ريم غنايم: التعدّدية في الأدب صارَت لزاماً على الخائضين فيه

2019-06-13 11:00:00

ريم غنايم: التعدّدية في الأدب صارَت لزاماً على الخائضين فيه

كلّ من اخترت أن أتعامل معه ترجميّاً تلبّستني روحه لفترة من الزمن، سواء كان ذلك عبر ترجمة قصيدة، أو مجموعة شعريّة، أو أعمال روائيّة. الترجمة تتطلب حالة من التركيز في الكاتب وعمله وهذا يجعلك تقع في حبّ الاثنين لبعض الوقت، ثمّ تتجاوز إلى المشروع القادم.

ريم غنايم، شاعرة ومترجمة وباحثة فلسطينية، من مواليد عام 1982 في باقة الغربية، حاصلة على اللقب الأوّل والثاني في مجالي الأدب العربي والأدب الأمريكي. في عام 2017 حصلت على دكتوراه في نظرية ارتحال المفاهيم ونشوء الهجنة الثقافية في مجال الأدب المسرحي.. تحديداً مسرح العبث. وهي تعمل محرّرة مشاركة في منابر أدبية ثقافية فلسطينية وعربية. كان لنا مع صاحبة «ماغ: سيرة المنافي» (2011)، وهو باكورة أعمالها الشعريّة، هذا الحوار حول الشعر والترجمة وأسئلة الأدب..

 

أنت مبدعة متعددة الاهتمامات، تترجمين وتكتبين الشعر والمقالة والدراسات النقدية حول الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، أين تجدين نفسك أكثر؟ وهل تفكرين بالانفتاح على أجناس أدبية أخرى؟

أنا، بطبيعتي، كائنٌ يختزن أصواتاً متعدّدة ومختلفة، ويؤمن بالذّات الوجوديّة التي تحاور ذواتها المتخيّلة. ثمّة هوّة كبيرة تفصلُ بين هذه الذوات وهذه الأصوات ولا يوحّدها إلّا خيط المساءلة والظّن والتّشكيك والقلق من العالَم. وهذا جيّد ومطلوب، خصوصاً إذ كان الشّعر يضرب جذوراً عميقة في هذه الذات ويتربع في ظلّ الأسئلة الأخرى التي تطرحها على الدّوام. أنا في جوهري شاعرة، وأفهم العالَم من خلال علاقة تواشجيّة تربط بين الشّاعر وسؤال الوجود وتؤصّل القلق فيه بهَدف الجَري اللامتناهي وراء المعرفة. من هنا، أجد نفسي في فضاء المفتوح والفلسفيّ والمبهَم والصّوفيّ.. فضاء الشّعر بصفته ذروة الأجناس الأدبية وحارسها الأمين، ومنهُ أعودُ إلى الوراء وأحيدُ مرّة يساراً ومرة يميناً، وفق المشروع والحالة والهدف والرؤية. التعدّديّة اليوم في حقل الأدب صارَت لزاماً على الخائضين فيه، خصوصاً ونحن نشهد ذوبان الحدود بين الأجناس الأدبية وانفراط عقدها المقدّس.

إلى أي مدى أثر تواجدك داخل الوطن المحتل على اختياراتك الأدبية والثقافية في حقول الكتابة والترجمة والنقد؟

هذا سؤال الحريّة والإبداع.. إذ كلّما ضاقَت بنا المساحات اتّسعت دوائر الإبداع. أعتقدُ أنّ ما مِن مكان يفجّر ألغام الإبداع أكثر من فلسطين بصفتها فضاءً مفتوحاً.. وبصفتها حالة عصيّة على المَوت.. تناشدُ الأفق المفتوح وتلهثُ وراء النّجاة.. وتجد فيها قلق المبدع أضعاف قلق من يعيش خارجَ سياق المكان ومآزقه. من هنا، تَشعر أنّها فضاء نفسانيّ يُثير غرائز اللذة والألم في نفس الآن..

مكانٌ مكلوم الجسد معافى الإرادة! هل يحتاج المبدع إلى مكان أكثر فرادة من هذا لينخرط فيه؟ فلسطين وطنٌ لا يزال في طور التشكّل، ولنا مكانٌ نطرح فيه رؤانا وتصوّراتنا لشكله وبنيانه. الاحتلال والوطن ورّثاني شكّ الحقيقة ويقين الخيال.. وهما عمدان الكتابة وركائزها.
 


صدر منذ أيام أول أعداد مجلّة "ضدّ: مع الأدب العربي الراهن"، والذي يحتوي على نصوص مترجمة من الأدب المكتوب باللغة العربية إلى العبرية، من تحريرك واختيارك وقسم منها من ترجمتك، أنت تعلمين أن أغلب الكتّاب والكاتبات العرب يرفضون أن تترجم أعمالهم إلى لغة الاحتلال. انطلاقاً من هذا الموقف الرافض أسألك ألا تخشين من اتهامك بالتطبيع الثقافي؟

سأجيب من النهاية: أنا فلسطينية قحّ، بثقافتي، وانتمائي ورؤيتي للواقع، وهويّاتي المتعدّدة التي مرّت تحوّلات جذرية في الوعي لا بأس بها، وقد اكتشفت مع السنوات أنّ لي نصيباً في هذه البلاد أكبر بكثير مما كنتُ أتصوّر، ومن هنا يتعمّق التزامي نحوها ومسؤوليّتي تجاهها وقد تجاوزت منذ زمن أيّ اتهام فاشل بالتطبيع.

أعمل في حقل الكتابة بأنواعها، وعلى وعي تامّ بمعضلة المكان الذي أنا جزء منه وهو جزء منّي. بصراحة شديدة، لم أجد نفسي يوماً جزءاً من هذا الموقف الرافض للتعامل ثقافياً مع الآخر، وأراه صرعة جمعويّة لا تسمن ولا تغني من جوع.

أرفض طريقة الحكم الغابويّة انطلاقاً من معجم الصواب والخطأ، والتهمة والإدانة. الفلسطينيون، من أصغر طالب صدقة في الشارع إلى أكبر المثقفين، مهمومون بشأنهم وبقضيّتهم ووحدهم القادرون على حلّ الأزمة. مثلي مثل أهل هذه البلاد، اكتسبت اللغة العبريّة في سن مبكّرة، وهي فعلاً نتيجة طبيعية وغنيمة حرب واحتلال. أحاول من خلالها أن أفتحَ الباب لمستقبل فيه شيء من التفاؤل وبعض من أمل ماتَ.

أرفض خلطَ الحابل بالنابل وتعميم خطاب سياسي أجندويّ على ما نفعله نحن في الحقل الثقافيّ. فارحمونا من هذه القسوة القاسية! شخصياً، لا أملك سلاحاً إلّا اللغة، ولا أخاطب "العدو"، بقدر ما أخاطب وأرى من يخاطبني ويراني بالمثل ويرجو عيشاً في مكان أفضل للأجيال القادمة من كلا الجانبين. نعم، أنا كائن محتلّ باسم المفعول، لكنّي لستُ ضحيّة! لقد فشل العرب والعالم كلّه في حلّ قضيّتنا، بل زادوا الطّين بلّة. ما العمل؟ نحتاج إلى البحث عن أنفاق أخرى تهدينا نوراً في آخرها.

على المجتمع الإسرائيلي أن يواجه خوفه، وأن يصحو من سكرة الرّقص والتطبيل لليمين المجرم، ويدرك أنّ الوقت قد حان للتغيير، وإلّا فإنّ القادم سيكون أبشع بكلّ تأكيد. أؤمن بحتميّة التغيير في وعي الناس وهذه عمليّة صعبة وطويلة ولكنها ليست مستحيلة وستحدث يوماً ما. الأجيال القادمة هي من ستحرر العقلَين، وأنا سأناصرها أملاً في النجاة من ظلمة المكان. أما تهم التطبيع ونحت العبارات والمصطلحات فهي دخيلة على قاموسي وسأردّ عليها متى وُجّهت إليّ وإلى كلّ كاتب يؤمن بعَدالة القضية الفلسطينية ويطمح مثلي في نجاة مستقبل أهل المكان.
 


كونك شاعرة لك إنتاجك وأسلوبك الخاص، كيف هي العلاقة بين الشاعرة والمترجمة في داخلك؟

علاقة تنافر وجذب لا بدّ منها. هل رأيتَ شاعراً جديراً لم يترجمُ كتاباً شعرياً أو نثرياً؟ الترجمة مشروعٌ معرفيّ يسعى نحو الاكتمال والرغبة في الانحياز للخارج.. نحو الآخر الذي يُكملك. هي الاندفاع الإنسانيّ باتجاه العقل وهو ما يحتّم شرط الاجتهاد، والتيقّظ والعمل المتواصل والبقاء بكامل الوعي في عملية استكشاف ذوات الآخرين. أما الشّعر فهو مشروع الهروب باتجاه الهشاشة، أو النقصان أو الانكسار وهي خواصّ النّفس البشريّة. من هنا فهو مشروع انحياز نحو الذات واستجلائها واحتفاء باللاوعي. وكلاهما شرطان جوهريّان في العملية الإبداعيّة.

هل هناك اعتبارات محددة لاختيارك للأعمال التي تشتغلين على ترجمتها؟ وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

بالتأكيد ثمّة اعتبارات ومعايير. كلّ عملٍ يقع عليه الاختيار تسبقه دراسة وبحث وقراءة وتفكير وتمرّن على الترجمة. أنتقي أصعب الأعمال الأدبية وأكثرها جدلاً لأني في حالة بحث دائمة عن كل ما قد يضيفُ ثقافياً ومعرفياً في حقل الأدب. في الترجمة، لا توجد عادات أو طقوس. تحتاج فقط إلى سكينة داخليّة وعزلة تامّة ساعات طويلة وعمل لا يشوّشه أيّ عدوان خارجيّ.
 


بين مقولتي "الترجمة خيانة" و"الترجمة اختلاف". أين تقفين؟ وهل توافقين الشاعر تي. إس. إليوت من أنّ على النصّ المترجم أن تعاد ترجمته كل عشر سنوات؟

الترجمة خيانة، الترجمة أمانة، الترجمة علم، الترجمة خيال، الترجمة اختلاف، الترجمة فكر، الترجمة معادلة رياضيّة، الترجمة انفتاح وانغلاق، مدّ وجزر، نقصان واكتمال، اختلاف وتشابه، حربٌ وسلام.. الترجمة هي المترجم. أبحث عن فكره وثقافته وخض معه سجالاً لا ينتهي حول معنى الترجمة. لا أستطيع أن أعطي تعريفاً ورؤية واحدة لها حتى لا أقعدها في زنزانة التعريفات.

ليس بالضرورة، هناك أعمال ساحرة تغوي المترجمين بنقلها مرّات، وهناك أخرى مُهلكة لا يمكن نقلها مرّتين. تخيّل مثلاً أن يأتي مترجم بعد عقد من الزمن ليعيد ترجمة رواية «الغداء العاري»، سأبتسم وسأشفق عليه، ففي منتصف الطريق سيكتشف فداحة القرار.

ترجمت «المدمن» للأمريكي وليام س. بوروز، وهي الترجمة الأولى عربياً لهذه الرواية، فكان عملاً مستوفيّاً لكل مقومات الصنعة والمتعة والفن والجمال. ماذا عنى لك هذا الكتاب على الصعيد الشخصي؟ وماذا عنى لك أيضاً من ناحية ترجمته؟

جاءَ اختياري لمشروع ترجمة أعمال الأمريكي وليام س. بوروز انطلاقاً من سدّ ثغرة في المكتبة الترجميّة العربية، فهل يُعقل أن يكون هناك كاتب اعتُبر الأب الروحي لأهم جيل أدبيّ وُلد في أمريكا وأحدثَ ثورةً جذريّة في مفهوم الأدب، ولم يتمّ نقل إلّا شذرات من أدبه؟

بوروز كاتب صعب. كاتب مستحيل. جلف العوالم، فظّ الأسلوب، شيء ما في كتابته يشبه وجهه الوجوديّ القاسي. لكنّه، كاتب فذّ، يأسرك بعناده وإصراره على أن يخدش حياءك الملفّق. لغته تُشهر مسدّسها في وجهك، فيها زخم شعريّ رهيب، مخلوط بقذارة القاع وحقيقة العالَم. هو بوهيميّ اختفى وراء الستار ولم يأبه بالنجوميّة، له فقاعة عصيّة على الاختراق. لا يمكنك أن تحبّه، ولا يمكنك أن تكرهه، يوتّرك وأنت تتعامل مع عوالمه الأفيونيّة ولغته العنيفة. خطير، وحادّ يشبه سمكة البيرانا تماماً. وقد عاملته بالمثل أثناء الترجمة.
 


صدرت ترجمتك لرواية "مكتب البريد" لتشارلز بوكوفسكي مع مقدمة مطوّلة من تحريرك. برأيك هل تحتاج بعض الترجمات لمن يقدمها للقارئ، ولماذا؟ ومن ثم أيّ تحديات واجهتك عند ترجمة هذا العمل؟

أنا عموماً ضدّ تقديم الأعمال الأدبيّة، فالأدب في رأيي يتحدّث عن نفسه بلسانه وعلى القارئ، ما دام اختار أن يقرأ عملاً ما أن يواجهه عارياً. لكن، من جهة أخرى، أخشى على القارئ أن يغرق أو يضلّ الطريق وهو يواجه عملاً ما صعب الهضم ودخيلاً على ثقافته، خصوصاً إذا كان العمل نفسه لم يتأصّل في النقد المحليّ إيجاباً، فكيف الحال وهو يرتحل إلى بيئة أخرى؟

أحياناً، نحتاج إلى مقدّمات أو خاتمات تفتح وتغلق دوائر مغلقة/مفتوحة وتضبط حيرة القارئ وتوسّع احتمال استجابته للعمل الأدبيّ. بوكوفسكي كلّه تحدّيات، بدءاً من كَوني "أنثى"، مروراً بأسئلتي حول مفهوم الأدب، وانتهاء بإشكالية أمانة النقل اللغوي للمعجم البوكوفسكي.

في عام 2015 صدر لك مختارات من الشعر الأفرو-أمريكي بعنوان "الموت في أرضٍ حرّة". كيف تنظرين إلى ترجمة الشعر؟ ما خصائصها؟ ومن ثم ما ردك على من يرى أنّ ثمّة قصائد من المستحيل ترجمتها من دون أن تفقد بعضاً من جوهرها؟

أوافق مائة بالمائة. لا يمكن لشخصين أن يترجما نفس القصيدة بنفس الروح ونفس المفردات وبالمقاربة ذاتها. الشعر فيه زخم وإيقاع ومساحة حريّة ومرونة ربّانيّة، ومن هنا، فهي تتيح المجال للتنافس على قلبه. ترجمة الشعر موهبة ومسطرة لغوية ودراسة. والأهم قدرة خلاقة على الخلق. لا يترجم الشّعر إلّا شاعر.
 


أيٌ من الشعراء والروائيين ممن ترجمت لهم أقرب إلى قلبك، ولماذا؟

كلّ من اخترت أن أتعامل معه ترجميّاً تلبّستني روحه لفترة من الزمن، سواء كان ذلك عبر ترجمة قصيدة، أو مجموعة شعريّة، أو أعمال روائيّة. الترجمة تتطلب حالة من التركيز في الكاتب وعمله وهذا يجعلك تقع في حبّ الاثنين لبعض الوقت، ثمّ تتجاوز إلى المشروع القادم.

أخيراً، ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجمين حالياً؟

صدرت من مدّة ترجمتي لرواية «الغداء العاري» لوليام س. بوروز، عن "دار الجمل". أعمل حالياً على ترجمة الرواية التي ألفها بوروز وكيرواك معاً ولم تر النور إلّا عام 2008. بالتوازي مع هذا المشروع، هناك مشاريع أخرى كثيرة، شعريّة وترجميّة، ستصدر في وقتها المناسب، ولها فرادتها التي سنتناولها لاحقاً.