يقف الراوي على هذه الطروحات وقوفًا عابرًا. كما لو أنّه يشير إلى النافذة من غير أن يشرعها، محاذرًا واقعًا شائكًا وملتبسًا، تحالفت فيه أشكال الطغيان كافة. هكذا يعود ذلك المحرر المهموم بإشكاليات ثقافية، إثر كل إثارة لفكرة ثقافية أو لغوية ما، إلى حكايتهِ مع رهام سمعان، والتي لا تتأخر حتى تدخل قوقعتهُ،
يلقي الروائي السوري خليل صويلح، في روايتهِ "عزلة الحلزون" الصادرة عن دار "نوفل/ هاشيت أنطوان" في بيروت، على الرواية مهمة تفكيك الأصول باستخدام مسبارين، أحدهما لغوي يبحث في شؤون اللغة، وآخر وراثي يبحث في شأن السلالة.
يلتقي مسعى الكاتب في الخطين اللذين اعتمدهما في نقطة واحدة أطلقت الحدث الآني، وارتدّت لقراءة الأزمان الماضية. حتى بدت الرواية برمتها، محاولة نجاةٍ من تلك "القسوة" التي لطالما أُلقيت على بطل الرواية وسلالتهِ أو نتجت عنهم. ويبدو عرض صويلح لحياة بطلهِ تفكيكًا لتلك الحياة، حتى الوصول إلى إدراك أيّهما يخفق في صدرهِ، قلب الطائر أم قلب الذئب؟ أيّهما يشكل هوية المحرر في دار النشر والموقع الإلكتروني، الرغبة في الاصطياد أم استكانة الضحية. تنازع رغبات متفاوتة للبطل في الرواية، يعيش حياته في نموذجين متباعدين. كأن حياته المرتابة قد مضت في المسافة ما بين أتوستراد المزة، حيث يعمل في موقع إلكتروني ويكشف الكاتب عبر عملهِ الفساد الثقافي في سورية، في صحافتها واستخداماتها. وبين حي البرامكة، حيث يعمل محررًا في دار نشر للكتب التراثية، بمهمة مؤرقة، تكشف واحدًا من أبعادٍ تصدّى لها هذا النص. إذ يعمل المحرر على "تشذيب اللغة" القديمة، ما يعني، ضمنًا، ترويض غوايتها كي تؤالف الواقع المستبد.
تشكو رهام سمعان في رسالة إلى المحرر من قسوتهُ، فيما يجول بين عالمين متناقضين في الظاهر، ومتشابهين في الجوهر، حيث يشهد تزوير الحاضر في الموقع الإلكتروني وتزوير التاريخ في دار النشر. تبعث مفردة القسوة داخله رغبة في أن يرد التهمة عنه، بإصرار راح يكشف إرثه، تدين الرواية تمجيد العنف، وبهذا تدين العنف نفسهُ. من قوقعة، هي اللغة، تصفها زوجة المحرر بالبائسة، ويصورها على أنّها "مكان الإقامة". ينطلق في الدفاع عن لغةٍ أسالوا الدم من حروفها، حتى صارت لغةً تعتني بوحشية القاتل، وتهمل أحاسيس القتيل.
من عزلتهِ يستمر في الكيد بالواقع المأزوم، باستخدام نماذج كثيرًا ما نراها في الحياة الثقافية السورية. إذ نجد رئيس تحرير جاهلاً ودخيلاً يحمل دكتوراه فخرية، وحشدًا من الكتبة يكتبون باسمه، مبرر وجودهِ تبييض أموال لأشخاص يتبدلون في ظل سلطة لا تتبّدل، ضباط سابقون أو مستثمرون شكليون ينحدرون من سلالة قتلة. إلا أنّ الخراب السوري الراهن يظهر، إلى جانب المقالات في الموقع الثقافي وتعقيبات الراوي عليها، في مشهديات عن مدن منهوبة، طالتها الحرب والرايات الكثيرة المتصارعة. يقابل هذا التصور حديث الراوي عن الهويات الكبرى التي راحت تُطوى تحت دثار هويات صغيرة وعصبيات. ما برحت الحرب تفرزها وتكرّسها.
يقف الراوي على هذه الطروحات وقوفًا عابرًا. كما لو أنّه يشير إلى النافذة من غير أن يشرعها، محاذرًا واقعًا شائكًا وملتبسًا، تحالفت فيه أشكال الطغيان كافة. هكذا يعود ذلك المحرر المهموم بإشكاليات ثقافية، إثر كل إثارة لفكرة ثقافية أو لغوية ما، إلى حكايتهِ مع رهام سمعان، والتي لا تتأخر حتى تدخل قوقعتهُ، من خلال عملها على ترجمة كتاب "موجز تاريخ الأرداف" من الفرنسية إلى العربية. فيما تجنح هاربةُ من مصيرها راهبةً، إلى نظريات الفيلسوف ميشيل أونفري، وتسلك سلوكًا مقتضاه أنّ مواجهة الواقع تكون "مواجهة حسية". ولتضع اللغة العربية أمام شرخٍ عسير، يعرفه المشتغلون بالترجمة، خصوصًا إزاء ترجمة كتاب يفلسف المتعة، يقترب من الجسد حد تعريتهِ.
يذكر الراوي أنّ "لكل حكاية سرها"، بالمثل إذا بحثنا عن سر "عزلة الحلزون" فإنّنا نرى الكاتب يبحث خلف طبقات الكتب والمجتمع عن مفهوم واضح من غير أن يَذكره، إنّ الكاتب يبحث عن "الأصالة"، شاكيًا غيابها. يُجرّب أن يعيد الحقوق لأصحابها بينما يعيد الناس لأنسابهم إما نقضًا أو استعادة. يتضح هذا السعي لدى الكاتب في قصة الكاتبة سهام رشيد والتي ألّفت كتابًا سوف تسنده إلى صاحبة صالون تجميل. بحسب ما يصلنا من قراءة الراوي لكتابها، فإنّه يمثل مشرحةً شيّقة للجو الثقافي في دمشق، انطلاقًا من حانة قرب جسر فيكتوريا. تذخر الرواية بعناوين كتب التراث ويعرض صويلح جانبًا يوظفه في سياق نصهِ من سيرة ابن رشد ويوسف العظمة وغيرهم، فيما يسعى إلى تجميع حكايا عن المحرقة والخوف والزيف.
لا يُسائل خليل صويلح التاريخ وحسب، وإنّما يُسائل الكتابة بذاتها. عبر أسئلة شتى حيال التاريخ الرسمي والمرويات، إلى جانب مهمات يلقيها على الكتابة ودورها. ما جعل نصه نصًا تركيبيًا، تتدافع في فضائه مقولات متعددة للوصول إلى القارئ. يضع القارئ تساؤل الراوي "هل التاريخ هو نوع من النسيان؟" مقابل تساؤله الآخر "أليست الكتابة تصفية حساب مع الذاكرة لمحو آثام الأمس؟" وما بين هذين التساؤلين، نلمحُ الكاتب وقد اختار عزلة داخل اللغة، كما لو أنّه مرمي في النسيان يسعى إلى التقاط ما يسقط عن السرديات الرسمية. ولنجد المحرر الذي قد قرأنا حيزًا من حياته ليس مجرد "مدقق لغوي"، إنّما باستخدام هذا الاصطلاح فقد جعل الكاتب اللغة تنتصر لذاتها عبر هدم الواقع وتحطيم صورته.