مونودراما "آخر يوم في الربيع": سيكولوجيا الفقدان الشخصي والجماعي

2019-01-24 12:00:00

مونودراما

"آخر يوم في الربيع" مونودراما شخصية سيكولوجية تعالج الفقدان، فقدان الأخ والمرشد، لكنها قد تأخذنا، نحن الفلسطينيين، إلى مستوى أعمق من الفقدان، هو فقدان جزء منّا، الدروز، في عام 1956، عندما فرض عليهم التجنيد الإجباري لينتزعوا منهم فلسطينيتهم، وينتزعوهم منا.

"آخر يوم في الربيع" مونودراما مسرحيّة جديدة وذكية. ويتجلّى ذكاء هذا العمل بخوضه في نفس المشاهد ليتيح له إمكان عيش العمل في كلّ لحظة ألم وفرح تمامًا كما على المسرح أن يكون. ولهذا العمل استثنائية مهمة وجريئة: تركيبة نسائية بكلّ ما تحمل الكلمة من معان، منحت هذا العمل مستوى فنيًا مختلفًا يتجرأ ليكون الأفضل لعام 2018، إذ أدت الدور الفنانة فداء زيدان وأخرجته سوار عواد وصمّمته مجدلة خوري، ما ولّد عملًا فنيًا نسويًا في أسلوب الطرح والمعالجة الدرامية، حتى من دون قصد.   

عرضت "آخر أيام الربيع" في حيفا، الشهر الماضي، في "مسرح خشبة"، وهو مسرح فلسطينيّ مستقلّ أسّسته مجموعة فنانين فلسطينيّين مستقلين عام 2015 في مدينة حيفا بهدف توفير منصّة حرة للفنانين، ضمن الموسم الجديد للمسرح، الموسم المتطرّف، في ثلاثة عروض ناجحة غصّت خلالها القاعة بالمشاهدين.
 


المونودراما قصّة حبّ أخوية بين فداء وشقيقها، الذي التحق بجيش الاحتلال بسبب انتمائه إلى الطائفة العربيّة الدرزيّة التي فرض على أبنائها التجنّد قسرًا بهدف عزلهم عن المشروع الوطني الفلسطيني وتفكيكه. فقد استطاعت إسرائيل عام 1956 سلخ الدروز الفلسطينيين عن الهوية الفلسطينية الجمعية، إذ حاولت الحركة الصهيونيّة من خلال مشروعها الاستعماريّ ممارسة سياسات "فرّق تسد" وبناء حواجز بين الطوائف المتعدّدة في فلسطين وعزل الدروز عن وجودهم الطبيعي في المشروع الوطني الفلسطيني، لتضمن نجاح مشروعها. وخططت الحركة الصهيونية لطرد الدروز إلى لبنان وسوريا لكنها لم تنجح، فذهبت إلى تجنيدهم بالقوة. وهكذا، أقامت إسرائيل عام 1948 وحدة خاصّة أسمتها "وحدة الأقليات" تهدف إلى تجنيد الأقليات في فلسطين - ومن بينهم الدروز- واستطاعت من خلال بعض القيادات الدرزية سنّ قانون التجنيد الإجباري على الدروز، وبهذا عزلتهم عن فلسطينيتهم وعن باقي الدروز في سوريا ولبنان، ومنحتهم  "امتيازات" بسبب خدمتهم في الجيش وأقامت لهم جهازَ تعليم خاصًا بهم بهدف محو أيّ أثر لترابط فلسطيني عربي بينهم وبين باقي الفلسطينيّين. مع هذا استمرت في مصادرة أراضيهم كما تشير فداء عند الحديث عن الأرض.
 


تبدأ قصة فداء، الفتاة الدرزية، من الأرض المصادرة، "الأرضيات" كما تسميها هي. تشهد الأرض التي ربطت بين أفراد العائلة قصّة حب وعلاقة أخوية ليست مفهومة ضمنًا، في حين بلغت هذه القصة ذروتها عند موت الأخ أثناء "خدمته الإجبارية" المفروضة على الدروز.

أثار هذا الموت أسئلة جديدة، وباتت قضية الموت فعلًا، كما طرحها ألبير كامو، قضية الأحياء، والألم والتعبير عنه لم يكونا كافيْين للإجابة عن التساؤلات التي خرجت إلى الحياة مع موت الأخ. انعكست قضية الموت على الحياة وعلى الأخت الصغيرة التي باتت تبحث عن أجوبة لهذه القضية، أجوبة حقيقية ومؤلمة. كشف الموت حقيقة الحياة، حياة مجموعة فلسطينية تم تفكيكها وعزلها عن بيئتها لتأخذ المسرحية منحًى جديدًا يطرح أسئلة سيكولوجية وسياسية جديدة.

نقلتنا فداء إلى عدة أماكن من حياتها، سواء من حيث الزمان أم المكان. كان الانتقال ساحرًا على منصّة صغيرة؛ انتقال بدأ بطفلة في السابعة من عمرها ترى الحياة بعينيّ أخيها إلى شابة عاشت آلام الفقدان وتألمت وبدأت تلملم هذا الألم في محاولة شجاعة وجريئة من خلال العودة إلى المكان الأول، والزمان الأول، إلى الأخ الأكبر وإلى القضية الكبرى.

يصنف عمل "آخر يوم في الربيع" كمسرحية مونودرامية، أو مسرح الشخص الواحد وفقًا لأدبيات المسرح، وهو ما قد يشكل تحديًا كبيرًا، خاصة وأنّ القضية هي قضية أمة كاملة ووقع المسؤولية على الممثلة والمخرجة أن تحكي هذه القصة الجمعية من خلال شخص واحد فقط وهي المرأة.

الفقدان في "آخر يوم في الربيع" هو الموضوع المركزي في العمل، حيث يطرح العمل فقدان الأخ كموضوع مركزي في تسلسل درامي للعمل. السؤال المطروح هو معنى هذا الفقدان وتداعياته وإسقاطاته على فداء، والعائلة، والأرض المصادرة والقضيّة الفلسطينيّة. وبات تأثير الفقدان على فداء واضحًا منذ البداية، إذ تحوّلت من طفلة تلعب مع أطفال البلدة إلى امرأة تقرّر مصير أبنائها حتى قبل أن تلد. وتحوّلت من أخت صغيرة محبّبة على أخيها الى امرأة تسعى لتغيير مصير عائلة بأكملها. أمّا بالنسبة للعائلة التي فقدت فردًا منها، فقد باتت عائلة مركزية في البلدة؛ فالفقدان يجعل منك مسؤولًا عن عدم الفقدان بعد ذلك. وبالطبع، تغيّرت تركيبة العائلة ثم التركيبة الدرامية وحتى صراعات القوى بين الأفراد – الأم والأب – في هذه الحالة.    
 


يحاكي النص المستوحى من قصة فداء زيدان، والذي كتبته بنفسها، الصراع القائم على مستوييْن؛ الأول الصراع الشخصي مع الحيز الشخصي والعائلي الذي تعيشه بطلة العمل، الصراع بينها وبين ذاتها، بين الطفلة التي فقدت أخاها وبين المرأة التي لن تقبل بخسارة أطفالها في المستقبل؛ بين الضحية وبين الضحية المقاومة فيما بعد، ومن خلال هذا الصراع تنتقل إلى الثاني، وهو صراع أكبر بينها وبين الدولة، الحاضر في الخلفية وإن لم يكن ظاهرًا. إنه الصراع السياسي بين الفلسطينيين الدروز في الداخل الفلسطيني وبين الدولة التي أخذت "حقها" منهم، كما تشير فداء من خلال النصّ. والتعبير الأجمل عن هذا الصراع هو ذكرى الأخ في "آخر يوم في الربيع"، وينعكس هذا الصراع في محاولة منها لنقل الأخ من المقبرة العسكريّة إلى "الأرْضَيات"- إلى المكان الأصلي الدافئ، المكان الأول وإلى الوطن.

أجمل ما في العمل أنه من دون أقنعة، من دون تقمّصات واجتهادات، عمل يحاور الفقدان بكلّ جوانبه القاسية والصارمة وجوانبه الجميلة الممتلئة بالذكريات والأحلام ولحظات السعادة القليلة.

امتازت هذه المونودراما التي تطرح موضوعًا شائكًا وحسّاسًا بنجاح الشخصية المركزية في بناء حالة تضامن مع الجمهور. الانتقال في الحالات وفي الأحداث الدرامية السريعة نوعًا ما كان انتقالًا في حالاتنا وتشتّتنا الفلسطيني القائم منذ عام 1948. كان إخراج "آخر يوم في الربيع" ملائمًا لموضوعها، إذ ركّزت المخرجة في عملها على الاتصال الجسديّ بين أفراد العائلة وأبناء قرية بيت جن، وهي القرية التي تدور فيها الأحداث حتى من دون حضور جسديّ للشخصيات، فعملت على استحضار الميت والحديث معه ولومه على الموت ونقله من مكان إلى آخر، العودة من الموت إلى الولادة. العودة من الغربة السياسيّة الاجتماعيّة من حالة الانفصام السياسيّ الذي ولدته إسرائيل، كل هذا انعكس في الحوارات الذاتية الدرامية وفي التمرّد على قالب المونودراما التقليدية الذاتية الشخصية، والانتقال إلى إخراج مسرحية درامية متعدّدة الشخصيات في شخصية واحدة. هذه العوامل أتاحت للمشاهد الفلسطينيّ فرصة التضامن مع الممثلة ومع الشخصيّة.

لعبت الموسيقى دورًا مهمًا في إدارة الحبكة، قد تنقسم إلى قسميْن: الموسيقى المسرحيّة التي ألّفها الفنان حبيب شحادة حنا والتي ساهمت في مراحل انتقال الشخصية أو الشخصيات في الشخصية من مرحلة إلى أخرى. والموسيقى التصويرية لفيلم "روكي 3" (1982) وأغنية الفيلم Eye Of The Tiger لفرقة الروك الأميركية Survivor والتي عبرت عن طبيعة العلاقة الأخويّة في النص، إذ كان الأخ المفقود يدرّب الأخت الصغرى على الفنون القتالية، وكانت شخصية روكي مركبًا مهمًا في هذه العلاقة. كانت هذه تقنية إخراجية موسيقية موفقة لنقل طبيعة شخصية الأخ وهواياته وإنعاشه في العمل برغم أنه ميت.

"آخر يوم في الربيع" مونودراما شخصية سيكولوجية تعالج الفقدان، فقدان الأخ والمرشد، لكنها قد تأخذنا، نحن الفلسطينيين، إلى مستوى أعمق من الفقدان، هو فقدان جزء منّا، الدروز، في عام 1956، عندما فرض عليهم التجنيد الإجباري لينتزعوا منهم فلسطينيتهم، وينتزعوهم منا.

النجاح في الفن عمومًا - وفي المسرح خصوصًا- غير مرهون بالضرورة بتجنّده لقضية سياسية أو لمشروع وطني فقط، بل على العكس أحيانًا: بتجنيد السياسة وتركيباتها لخدمة الإبداع الفنّي والمسرحيّ، اللذين ينهضان بالسياسة ويُقومان بإحياء طروحاتها، كما حصل في "آخر يوم في الربيع".