عن رفيقي اليساري والعلماني والذكوري

2019-07-09 16:00:00

عن رفيقي اليساري والعلماني والذكوري
VESSEL OF GENEALOGIES, FIRELEI BÁEZ

إذن، مناضلنا الشاب ليس يسارياً فقط بل ويُشهرُ علمانيته على رؤوس الأشهاد فلماذا لا تزال هذه العاهة الذكورية تعشِشُ في وعيه أو في طبقات دفينة في لاوعيه؟ كيف يمكن أن يجمع ما بين العلمانية ومعاداة المرأة؟ 

هنالك فكرة سائدة تقول بأن أهل اليسار هم عموماً من دعاة حقوق المرأة ومن مناصري حقوقها المشروعة ولكن… في يوم الثامن من آذار الماضي، فوجئتُ بكلمة تحية يوجهها أحد الرفاق إلى النساء في عيدهن، تحية أعادتني إلى الوراء لعشرات السنين حين كنتُ مقاتلاً شاباً ومُرافقاً لمناضل مُسن في تنقلاته وجولاته، تلك الجولات التي كان آخرها يتمثل بزيارة بيوت مخيم "برج البراجنة" لدعوة العائلات للسماح لبناتها البالغات بالالتحاق بفرق الحماية للمخيم بفعل خلوه من معظم قواته المقاتلة المُستنفرةِ على جبهات الشياح/عين الرمانة.

صدمتي حينذاك كانت لاكتشافي بأن المناضل العتيد يمنع إحدى بناته من الالتحاق بهذه النشاطات فيما هو يقوم بدعوة الآخرين للسماح لبناتهم بالمشاركة في جهود المقاومة. لقد كانت هذه الحادثة/الصدمة ذات وقعٍ كبير في نفسي وما كان لذاكرتي إلا وأن تستحضرها بعد قراءة هذه "التحية" الملغومة من قِبَلِ رفيق جديد، يساري وشاب وذي قُدراتٍ مُبَشرة في حقول العمل والتنظير السياسي في القضايا الفلسطينية والسورية.

بعد القراءة السريعة أعدتُ قراءة النص القصير من جديد وكان يساورني سؤال مقلق: كالمناضل اليساري المُخضرم في السبعينات من القرن المنصرم، يعود المناضل اليساري الشاب في  ٨ آذار ٢٠١٩، لكي يُشير ومن جديد بأن الفكر اليساري لا يزال منخوراً بسوسة الثقافة الذكورية وكأنها قدرٌ محتوم ولا مفر من الخضوع لالتزاماته وأحكام قيمته المُلزِمة.

إعادة قراءتي لتحيته للمرأة في عيدها بنكهة ذكورية عدوانية كانت تتناقض بالكامل مع ثقتي به بل وتعويلي على دورٍ نضالي وفكري واعد لهذا الشاب اليساري. في الشأن الفلسطيني، كان اتفاقنا شبه كلي في ضرورة صياغة اقتراح سياسي فلسطيني، ديمقراطي وعلماني لفلسطين الغد. اقتراح يقوم على المبدأ العلماني في فصل الدين عن السياسة والدولة وذلك ليس لمخاطبة الفلسطيني فقط بل "الآخر" اليهودي المُؤسرَل المُتخلص من صهيونيته ولذلك الذي لم يتخلى بعد عن هوسه التوراتي المُتصهين.

إذن، مناضلنا الشاب ليس يسارياً فقط بل ويُشهرُ علمانيته على رؤوس الأشهاد فلماذا لا تزال هذه العاهة الذكورية تعشِشُ في وعيه أو في طبقات دفينة في لاوعيه؟ كيف يمكن أن يجمع ما بين العلمانية ومعاداة المرأة؟ 

في "عيد المرأة" يُوجه رفيقنا بتحياته إلى "نساء ورجال العالم"… ما مغزى إقحام الرجال هنا وهم رمز لنظام أبوي ذكوري مضاد للحقوق النسوية الأساسية؟ باسم قيم المجتمع الذكوري يقوم هؤلاء أو البعض منهم بقمع النساء وسلبهن لحقوقهن ولحرياتهن. ألا تستحق النساء تحية خاصة بهن دون هذا الإقحام القسري لرجال في عيدٍ ليس لهم؟ هل الحضور النسوي بحد ذاته غير ممكن إن لم يكن معطوفاً على حضور ذكوري يُقاسم النساء عيدهن. هل الرجال الأشاوس هم على هذه الدرجة من الأنانية الطفولية لدرجةٍ لا يتخيلون فيها النساء قادرات على الاستمتاع بعيدهن دون أن يكون لهم حصتهم من كعكة العيد؟

العبارة اللاحقة في تحية رفيقنا اليساري قد تكون مُصاغة لتبرير هذه المشاركة القسرية للرجال، ثقيلة الدم والمفروضة فرضاً وبدون دعوة، وذلك لأن "الرجال كما النساء يواجهون قوى القمع وأوضاع اللاعدالة" ولذا، فهم يستحقون مشاركة النساء في عيدهن وتوجيه التحية لهم كما لهنّ. هذا التبرير للخلط ما بين الحابل والنابل يكشِف عن عمق قناعاته الذكورية إذ لم يستطع ملاحظة الاختلاف النوعي ما بين القمع الموجه للنساء عنه للرجال. حريٌ عن القول هنا بأن النساء يتعرضنَ للقمع ولاستلاب الحرية والتعرض لأوضاع اللامساواة في مختلف المجالات وهذه هي حقيقة شمولية في بلدان وثقافات متنوعة ولا تقتصر على هذا البلد أو ذاك، فقمعهن وإنكار حقوقهن لا يُقارن لا كمياً ولا نوعياً وليست قضية عدم التساوي بالأجور على المستوى الدولي إلا الدليل القاطع على هذه اللامساواة ولذا، كيف يمكن الحديث عن تساوي الرجال والنساء في التعرض لأوضاع القمع واللاعدالة! 

المثال الآخر، كيف يمكن الحديث عن تساوي الرجال والنساء في فلسطين في المعاناة اليومية ؟ فإذا عانى الرجل كما المرأة من سياسات الاحتلال والأبارتهيد الصهيونية وعلى نفس الدرجة من العنف الاستعماري القاتل، تظلُ المرأة إضافةً إلى هذه المعاناة المشتركة مع الرجل، تعاني من القمع المجتمعي فيما لا يخضع الرجل إلى هذا النوع من القمع. إهانة الفلسطيني رجل وامرأة على حواجز الاحتلال يُضاف لها سلسلةٍ من الإهانات الاجتماعية التي تتعرض لها المرأة من مجتمعها الأبوي الذكوري وقد لا يقل التدمير والأذى الذي يلحقه هذا العنف الأخوي، الزوجي والأبوي عن عنف المستعمر في آثاره التدميرية للكرامة النسائية. هناك بالطبع نساءٌ تُقتل على يد الجنود والمستوطنين القتلة كما يُقتل الرجال على يد هذه الأيد المجرمة ولكن لا يُقتل الرجال لجريمة شرف اقترفوها بينما تُقتلُ النساء على شبهات بـ"اقتراف جريمة الإخلال بشرف العائلة" لكي تُعالج بجريمة فعلية فادحة. "جرائم اللاشرف" المأساوية في فلسطين هي الدليل القاطع على زيف ادعاء الرفيق العتيد بتساوي الرجال والنساء أمام اللاعدالة والعنف.

قراءتي لهذا النص الذكوري بامتيازٍ فاقعٍ دون مواربة أو مناورة أدخلت على قلبي مشاعر بالحسرة ولم يكن يخطر بذهني سوى عبارة الاستنكار التالية: "حتى أنتَ يا بروتوس؟"

يواصل المناضل اليساري نصه لكي يعلن وبصراحة بأنه "لا يحب مثل هذه الأعياد التي فقدت معناها" من وجهة نظره وهي فقدت معناها لأن "القمع ليس قمعاً للنساء فقط بل للمجتمع برمته" (استبدل هنا الرجل بالمجتمع) وهذا الاستبدال يجعل من المجتمع المذكور هو المجتمع الذكوري، وهو بالفعل مجتمع ذكوري الثقافة والعُرف والتقليد. وهكذا، لم يكن هذا الاستبدال إلا تكراراً لا يُقدم الجديد (رجل = مجتمع ذكوري). وضمن هذه المقاربة الاجتماعية الكلية تختفي من جديد خصوصية المعاناة النسوية وخصوصية نضالات النساء من أجل تقرير مصيرهن ونيل حريتهن وتحديداً حريتهن بامتلاك أجسادهن حصراً، أجساد تمتلكهن النساء وليس ملكية مشاعية للنظام الاجتماعي الذكوري الكلي. 

إن إنكار هذه الخصوصية النسوية، خصوصية القمع الذي تتعرض له النساء كنساء وليس كفرد اجتماعي مجرد يتعارض مع الواقع وحقائقه الساطعة والمأساوية: في المجزرة التي ارتُكِبَتْ في معهد البوليتكنيك في كندا ، قام القاتل بفرز الذكور عن الإناث لقتلهن فيما لم يقتل ولو طالباً ذكراً واحداً. عصابات الـ"بوكو حرام" اختطفت المئات من طالبات المدارس الثانوية ممن تعرضن للقتل والاغتصاب والتزويج بالقوة فيما لم تقم هذه العصابات القروسطية باختطاف طالب ذكر واحد.

في أفغانستان، تتعرض الفتيات للخطف والقتل وعلى الزواج الإجباري. في حروب البلقان وفي مجازر "راوندا" وفي الهند وفي الحرب السورية، تعرضت النساء للخطف والقتل والاغتصاب.

 إن محاولة القفز عن هذه الحقائق الدامغة عبر جعل الجريمة الموجهة للنساء كجريمة "عادية" وكأنها كأي جريمةٌ  أخرى لا جنس ولا هوية جنسية لها وبدون دافع قائم على جنس الضحية… إنما هي محاولة بائسة لإلغاء معاناة النساء بل وإنكار هذه المعاناة الخصوصية وخصوصيتها تُستمدُ من الهوية الجنسية للضحية وليس من الضحية المجردة.

إن استلاب حرية النساء وقهرهن وإفقادها لحقوقهن الأساسية هي جرائم لا يمكن"إذابتها" والتخفيف من هولها عبر تقديمها ضمن سياق الجرائم المألوفة والشائعة والتي تُفقدها كل تميُز وبالتالي يجري تمييعها  وكأنها قدر محتوم ولا مرد له وما على النساء إلا أن يعزيّن أنفسهن بهذه التعميمات التي لا يمكن أن تُخفي فداحة القمع الذي يتعرضنّ له لكونهن نساءً بالدرجة الأولى.

الرفيق المثقف، اليساري والماركسي وصاحب التحليلات السياسية رفيعة المستوى لم تُسعِفه ذكوريته لكي يكتب في الشأن النسوي تحليلاً على نفس الدرجة من الدقة والفطنة لكتاباته في الشأن السوري والفلسطيني، فلماذا هذا الفشل الذريع؟ ولماذا يختار يوم الثامن من آذار لبث هذه السقطة المريعة؟ هل انتصر"الذكر"على"المثقف اليساري" لكي يُنتج موقفاً رجعياً بامتياز. لماذا يحاول منع المرأة من التمتع بيوم عيدها حاشراً ذكوريته في موقع ليس له مكان فيه؟ لماذا لا يتخيل النضال النسوي كجزء عضوي من النضالات الاجتماعية مع احتفاظ هذا النضال بخصوصيته المميزة إذ لا تعارض ما بين هذا وذاك. وهنا، لا بدّ وأن نذكّر الرفيق اليساري بأن المرأة الجزائرية خاضت نضالاً شرساً جنباً إلى جنب مع الرجل في حرب الاستقلال والتي أسفرت عن بناء الجزائر المتحررة من نير الاستعمار، ولكن قام المجتمع الذكوري باستبعادها ورفض مشاركتها بقطف ثمار هذا النصر المبين لكي يعيدها إلى مواقعها التقليدية دون حقوق تليق بحجم تضحياتها.

دولة الاستقلال وبدلاً من الاعتراف بفضل المرأة وبمشاركتها الواسعة في النضال قامت بسن "قانون العائلة" المُجحِف بحقوق النساء والمُحوّل لهن إلى كائنات تابعة للسلطة الأبوية والذكورية عموماً (ما يجري تداوله حول المرأة التي حَوَلّها هذا القانون إلى قاصر ودون شخصية قانونية مستقلة مما قد يضطرهُا لاصطحاب طفلٍ ذكر بالغ أو حتى غير بالغ للعب دور الوليّ عليها للقيام بمعاملة إدارية ما، والأمثلة لا حصر لها).

رفاق الدرب الذكور في جبهة التحرير الوطني الجزائري بِسنّهم مثل هذا القانون القمعي والرجعي المضاد لمصالح جمهور النساء لم يكونوا بجاهلين للجهود البورقيبية لتحسين شروط النساء فالبعض منهم كان يعيش في تونس والتي شهدت إقرار"مجلة الأحوال الشخصية" والتي كانت على درجة متقدمة مقارنة بالنص البائس لقانون العائلة الجزائري، ذلك القانون الذي عادت النضالات النسوية في الحراك الثوري الجزائري الحالي لطرحه كشعار مركزي للنضال. اليوم ، الكنداكات السودانيات والمناضلات النسويات الجزائريات ضد "قانون العائلة" هما شرارات الربيع العربي المتجدد.

وهكذا، كيف يمكن للرفيق اليساري إنكار هذه النسوية المتمايزة في شعاراتها وفي أشكال نضالها وإن هي شكلت جزءاً عضوياً من حراك ثوري مجتمعي عام؟

لتذكير الرفيق العزيز،  يجب أن أقول له إن جذور "الهيمنة السياسية للذكورة" هي ما  يمكن لنا أن نستشرف بواسطتها تناقضات الخطاب "الديمقراطي" والتي تحملُ في رحمها جذوراً تتنافى مع مبادئ الديمقراطية الحقة ومع اشتراطات العلمانية السياسية الفاصلة ما بين الدين والدولة إذ ليس هناك من ديمقراطية حقة في ظل استثناء النساء من حقلها وليس هناك من ديمقراطية حقة دون علمانية فاصلة ما بين النظام السياسي (الذي تُجسده الدولة) و"الشريعة" الدينية المُدّعية بأحقيتها في تنظيم شؤون الدولة والمجتمع.