنا أن نضبُطَ شيئًا مثلَ الحياة، إذا كان طرفاه عَصِيّين على الضبط، وكيف لنا التّحكمُ في لعبة ليس لنا شأنٌ في إعلانِ بدايتِها، أو نهايتِها؟

عليهِ، ليس صدفةً أن يحافظَ درويش على مَسافةٍ متوجّسة من الشطرنج، وأن يكتب آخر حياته في قصيدته "ههنا الآن، وهنا والآن" في ديوانه الأخير:

"نلعب الشطرنج أحيانًا، ولا

نأبه بالأقدار، خلف الباب

ما زلنا هنا

نبني من الأنقاض

أبراج حمام قمرية"

إلا أن ما يقوله الشاعر في خريف العمر، حين يكون له ماضٍ ولديه القليل من المستقبل، يختلف عما يقول الشاعر الشاب، الذي لديه الكثير من المستقبل، والقليل من الماضي ليتفرّس  فيه.

ولذلك كتب محمود الشاب الفتى في قصيدته عن إنسان:

"يا دامي العينين، والكفين

إن الليل زائل

لا غرفة التوقيف باقية

ولا زرد السلاسل

نيرون مات ولم تمت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تموت

ستملأ الوادي سنابل

وهذه الثقة بالتاريخ تعيد نفسها حين كتب عن الأمنيات، كتب يقول:

"يا صديقي

لن يصب النيل في الفولغا

ولا الكونغو، ولا الأردن، في نهر الفرات

كل نهر، وله نبع... ومجرى... وحياة

كل فجر، وله موعد ثائر"

ليس هناك ما يبرّر الإيمان بالضرورة التاريخية التي هي أشبه بالضرورة التي تفرضها لعبة الشطرنج، سوى حقيقة أن التاريخ الذي يتحدث عنه محمود، ما هو إلا المستقبل. درويش يتحدث عن الضرورة التاريخية باعتبارها مستقبلاً، وهو الفتى اليافع الشاب، لا ينظر إلى الوراء كي يعصر الوقت ويستخرج منه حكمته، إنما يرنو إلى مستقبل، لم يصبح تاريخًا بعد، ليبشرنا باليقين. الفتوة، لا ماضٍ لها، لديها متسع من الوقت كي تسخر من التاريخ، ولذلك يكتب الفتى درويش:

"هذا زمان لا كما يتخيلون...

بمشيئة الملاح تجري الريح

والتيار يغلبه السفين"

إلا أنه يجب أن يقال في حق الشاعر، أن سرعة تعلمه من التاريخ كانت بسرعة البرق، ولم يعش كأنه سيعيش إلى الأبد. وأدرك صغيرًا، أنه منذور للشعر، وأدرك صغيرًا أن حياته قصيرة ومحدودة، وأن الحكمة زغب عشب ربيعي ينمو بحذر فوق الأنقاض المهدمة للخيبة. لذا هجر درويش مبكرًا إلْفَتَه بالعالم باعتباره بيته، ولم يرفع كلفته بينه وبين الوجود وحافظ على اغترابه، قبل أن يغترب عن فلسطين، وسكن منفاه قبل أن يذهب طواعية إلى المنفى وكتب مبكرًا جدًا، بحدس الشاعر الذي يحبس الأنفاس ما يلي:

"يخيل إلي أن عمري قصير

وأني على الأرض سائح

وأن صديقة قلبي الكسير

تخون إن غبت عنها

وتشرب خمرا

وتكتب شعرا

لغيري،

لأني على الأرض سائح"

لم يكن درويش الفتى يعرف حين كتب هذه السطور، وهو بالكاد يتجاوز العشرين من عمره، أنه يكتب فصلاً من قصته، وأن حدس قلب الشاعر كان يعرف أكثر بكثير مما يكشف له عقله، وانه بفطرته الشاعرية يستأنف، من دون وعي أو قصد، على الشاعر الكبير الساحر ناظم حكمت، الذي كتب قصيدة/رسالة لابنه يوصيه فيها: "لا تعش دنياك كمن جاءها ليصطاف، عش دنياك كأنها بيت أبيك".

تتراكم السنين، وتتزاحم الخيبات، من تلّ الزعتر إلى حصار بيروت، ومن "أحمد العربي" إلى "مديح الظل العالي"، من أحمد الذي "يريد هوية فيصاب بالبركان" إلى الظل العالي الذي تكبر فيه الفكرة وتصغر فيه الدولة.

وعليه، عندما يكتب مودعًا صديق ورفيق عمره سليمان النجاب يقول له: "كنا نؤمن بأن الغد أجمل، لكن التاريخ يفاجئُنا بخيبة أمل جديدة تغري الشاعر بمديح الأمس".

وإذا كان الزمن يعلمنا الحكمة فإن التاريخ يعلمنا السخرية. لا يأبه التاريخ لمشاريعنا وخططنا وأحلامنا، لأن للتاريخ مشاريعه الخاصة به التي لا يستشيرنا بها حين يضعها، ويذهب إلى تحقيق مآربه غير آبه بنا وبمشاريعنا.

وعليه، فقد كتب درويش حين عاد من موته إلينا، في الجدارية:

"التاريخ يسخر من ضحاياه

ومن أبطاله

يلقي عليهم نظرة ويمرّ

من فرط الخيبات، يرتفع منسوب السخرية، وتحاصر السخرية المعنى. هل تستقيم السخرية والمعنى؟ هل هناك معنى للأشياء إذا كان كل شيء قابلاً للسخرية، وكيف يستقيم لشاعر يعيش على المعنى أن يتبنى السخرية ويجافي المعنى؟

يقترب درويش من حافة الهاوية، يعبرها ويعود.

يكتب درويش العائد للتو من منازلة مع الموت المحتم ويستعيد سفر الجامعة:

"باطل، باطل الأباطيل... باطل

كل شيء على البسيطة زائل"

إلا أن درويش الذي يقف فوق سرير موت إبراهيم أبو اللغد، اللاجئ الذي نزح عن يافا ليعود إليها في موته، يكتب فيقول:

"وحدها، صورة يافا على الجدار منعتنا من

القول، باطل الأباطيل باطل"

هنا يكمن سر وسحر درويش، في قدرته أن يلعب مع السخرية، التي تزحزح المعنى، ومن وضع حد لهذه السخرية في لحظة من التماهي. السخرية ضرورية للمعنى، لأنها تزحزحه، وتظهر للعقل قصوره عن الإحاطة بالمعنى، وهي القادرة أن تجدد المعنى وأن تخرجه من مكانه، أما التماهي فإنه يمنع الوقوع في لحظة العبث المطلق.

ولعبة السخرية والتماهي، والصدفة والضرورة، لاعب النرد ولاعب الشطرنج، هي كلعبة العاشق ولعبة الشاعر الحاذق. يكتب درويش في لاعب النرد.

"من سوء الحظ أني نجوت مرارًا من الموت حبًا

ومن حسن الحظ أني ما زلت هشًا لأدخل في التجربة"

لا يستقيم الحب والسخرية. السخرية تجعل من شخص الحبيب فائضًا عن اللزوم، وهو ما يتنافى مع طبيعة الحب الذي يقوم على الحاجة التي لا حاجة لها، إلى شخص الحبيب، والسخرية تزرع مسافة بينك وبين الحبيب. إلا أن التماهي المطلق مع شخص الحبيب قد يقود إلى الانتحار، وحاجتنا إلى بعض السخرية هي تعبير عن رغبتنا أن نجد أنفسنا حين نعود إليها شبه سالمين، لأنّنا لو عُدنا إلى ذواتنا سالمين، فكأننا لم ندخل في التجربة، وإذا لم نعد يكون الحب هو الموت.

هذه المراوحة بين السخرية والمعنى، وبين الصدفة والضرورة، هي الفن الذي احترفه درويش طوال حياته في شعره أيضًا.

صحيح أن درويش أنهى حياته بفصل في مديح الصدفة إلا أن ذلك يجب أن يغيّب عن فهمنا للطبيعة المركبة بين الصدفة والضرورة عند درويش، بين النرد والشطرنج.

إن الإفراط في مديح الصدفة قد يكون مضرًا، مثل الإفراط في مديح الضرورة. إن لاعب النرد لا يحتكم للصدفة فقط، وإذا كان كل شيء صدفة فما دوري أنا، وإذا كان كل شيء ضرورة فما الحاجة إلي أيضًا؟

يبدو لقارئ لاعب النرد بأن كل شيء صدفة.

"أنا لاعب النرد

أربح حينًا وأخسر حينًا

ولدت بلا زفة وبلا قابلة

وسميت باسمي مصادفة

ليس لي دور بما كنت

كانت مصادفة أن أكون

ذكرًا

ومصادفة أن أرى قمرًا

كان يمكن أن لا أكون

كان يمكن أن لا يكون أبي

قد تزوج أمي مصادفة"

.....

لا دور لي في حياتي

سوى أنني

عندما علمتني تراتيلها

قلت هل من مزيد"

إلا أن من يقرأ درويش حول الكتابة يعرف جيدًا أن درويش لا يؤمن بأن كل شيء وحي وإلهام. يكتب محمود في القصيدة ذاتها:

"لا دور لي في القصيدة إلا

إذا انقطع الوحي

والوحي حظ المهارة إذ تجتهد"

الوحي حظ المهارة إذ تجتهد!! بحركة لولبية شاعرية تحبس الأنفاس في جماليتها ينبهنا درويش إلى أن الوحي حظ، إلا أن هذا الحظ بحاجة للاجتهاد. في مقطع آخر من نفس القصيدة يكتب درويش:

"لا دور لي في القصيدة

غير امتثالي لإيقاعها"

إلا أن هذا الامتثال هو ليس امتثال الطالب المهذب الذي ينصاع إلى أوامر أستاذه، إنما هو الامتثال الخلاق لجسد الراقصة الذي يتيح للإيقاع الموسيقي أن ينصب فيه، وأن يرد التحية إلى اللحن، كي يمتلئ اللحن بالجسد كما امتلاء الجسد باللحن.

ولذلك ليس صدفة أن يكتب درويش مرة أن "الحظ موهبة، والموهبة حظ"

ويصف درويش لعبته مع الشعر وكتابة الشعر كما يلي:

"تعثر على سطرك الخاص بك في كل هذا الزحام الأبيض الممتد بين الكتابة والكلام.. وتعرف أن المعنى في الشعر يتكون من حركة المعنى في إيقاع يتطلع فيه النثر إلى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر إلى ارستقراطية النثر.

"خذني إلى ما لا أعرف من ضفاف النهر.. خذني"، جملة موسيقية كهذه تشق طريقها في مجرى الكلام، جنينًا يتكون، ويكوّن ملامح صوت ووعدًا بقصيدة. لكنها في حاجة إلى فكر يقودها وتقوده في مناخ الإمكانيات المفتوحة. السطر الأوّل هو ما سمّاه الحائرون، إزاء مصدره، الإلهام أو الإشراق. والباقي عليك وحدك. عليك أن تجد الباقي وعناصر البناء الكفيلة بصب الشعر، شعر الحياة، في نظام القصيدة. فمنذ هبط عليك السطر الأول أصبحت أنت الصانع الماهر والشاعر إن حالفك الحظ وأدركت الخطأ. أليس الشعر محاولة ما لإصلاح خطأ؟".

إلا أنه ما من شك فيه، أن درويش المتأخر، كان منحازًا للحياة تمامًا، وليس للتاريخ، للحدس وليس للأفكار.

لأن الحياة كما قال: لا توهب لتُعرّف أو تعرض للنقاش بل لتُعاش.. وتعاش بكاملها، وتلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتين من الكرز".

كان مع تقدمه في العمر، يضيق ذرعًا بالذين يفضلون الحكمة على الفتوّة، ويستجوبون الحياة كـأنّها في غرفة تحقيق. وبهذا المعنى، فإن الحياة هي مسار وتجربة، وليست خبرة وخلاصة، وهي مدى مفتوح للحرية والفروسية، للآمال والخيبات، كما أن "ألف عصفور في يد، لا تعادل عصفورة واحدة ترتدي الشجرة" وهي معانقة الصدفة حين تعرض نفسها عليك لا أن تدير ظهرك إليها تحت أحكام الضرورة، لأن "الخلاصة، مثل الرصاصة في قلب شاعرها حكمة قاتلة".

نص الكلمة التي ألقيت في مؤتمر للذكرى العاشرة لوفاة محمود درويش