في خاتمة الكتاب، يقول غماري إن النتيجة الأساسية التي توصل إليها هي أن العلاقات العسكرية - المدنية إذا كانت منطلقة من مبدأ احترافية الجيش، فإنها بلا شك ستساهم في تقوية الدولة، سلطة ومعارضة؛ الأمر الذي سيسمح بتطوير حكومة ديمقراطية قادرة على وقاية البلد من الفشل، خصوصًا إذا كانت العلاقات العسكرية - المدنية مبنية على انقياد الضباط للسلطة المدنية طواعية.
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب طيبي غماري الجندي والدولة والثورات العربية، الذي يعرض فيه بتأن ومنهجية العلاقات العسكرية - المدنية في الوطن العربي خلال مراحل التحول. وقد أسس مقاربته على مسلّمة مفادها أن تشكُّل العلاقات العسكرية - المدنية في دول الربيع العربي يرتبط في الأصل بتاريخية هذه العلاقات في المراحل التي سبقت التحول؛ أي إن تصرّف الجيوش العربية بالأساليب المختلفة ليس إلا نتيجة أعوام طويلة من التسيير المختلف والمتباين للعلاقات العسكرية - المدنية في العالم العربي. وتقصّى الظروف والمظاهر التي تحكّمت في ردات فعل الجيوش العربية في مراحل التحول لفهمها، من خلال شبكة تحليل ربما تكون قادرة على تفكيك العلاقة بين العسكري والمدني؛ على نحو يمكّن من إدراك سبب التباين في ردات الفعل هذه.
يتألف الكتاب (216 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
أي علاقة؟
في الفصل الأول، "العلاقات العسكرية – المدنية"، يعرّف المؤلف العلاقات العسكرية - المدنية بأنها مصطلح يضم المظاهر التي تربط بين المصالح العسكرية والمجتمع والدولة التي ينتمي إليها الجيش؛ إذ إن مكانة الجيش ووظائفه تمثّلان البناء الأساسي للعلاقات المدنية العسكرية. وهي مكانة ووظائف يمكن تجسيدهما من خلال إدراك المدنيين للعسكر، ومدى توافق قيم الاحترافية العسكرية مع قيم واتجاهات المدنيين، والدور الاقتصادي للعسكر. وبهذا المعنى، تشير العلاقات العسكرية - المدنية إلى الحدود الفاصلة بين صلاحيات المصالح العسكرية والمصالح المدنية، وهي حدود تتحكم فيها المكانة والوظائف الموكلة إلى الجيش وأفراده، ضباطًا وجنودًا، علمًا أن تينك المكانة والوظائف ترتبطان على نحو خاص بتاريخية العلاقة بين الجيش ومسارات بناء الدولة. وبحسب غماري، تعتبر الجيوش العربية من أكثر جيوش العالم تورّطًا في الأزمات السياسية منذ سقوط الخلافة الإسلامية في صيغتها العثمانية إلى اليوم، "إلى درجة إنه يمكننا أن نجزم بأن ليس هناك حدود واضحة بين ما هو عسكري وما هو مدني في العالم العربي، حيث إن العسكري ليس مؤسسة منفصلة بشكل تام عن الحياة المدنية، وهذا ما تعكسه ردات فعل الجيوش العربية أمام الأزمات الحادة التي كوّنتها الثورات العربية منذ بداية عام 2010؛ فعلى الرغم من الاختلافات في ردات الفعل التي أبدتها الجيوش العربية في كل دولة من دول الربيع العربي، يبقى القاسم المشترك بين هذه الجيوش وجود علاقة خاصة بين العسكري والسياسي".
أي مقاربة؟
أما الفصل الثاني، "مقاربات العلاقات العسكرية – المدنية"، فيقول فيه غماري إنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أُنجز عدد كبير من الدراسات والبحوث المتمحورة حول العسكر وعلاقاتهم بالمدنيين، "وكانت الحصيلة شبكة من نظريات حاولت أن تضع تصنيفات لمختلف جيوش العالم، بناء على ردات الفعل التي تبديها هذه الجيوش أمام الحراك السياسي الذي يميز بلدانها". وفي هذا السياق يورد المؤلف خمس نظريات: نظرية هنتنغتون (الهدف الأول للسياسة الاحترافية للجيش هو تطوير نسق علاقات عسكرية - مدنية قادرة على ضمان الحد الأقصى من الأمن العسكري بحد أدنى من التضحية بباقي القيم الاجتماعية، مع المحافظة على الحياد)؛ ونظرية فاينر (خلفيات الجيش السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية هي التي تحدد أشكال ردات فعل العسكر على المثيرات الصادرة من الجهات المدنية، إضافة إلى شبكة معقدة من العلاقات بين المدني والعسكري)؛ ونظرية جانُوِيتز (مقاربة سوسيولوجية تنطلق من ضرورة إشراك العوامل الاجتماعية والثقافية في نشر ثقافة أسبقية المدني على العسكري، وتتعلق الاحترافية بعمل بيداغوجي يهدف إلى نشر ثقافة هيمنة المدني على العسكري، وخدمة العسكري للمدني بطواعية)؛ ونظرية مهران كامرافا (تصنيف ثلاثي للعلاقات العسكرية - المدنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: صنف الضباط السياسيين المستبدين، وصنف الملكيات المؤسسة على القبلية، وصنف الجيوش ذات التبعية المزدوجة)؛ ومقاربة زولتان باراني (جيوش البلدان التي مستها الثورات العربية أربعة أصناف: الجيوش التي وقفت مع الثوار كما في مصر وتونس، والجيوش التي انقسمت حول دعم الثورة كما في اليمن وليبيا، والجيوش التي قررت الحفاظ على الوضع القائم كما في البحرين وسورية، وجيوش الملكيات العربية المعزولة عن الحراك السياسي في مجتمعاتها).
أي تحليل؟
ينتقل غماري، في الفصل الثالث، "الشبكة التحليلية الشارحة: العلاقات العسكرية - المدنية في الوطن العربي"، إلى بحث العلاقة بين السياسي والعسكري في دول ثورات الربيع العربي؛ "حيث يبين لنا الواقعُ العربي أن الجيوش العربية تأثرت، في تشكيلها وتنظيمها، بتاريخية المجتمع وتركيبته، وبطبيعة النظام السياسي للدول التي تنتمي إليها. من هنا، كان كل جيش منها حالة خاصة، أنتجت ردات فعل خاصة عند قيام الثورات العربية". ويسأل غماري: "ما هي الأوضاع التي ساهمت في تشكيل الجيوش العربية؟ وما هي الشبكة التحليلية التي تفسر لنا ردات الفعل المتباينة للجيوش العربية أمام ثورات شعوبها؟". وهو يرى أنه يمكن الإجابة عن هذين السؤالين من خلال بناء شبكة تحليلية خاصة، يسعى من طريقها إلى فهم ردات فعل الجيوش العربية وتفسيرها، أمام الأزمات الحادة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2010. يضيف: "تنبني شبكتنا التحليلية على مسلّمات ونتائج توصلت إليها النظرياتُ السابقة. أولى هذه المسلّمات تتمثل في خصوصية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهذا وفق ما نبهتنا إليه بحوث جانُوِيتز ومهران. أمّا المسلّمة الثانية، فتتمثل في تأثر العلاقات العسكرية - المدنية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالأوضاع الخاصة بنظام الحكم أو بالمؤسسة العسكرية، وتأثرها أيضًا بأحوال المجتمع العامة، السياسية منها والاقتصادية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، إضافة إلى الرهانات والضغوطات المحلية والدولية، التي يقع تحتها العسكر والمدنيون على حد سواء".
أي ردة فعل؟
ويدرس غماري، في الفصل الرابع، "تحليل ردات فعل جيوش ثورات الربيع العربي"، حالة جيوش دول الثورات الخمس (ليبيا، ومصر، وسورية، واليمن، وتونس) حالة بحالة، من خلال التعريف بالجيش، انطلاقًا من إحصاءات عام 2010؛ لأنها تعبّر عن الحالة التي كانت عليها الجيوش المدروسة آنذاك. وعلى الرغم من توافر معطيات حديثة بشأن هذه الجيوش، تعمّد المؤلف تفضيل الانطلاق من هذه المعطيات؛ لأنها تصف حقيقةً حالة الجيوش التي طبّق عليها شبكة التحليل، ولا سيما أن هذه الجيوش تعرضت بعد عام 2010 لتحولات هيكلية كبيرة، مست المستويات الهيكلية والعددية والعتادية والعقدية. كما يبحث غماري في هذا الفصل حالة هذه الجيوش من خلال قياس علاقة الحاكم بمسارات بناء الدولة، وعلاقة الحاكم بالتعدد الإثني والطائفي، ثم ينتقل إلى تفكيك آلية الوقاية من الانقلاب التي يعتمدها النظام الحاكم، وانعكاساتها على دور الجيش ومكانته وقوّته نسبة إلى باقي أجهزة الدولة. ويدرس أخيرًا قياس ردة فعل الجيش على الأزمة التي أنشأتها الثورات في كل بلد، ونتائج هذه الاستجابة، وما ترتب عليها.
في خاتمة الكتاب، يقول غماري إن النتيجة الأساسية التي توصل إليها هي أن العلاقات العسكرية - المدنية إذا كانت منطلقة من مبدأ احترافية الجيش، فإنها بلا شك ستساهم في تقوية الدولة، سلطة ومعارضة؛ الأمر الذي سيسمح بتطوير حكومة ديمقراطية قادرة على وقاية البلد من الفشل، خصوصًا إذا كانت العلاقات العسكرية - المدنية مبنية على انقياد الضباط للسلطة المدنية طواعية.