في مؤسسة عبد المحسن القطان، وبمشاركة ١٧ فنان وفنانة

معرض "المَرْفق"... تساؤلات حول عملية صناعة الفن

2019-05-08 15:00:00

معرض
من المعرض

يمكن لهذه التجربة الفريدة إتاحة المجال لمناقشات هادفة ومثيرة للاهتمام في المستقبل. قد تتطرق تلك المناقشات إلى تغيير في طرق إنتاج الفن المعاصر. كما توفر هذه الإقامة الفنية-المعرض فرصة هامة للفنانين الشباب لتشكيل هيئات ومجموعات تنتج الفن بطرق غير اعتيادية.

"المَرْفق" هو المعرض الجديد لمؤسسة عبد المحسن القطان، بإشراف القيّم يزيد عناني ومساعدة القيّمين عبد الرحمن شبانة ومجاهد خلّاف. بمشاركة 17 فنان وفنانة: علاء البابا، أنوار فنون، آية نيروخ، ديما ارشيد، دعاء أبو شغيبة، عصمت زايد، حنين نزال، هيا كعابنة، مجد مصري، مجدي أبو غربية، مهند العزة، نمير قاسم، نبراس البرغوثي، نسرين البرغوثي، روان أبو غوش، صفاء شقير، ذكرى مصلح.

تهدف فكرة المعرض، بحسب الإعلان، إلى خلق مساحة تتيح التفاعل بين الفنان و"الجمهور". ويكسر المعرض العلاقة الثنائية الكلاسيكية بين العمل الفنّي النهائي والجمهور عبر تقديم مشهد شمولي لعملية صناعة الفن، يتواجد فيه الفنان والاستوديو وعملية الإنتاج والعمل الفني وتجربة الجمهور جنبًا إلى جنب في مكان واحد. كما يهدف المعرض إلى مساءلة فكرة توفير مساحات عمل واستوديوهات للفنانين، خاصة اليافعين منهم. تم افتتاح المعرض يوم السبت بتاريخ 23 آذار في مبنى مؤسسة عبد المحسن القطان الجديد في حي الطيرة في رام الله، ويتواصل حتى نهاية شهر أيّار القادم. يتلي معرض "المَرْفق" المعرض الافتتاحي لمقر المؤسسة الجديد بعنوان "أمم متعاقدة من الباطن". 

 


تصميم المعرض والتدخل المساحيّ

تنقسم مساحة المعرض إلى ثلاث "كتل"، في كل منها خمسة أو ستة استوديوهات-غرف مقسمة على الفنانين. كان افتتاح المعرض فارغًا من أي أعمال فنية في صيغتها النهائية. بدلًا من ذلك، تمت دعوة الزوّار إلى الاختلاط بالفنانين والقيمين وغيرهم من الزوّار، وإلى إشراك أنفسهم بعملية إنتاج الأعمال الفنية وزيارة الفنانين في "استوديوهاتهم" وفقًا لشروط الفنانين المعلن عنها. تم بناء الفضاء وتقسيمه باستخدام "مشاتيح خشبية"، وزوّد القيّمون على المعرض المساحة بمطبخ مشترك وطاولة كبيرة لتناول الطعام والنقاش. عودة إلى مسألة افتتاح المعرض دون أعمال فنية؛ الأعمال الفنية في " المَرْفق" غير مهمة بحد ذاتها، ولا خبرة الفنانين المشاركين أو انسجام توجهاتهم الفنيّة أو تقنياتهم الإنتاجية. يظهر لنا المعرض "عملية الصناعة" وليس "المصنوع". هو عرض لمنحوتة اجتماعية كبيرة. بهذا، أتاحت ليونة القيّمين على المعرض المجال للفنانين الشباب المشاركة دون أي قيود أو تصفية لمفاهيمهم وخططهم الأصلية.

 


تقييم فنيّ مدرك لذاته

على جدران المعرض، تستطيع أن ترى رسومات رصاص (جرافيت) ضخمة لأشجار، وفي الخلفية تستطيع سماع مقطوعة صوتية لأصوات طيور في مساحة المعرض. على الجدران نفسها، يتم عرض صور أشجار حقيقة فوق تلك المرسومة، في إشارة إلى كون هذه المساحة الاجتماعية بوجود فنانين "حقيقيين" يعملون على إنتاج أعمال فنية "حقيقية"، ليست مساحة اجتماعية "حقيقية" مثل تلك التي يمكن العثور عليها خارج مساحة المعرض (white cube). تشكك هذه الإشارات في "واقعية" المعرض نفسه. فقد يكون المعرض بمثابة تمثيلًا أو تقليدًا للواقع. أو ربما يمكن النظر إليه كمساحة غير متجانسة تضم واقعًا آخر/علاقات اجتماعية حقيقية مشتتة في الواقع/المساحة الحقيقية، ولكن من المفارقة أن تتكثف بشكل انتقائي في مكان آخر، في المكعب الأبيض. تذكّر التلميحات المختلفة الزوّار أيضًا بالانخراط في عملية صناعة الفن، بدًلا من مراقبة الفنانين في استوديوهاتهم-غرفهم  كما لو كان الهدف من وجودهم الفرجة السلبية، كمن ينظر لكائنات في أقفاص.

على الجانب الآخر من المعرض، يُظهر حائط خشبيّ أربعة أعمال فيديو للفنانة والمخرجة الأمريكية- الأوكرانية الريادية مايا ديرين. توظف ديرين الحركة والأداء وتصميم الرقص كعناصر أساسية في عملها. في هذا المعرض، تُعرض أعمالها قبالة فنانينا المشاركين، بحيث تتيح هذه المقاربة وتجاهل العمل الفنّي بصيغته النهائية، المجال لتفسير عملية الإنتاج الفنية الفردية كعمل فنّي أدائي جماعي. كما يمكن لنا التساؤل عمّا إذا كان الفنانون يعملون "حقًا" على أعمالهم الفنيّة المعتادة كما لو كانوا في استوديوهاتهم الشخصية، أو عما إذا كانوا يقلدون عملية الإنتاج كجزء من عرض أدائي جماعيّ يدوم طوال فترة المعرض. 

 


خطوة أولى نحو: جمهور أقل اغترابًا وفن أقل قداسةً

يعني مفهوم "صنمية السلعة" commodity fetishism ببساطة: إدراك السلعة في حالتها النهائية وفهم "قيمة استخدامها" فقط بطريقة سلبية، وفهم العلاقات بين السلع نفسها عوضًا عن العلاقات الاجتماعية بين العمال منتجين هذه السلع والعمل نفسه الذي أدى إلى إنتاجها، أو بين وقت العمل والعمل نفسه وبين السلعة النهائية. بالتالي، هناك اغتراب بين جميع عناصر هذه المعادلة؛ بين المنتجين والمنتَج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية والمستهلكين. ولا يمكن استثناء الفنانين "المحترفين" من هذا الاغتراب عن "المنتج/السلعة/العمل الفني" فالكثير من الأعمال الفنية اليوم أصبح ينتجها الفنان عن طريق تكليف آخرين بإنتاجها، وعليه فإن الفنان أحيانا يغترب عن عمله الفني النهائي. إضافة لذلك، ففي المعرض الكلاسيكي الحديث، يتم تكوين علاقات "اجتماعية" بين الأعمال الفنيّة النهائية المختارة (السلع)، بدلًا من العلاقات الاجتماعية بين الفنانين وعملية الإنتاج الفني.

هناك تساؤل حول قيمة العمل الفني المعاصر، هل يعد العمل الفني/السلعة ذو قيمة نتيجة الجهد الإنساني (الفني) المبذول لإنتاج العمل، أو بسبب قيمته الجوهرية الفعلية؟ جواب هذه المعضلة الحرجة ليس مهمًا في هذا المعرض، لأنه ينفي أهمية الأعمال الفنية (المنتجة) بشكلها النهائي منذ بدءه ولا يعرضها فهي ليست جزءاً من المعرض، ولكنه يركز على "العلاقات الاجتماعية" بين البشر والأشياء بشكل أساسي، وبهذا فإنه يدق مسماراً في نعش صنمية العمل الفني المعاصر واغتراب جمهور هذا الفن. يظهر هذا في يوم الافتتاح، فمساحة المعرض كانت كخلية نحل طنيناً وحركة، فأصوات الناس ونقاشاتهم يمكن أن يكون تسجيل لصوتها كافيًا كعمل فني عن هذه المنحوتة الاجتماعية. كان جميع الزوّار يتواصلون ويتحدثون ويتناقشون ويضحكون ويختلطون ويتبادلون الأفكار ما بينهم وبين الفنانين. قليلاً ما يتم مصادفة هذه الدرجة من المرح والخفة واللارسمية في المساحات الفنية التقليدية الأخرى. 

 


مكان لمستقبل بديل: ربط معرض " المَرْفق" بتجارب عالمية أخرى

يمكن لهذه التجربة الفريدة إتاحة المجال لمناقشات هادفة ومثيرة للاهتمام في المستقبل. قد تتطرق تلك المناقشات إلى تغيير في طرق إنتاج الفن المعاصر. كما توفر هذه الإقامة الفنية-المعرض فرصة هامة للفنانين الشباب لتشكيل هيئات ومجموعات تنتج الفن بطرق غير اعتيادية. قد تكون هذه الفرصة بذرة لمعارض وأساليب إنتاج جديدة وغير تقليدية على مستويين: الفنّي والمؤسساتي. قد نشهد أيضًا المزيد من المشاريع الهادفة إلى توفير استوديوهات فنية في جميع أنحاء فلسطين.

نأمل الأفضل. ولكن لنفكر كيف حدث ذلك، كيف صممت هذه التجربة؟ في هذا المعرض التجريبي في ممارسته "التقييمية"، على الأقل محليًا، تحدد سلطة القيّم ما إذا كان يمكن اعتبار هذا "السياق الاجتماعي" أو عملية الإنتاج الفني معرضًا فنيًا. إلى أي مدى يحكم هذا التوجه الظروف المحيطة؟ من الضروري أن نفرق بين الرغبة القيمية لتحويل نشاط ما لازم لإنتاج العمل الفني إلى عمل أدائي وبين قدرة القيّمين على وصف شيء ما كمنحوتة اجتماعية/فنية بمجرد إدراجه في مكعب أبيض. 

بالتالي: تختلف رؤية الفنانين لأنفسهم ولإنتاجهم الفني في هذا المعرض عن قدرة القيّم على تحويل "عملهم" إلى عمل أدائي. لدى كلا الطرفين مصالح مختلفة. أحد الأمثلة الجوهرية حول هذا الموضوع ما حصل في بينالي ساو باولو الثامن والعشرين. كانت فكرة البينالي الأصلية هي خلق بينالي خالي من الأعمال الفنية -ولكنها تغيرت لاحقًا- رغم وجود العديد من المساحات "الخالية" لتكون مكاناً للتفاعل الاجتماعي في البينالي. "نفذ البينالي الثامن والعشرون، بعنوان "في تواصل مباشر" In Living Contact ، اقتراحًا راديكاليًا بإبقاء الطابق الثاني من المعرض pavilion  فارغًا تمامًا كحيّز مساحي مفتوح Open Plan، استعارة للأزمة المفاهيمية التي تعاني منها أنظمة البينالي التقليدية وتواجهها المؤسسات المنظّمة".

ادّعى بيان القيّمين أن تلك المساحات ستكون مساحات مخصصة للمحادثات والتدخلات الاجتماعية والفنية. وفي افتتاح البينالي نفسه، قررت رابطة فنية مشكلة من أربعين فنان غرافيتي تحت اسم PiXacao: Arte Ataque Protesto، القيام باستغلال هذه الفرصة و"بالتدخل" احتجاجًا على ديكتاتورية الفن وتسليع فن الغرافيتي عبر رش الحيطان بجمل مثل "هذا هو الفن" و "تحت الديكتاتورية". ظاهريًا، يبدو أن الفعل يتماشى تمامًا مع فكرة البينالي المطروحة، إلا أنه لم يمر دون عواقب، فتم لاحقًا توقيف الرابطة وسجنها وتغريمها. هذا مثال واضح على العلاقة ما بين سلطة القيّمين على المعرض وسلطة الفنان على إنتاجه. ماذا سيحدث إذا أدت الحوارات بين الفنانين أنفسهم والجمهور إلى فك معرض "المَرْفق" بأكمله وأخده إلى مكان آخر، أو مجرد إزالته؟ هل سيبقى مكعبنا الأبيض الفارغ معرضًا مفتوحا للزوار؟ ما الذي قد يغيّر "عملية" إنتاج الفن؟ هل سيكون من الممكن "تقييم" الفراغ؟ سيقودنا تسجيل وتوثيق هذه التجربة الفريدة ونهايتها إلى نقاش هام لاحقًا. لننتظر ونرى.