بعيداً عن الإسقاطات الوجودية للرواية وتناولها للإنسان الغربي المعاصر وأزمته النفسية وما حدث له إثر الحرب العالمية الثانية، لنأخذ الحكاية في مستواها الأول كأحداث قصة حمامة تأسر رجلاً ثم تطرده من بيته. قصة تنبهنا إلى ضرورة التريث قبل الاستسلام للمعتاد واليومي والمعروف والأليف، فما يبدو بريئاً ليس كذلك دائماً.
يطير حمام كثير في سماء الانتخابات التونسية اليوم. عدد كبير من المترشحين يقدمون أنفسهم على أنهم حمامات سلام وحرية وتثاقف وانفتاح وحاملي رسائل حب ونجاة. يحشدون كل معاني الطير ورمزيته ليدللوا على أحقيتهم بمنصب رئاسة الجمهورية. "يطير الحمام يحط الحمام" ينتفض الفينيق تطير الطيور الغريبة غير المجنّسة وتطير معها الأصوات والأموال والفتاوي. إنها لغة الطير تكتسح سماءات تونس المنتخبة.
مشهد ذكرني برواية زوسكيند "الحمامة"، 1984، لأتساءل من جديد هل الحمام ضامن دائماً للخير وللسلام والأمان؟ هل الحمام الذي يطير في سماواتنا هو حمام الساحات الإيطالية وساحة جامع الزيتونة أم هو ذلك الحمام الذي يطير على كتفَي ذلك الرجل المقعد الذي بتر النظام السابق -حسب روايته- ساقيه لأنه كان وطنياً فوق اللزوم؛ المنصوري أو الاسترالي الذي خصصتُ له مكاناً مضيئاً في روايتي "البيريتا يكسب دائما"؟ حمام غريب غامض لا يمكن أن تأتمنه على شيء هو ذلك الحمام الذي يطير بين يدي الشيخ المقعد بطل الملاكمة القديم؛ المنصوري.
رواية "الحمامة" لزوسكيند ذكرتني بأن الحمام قد يتحول إلى وحش وكابوس. وذكرتني أن الغربان أيضاً طيور وأن هيتشكوك أكثر رعباً بالغراب على كتفه.
تقص رواية "الحمامة" قصة جوناثان، وهو رجل خمسيني هارب من الناس ومن صيرورة الخذلان، فقدْ فقدَ كل شيء ووجد نفسه في عزلة وحزن؛ واختفى والداه أثناء الحرب العالمية الثانية ثم رحلت أخته فجأة وهربت زوجته مع عشيقها ليجد نفسه بلا أحد، يحمل عاراً كبيراً تلوكه الألسن. قرر أن ينعزل في غرفته بعد أن سافر إلى باريس واشتغل حارساً لبنك هناك. واعتقد أنه نجا من كل العالم الخارجي ومخاطره وسوداويته. اعتقد أن العزلة قد تبعده عن الخطر وتجعله آمناً في تلك الغرفة المعلقة بإحدى العمارات الباريسية. ظل يعتقد ذلك إلى أن حطت حمامة على عتبة بابه وحوّلت حياته إلى كابوس.
يقلب الكاتب الألماني صاحب رواية "العطر" المعادل الرمزي للأمن إلى معادل للرعب. فتتحول الحمامة إلى كائن خرافي مرعب يسجن جوناثان في غرفته بالطابق السادس ويحول دونه والعالم الخارجي. يقول الراوي:
"كان قد رفع قدمه، قدمه اليسرى، وكانت ساقه قد بدأت الحركة، عندما رآها. كانت جالسة أمام بابه، لا تبعد عن العتبة عشرين سنتمراً، ينعكس عليها الضوء الشاحب الذي يتسلل من النافذة. كانت قابعة بقائمتيها الحمراوين من ذوات المخالب، بأرياشها الرصاصية الزلقة على بلاط الممر الأحمر حمرة دم الثور" ويواصل واصفاً نظرة الحمامة المرعبة: "لم يكن في العينين بريق، لم يكن فيها وميض، لم يكن فيها شرارة حياة، كانت عيناً لا ترى تبحلق في جوناثان"، جوناثان الذي كاد يموت خوفاً عندما نفشت الحمامة ريشها تمنعه من مغادرة الغرفة.
هكذا دمر زوسكيند الصورة النمطية للحمامة لنكون أمام وحش ونصبح أمام عالم وحشي ويتحول الفضاء الحميمي الآمن الذي دفع جوناثان لشرائه بالتقسيط كل أمواله إلى فضاء للرعب، فضاء كافكاوي. إن انقلاب العين هنا ضرب لسرمدية المفاهيم والأشياء والرموز فلا الحمامة تظل حمامة ولا الفضاء الحميم والآمن يظل آمناً.
منعت الحمامة جوناثان من قضاء حتى حاجته في الحمام الجماعي في الرواق فنهض متأوها، وألقى نظرة يائسة إلى الباب... لا، لن يستطيع عبور الباب. حتى لو كان الطائر الملعون قد ذهب، لن يتمكن من الوصول إلى المرحاض... تقدم إلى المغسلة، وفتح ثوب الحمام، أنزل البيجامة، فتح صنبور الماء وتبول في المغسلة". وهكذا يبدأ جحيم جوناثان نويل واعتقاله في غرفته من حمامة حطت على عتبة بابها. وبدأت مسيرة واقع الاحتلال الذي سقط فيه.
استطاع زوسكيند من خلال هذه النوفيلا إظهار احتياطي الشر داخل الأشياء الناعمة وإظهار المرعب المخفي داخل الحميمي ليكشف لنا أن المظاهر خادعة وأننا نعيش في كليشيهات وتنميطات فرضتها العادة والبلادة والاقتصاد في التفكير، فالمجرم لم يعد ذلك البشع والمحتال لم يعد ذلك الأعور إنما تتدفق الجريمة من الأيادي الناعمة ومن الوسامة والأناقة والرجال والنساء الثقات. إن الوحش يرقد في الأقارب وفي الأشياء الأليفة. وهذا ما جعل جوناثان يتقدم نحو الانتحار بسبب تلك الحمامة التي حطت على باب غرفته. تلك الحمامة التي لم يستطع حتى أن يواجهها بمسدسه، فقد كان رعبها أقوى من جرأته ومن الرصاص الذي يحشو به المسدس. لينتهي به الأمر شريداً بعد أن طردته الحمامة من عشه الآمن ليصبح نزيل الفنادق الرخيصة مقطّع البنطال، كأي متشرد قبل أن يعود إلى العش وقد رحلت الحمامة بكل فظاعاتها.
بعيداً عن الإسقاطات الوجودية للرواية وتناولها للإنسان الغربي المعاصر وأزمته النفسية وما حدث له إثر الحرب العالمية الثانية، لنأخذ الحكاية في مستواها الأول كأحداث قصة حمامة تأسر رجلاً ثم تطرده من بيته. قصة تنبهنا إلى ضرورة التريث قبل الاستسلام للمعتاد واليومي والمعروف والأليف، فما يبدو بريئاً ليس كذلك دائماً.
فهل يسلّم التونسيون رقابهم للحمام ولطيور الانتخابات؟ هل يمكن لمن قرأ "الحمامة" لصاحب "الكنترباص" أن يطمئن لطير مهما كانت رمزيته؟ هل هؤلاء المترشحّون أصحاب النعومة والأناقة في جيوبهم الداخلية حمام الساحر أم ثعابين الحاوي؟
على التونسيين أن يتأملوا جيداً في قصة جوناثان ويفكروا جيداً بوجوه الأوراق الانتخابية التي ترمى تحت عتبات بيوتهم، هل هي تشبه حمامة زوسكيند؟ حتى لا يردد التونسيون يوماً جملة جوناثان: "غداً أقتل نفسي".