«جنازة جديدة لعماد حمدي».. شجرة الحكايات

2019-08-01 12:00:00

«جنازة جديدة لعماد حمدي».. شجرة الحكايات

هكذا يلاعبنا الطويلة بعوالمه وحكايته العجيبة الضاحكة الباكية، ينقّل ضمائر السرد ويراهنك أنك ستنصاع لغواية الحكي، يكتب نصاً كروائي تغلبه روح الحكّاء، وتسبقه خبراته في العمل كضابط شرطة قبل سنوات طويلة، ليقتنص من عوالم الإجرام أوجهها الصالحة للسرد، لا لمضاهاة الواقع، وإنما لمضاهاة الدنيا كما يراها وحيد الطويلة.

مضى وحيد الطويلة على نهجه المعتاد، وذيّل روايته الأحدث «جنازة جديدة لعماد حمدي» (الشروق، 2019) بقائمة تحمل أسماء المقاهي التي كتب فيها المخطوطة الأولى للرواية، وجنازة عماد حمدي الجديدة رواية بنت مقاهي بحق، تشبه جلسة في "فسحة" معشّبة، مع الشيشة والسمير والشاي أو القهوة أو كيفما تريد، ويتخلل تلك الجلسة جداول نميمة ممنهجة، روح سرد وحيد الطويلة التي تميل إلى المشافهة والدعابة، لذلك توسّل حيلتين تسمحان له بالغوص أكثر في حكاياته، دون أن يتيح للقارئ فرصة للاستيعاب إلى أين تمضي الحكاية الأم. استعان الطويلة بالنسيان، والكذب، النسيان الذي جاء واضحاً في هفوات ذاكرة الراوي، والتي يعتذر عنها كل عدة صفحات ثم يعود لتصويب حكايته وتوجيهها إلى مسار آخر. أنت في قرية نمل، الحكايات تتكاثر انشطارياً، لذلك كان لا بد من بعض الكذب -النخع باللهجة المصرية- أي إضفاء بعض البطولات الكاذبة على الحكايات، إضافة بعض التوابل، انتزاعها من منطقها الواقعي إلى منطق آخر داخلي يتذّرع بحلاوة اللغة والتدفق وخفة الدم لجعل تلك الحكايات المؤسطرة -والمستمدة من جذر واقعي ثم تشرد بعيداً عنه- مهضومة وقابلة للتصديق.

استخدم الطويلة آليات بسيطة لترسيخ الحس بالمشافهة، كلمات مثل "اسمع" أو "صدقني"، تحيل القارئ فوراً لهذا الإحساس بالدردشة الحميمة، تذيب المسافات، لذلك جاءت لغة «جنازة جديدة لعماد حمدي» ميّالة لروح الشارع، لغة مخففة، تستعيض عن الفصاحة بالتدفق، وعن الإكراهات اللغوية بنزعة شعرية خافتة تسم كل كتابات الطويلة. بل وتذهب أحياناً إلى الاقتباس من قاموس الأغاني الشعبية، والاقتباس من قصيدة "مش باقي مني" لجمال بخيت.

اختار الكاتب منطقة، قابلة لاستخراج "خام الأسطورة"، يسهل تحويل حكاياتها إلى ملاحم جنونية، باكية أو ضاحكة، عبثية أو عجائبية أو تنتهي بلحظة تنوير، عجنها بأسلوبه الضاحك الشاعر المجنون. إنه عالم المسجّلين بفئة "خطر"، المجرمين الذين لا يمتنعون عن الجرم مهما عوقبوا، أولئك الأوفياء للجريمة كما لو كانت غاية لا وسيلة، وهذه جدلية طرحها الكاتب في سياق حكاياته. المجرمون وأنواعهم ودوافعهم لارتكاب جرائمهم المتنوعة.

علاقة شائكة وطويلة تجمع بين الباشا "فجنون"، الضابط الفنان المجنون، وناجح، ملك جمهورية "المرشدين"، أدلاء الشرطة في الشوارع الخلفية للجريمة، والذي جمع بين الحقلين فبات كبير المرشدين وكبير المسجلين بفئة خطر من تجار السلاح والمخدرات والبلطجية الشبّيحة. تبدأ الرواية بينما يتوجه الباشا المتقاعد فجنون إلى العزاء الذي أقامه ناجح لابنه "هوجان" المعلم الواعد الذي اغتيل غدراً وقاتله مجهول. والمدهش أن الرواية تنتهي أيضاً بينما لا يزال فجنون في طريقه للعزاء. لكنها تنتهي بشكوك متبادلة عندما يحال فجنون إلى المعاش ويشك في ناجح، بالتزامن مع مقتل ابن الأخير الذي يشك بدوره في فجنون.

خدّر وحيد الطويلة الزمن، واختار أن يصوّر فيلماً سينمائياً بروح مصور فوتوغرافي. الرواية هي سلسلة طويلة من البروفايلات والبطاقات للمسجلين، يتخلل ذلك السرد روابط طفيفة تدفع الحكاية للأمام، في البداية نرى شكوك الضابط من انتقام ناجح من الكل، هواجسه، شكوك الضابط حول شكوك ناجح في هوية قتلة ابنه، مع الكثير من الاستعادات، التي تجعل مضي الحكاية الأم إلى الأمام ثقيلًا وبطيئًا، لصالح تدفق سردي هادر (إلى الأجناب وليس إلى الأمام)، حكايات طريفة وشخصيات نادرة لا يربطها بالواقع سوى الانطلاقة الأولى للرواية، قبل أن تسمو فوق مستوى الواقع، وتلامس بروحها الشعرية ومنطقها الداخلي الفكاهي مستويات فوق واقعية.

يقول الراوي عن علاقة المعلم ناجح بابنه هوجان: "إذا كنت تريد أن تعرف علاقة ناجح بابنه فلا بد أن تعرف الحشيش، معنى الحشيش لا شكله، متى يخزن وكيف؟ الأغبياء الذين يخزنونه بغشم كبير يتركونه حتى يجف ويصير طوباً، لا يعرفون أن روحه تضج من المكان الكتيم فتطير، لا يتبقى منه سوى رائحة بسيطة تخدع المشتري، مع أنه لو عاش وخرج للحياة سيطير ويطير، لا يعرفون أنه يفقد زيوته الطيارة، يفقد روحه وصوته بأفعالهم فيصير مثل كتلة حجر جامدة لا تنطق ولا تصيح. ناجح هو الحشيش، وهوجان هو الزيوت. ناجح هو المادة الخام، وهوجان هو الروح والرائحة".

ورغم هذا المنطق الداخلي للحكايات، الذي يتعكز على الواقعة فقط في لحظة الانطلاق، إلا أن الطويلة، يسخر من الواقع بإلقاء غمزات متفرقة، فيقول عن هوجان ابن ناجح: "لم يعد يذهب إلى المباحث، هي من تأتي إليه، ينقل من ينقل ويعيد ترتيب الوظائف كيفما يشاء، وتعدت سمعته حدود الوطن حين توسط لتعيين موظف ملحقاً إعلامياً في إحدى السفارات بالخارج. سمعته طيبة، وجه شاب يليق بمرحلة تمكين الشباب في الدولة".

ثم أتى الكاتب بحيلة أخرى، إذ سيحتار القارئ في رصد الراوي، هل هو فجنون؟ ولماذا يحكي عن نفسه بصيغة المخاطَب، ثم ينتقل إلى كسر الإيهام البريختي وإقحام القارئ طرفاً في اللعبة، بل إنه يتمادى فيستعير افتتاحية إيتالو كالفينو الشهيرة في روايته "لو أن مسافراً في ليلة شتاء"، كتب الطويلة مفتتحاً الفصل الثاني من شجرة الحكايات: "احترس أيها القارئ.

قف مكانك.

 ثبّتْ قدميك في الأرض جيداً، اِسحَب نفساً عميقاً، املأ رئتيك عن آخرهما كما يفعل الهنود حين يأخذون أنفاساً طويلة كي تعمل المناطق النائمة غير المستعملة في رئاتهم.

الأمر يستحق، أنت مُقدِم على تجربة تستحق المخاطرة، لن تتكرر في حياتك.

قلت لك قف مكانك، إذا فكرت ألا تدخل وتعود من حيث أتيت لن ألومك، لن يلومك أحد، لن يسخر منك بنظرة أو يهزأ بصوت، ولا يجرؤ. حذرتك، حتى لا تأتي يوماً وتقول إنني لم أفعلها، غررت بك أو دهنت لك الأرض صابوناً. 

لا يعنيك أن تعرف من يتحدث معك، الراوي أم الضابط، أنت في شأن آخر.

أنت الآن أمام باب سرادق لعزاء موجع، عزاء نجل كبير المرشدين والبصاصين والمخبرين على مستوى القطر كله."

يتلاعب الطويلة بالراوي، يتكتك على الزر في آلة السرد، وينقل القص بين الـ"أنا" والـ"هو" والـ"أنت" بهدوء ونعومة متجاهلاً بشكل متعمد بعض الحسابات النقدية والتنظيرية، منصاعاً تماماً لشيطان الفن، دفقات لغوية عاتية تشبه لحظات النيرفانا لفنان تشكيلي يضرب بفرشاته عشوائياً مؤمناً أن شيطان وادي عبقر سيقوده ويلهمه ويملي عليه.

إمعاناً في التجريب، وانصياعاً للميل الطليعي في النص، يختتم وحيد الطويلة روايته الأحدث «جنازة جديدة لعماد حمدي» بحيلتين، الأولى متمثلة في قطع سردية قصيرة، مغلقة كوحدات فنية شبه مستقلة، تصلح كقصص قصيرة، لكل منها عنوان وحكاية تتماس مع عالم الرواية ولا تتقاطع أبداً بالحكاية الكبرى. يمكن حذف تلك الحكايات بسهولة، يمكن حذف أي حكاية بسهولة، وهذه الفيدرالية الفنية إن صح الوصف، تقول بجلاء إن الهدف هنا كان تقديم هذا النوع شبه الكولاجي من الحكايات، شيء شبيه بوصف الراحل خيري شلبي لرواية "الفاعل" لحمدي أبو جليل: "أبو جليّل صرّ عالمه كله في منديل محلاوي وربطه حول رأسه ثم فرطه أمامنا كيفما اتفق". والمنديل المحلاوي هو تقليد ريفي منقرض، إذ كان الفلاح يضع الخبز وفتات الطعام فيه ويلفه حول رأسه ثم يفتحه في الاستراحة ليأكل الفتات المعجون فيه.  

هكذا يلاعبنا الطويلة بعوالمه وحكايته العجيبة الضاحكة الباكية، ينقّل ضمائر السرد ويراهنك أنك ستنصاع لغواية الحكي، يكتب نصاً كروائي تغلبه روح الحكّاء، وتسبقه خبراته في العمل كضابط شرطة قبل سنوات طويلة، ليقتنص من عوالم الإجرام أوجهها الصالحة للسرد، لا لمضاهاة الواقع، وإنما لمضاهاة الدنيا كما يراها وحيد الطويلة. أو كما جاء في النص: "خلق الله الناس ذكوراً وإناثاً، لكن الناس حوّلوها إلى ذكور وإناث ومرشدين للحكومة. ومرشدات أيضاً".