عن اغتيال إيلي حبيقة

2019-09-19 17:00:00

عن اغتيال إيلي حبيقة
من مجزرة صبرا وشاتيلا

أرادَ الفيلم أن يكون وثيقة من بين كلّ تلك الوثائق، التي تضعُ تساؤلاتٍ عن دور سوريٍ يبدو غامضًا، إن في اغتيال إيلي حبيقة، الذي كشف تقريرٌ نشرهُ موقع «إنتلجنس أون لاين» الفرنسي، عن احتمالية ضلوع ضباط أمن سوريين في اغتياله. أو في الدور الذي لعبتهُ أطراف أخرى غير القوات اللبنانية في المجزرة. وحرب لبنان عامةً.

تؤكد لنا وقائع التاريخ، أنّ الجريمة لا تنقضي بانقضاء زمن وقوعها، إنما بزوالها من نفوس ضحاياها. كما وتؤكد الوقائعُ ذاتها، أنّ صفاء النفوس يحتاجُ إلى الرغبة في الخلاص لدى هؤلاء الضحايا، قد يُسهمُ في تحقيقها كشف الملابسات، وتحقيق العدالة. لكنّ ما يؤرقُ، هو السؤال الإنسانيّ الدائمُ عن أولئكَ الذين يجبُ أن تقتصّ منهم العدالة بعد نهاية الحروب؟! من هم بالضبط؟! وكيف تتمّ المحاسبةُ بعد تبيان الحقائق؟!

قبل سبعٍ وثلاثين سنة، في مثل هذه الأيام من أيلول عام ١٩٨٢ تحديدًا، سُمِحَ للصحفيين ووكالات الأنباء العالمية، بالدخول إلى مخيّمي صبرا وشاتيلا، في بيروت الغربية ليكتشفَ العالمُ هولَ الفاجعة التي خلفها رجال المليشيات على مدار ثلاثة أيام من دخولهم صبرا وشاتيلا، بعد أن حاصرها الجيش الإسرائيليّ حين دخل بيروت الغربية.

كان الركامُ قد أُزيحَ بالكاد عن جثّة الرّئيس بشير الجميّل، الزعيمُ الثوريّ في التّيّارِ اليمينيّ اللبناني، الذي اغتيل في مقرّ بيت الكتائب في الأشرفية رفقة عدد كبير من سياسيي الكتائب والقوّات اللبنانية، قبل أيام قليلة من تسلمه مهامه الرسمية رئيساً للبنان.

كانت بوابة العلاقات بين حزب الكتائب والحكومةِ الإسرائيلية قد فُتحت، لتلاقي مصلحة الطرفين في انتزاع سلاحِ الفلسطينيين المتواجدين في لبنان. ومثّلَ هذا التلاقي المصلحيّ فرصةً ذهبية لإسرائيل أولًا للخلاص من أيّ تبعات قد يجرّها السماح للفلسطينيين بتنظيم أنفسِهم وسلاحِهم، على التخومِ الشمالية للمستعمرات الإسرائيلية التي كانت تتلقى ضربات الصواريخ المتاحة في أيدي الفصائل الفلسطينية، ما قد يُسرّبُ شكًّا لدى المجتمعين الإسرائيلي والدولي في إمكانية الدولة الإسرائيلية الناشئة على الاستمرار، وهي التي لم يمضِ على نشوئها أكثرَ من ٣٤ عامًا، أمضت معظمها في حروبٍ طاحنة مع محيطٍ يرفُضُ الإذعانَ لها، أو للمجتمع الدولي الذي مثّل قيام دولة إسرائيل جزءًا من حلٍ لمعضلتِه الأخلاقية التاريخية مع اليهود.

تروي شهادات الذين عايشوا تلك المرحلة، أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي، آرييل شارون آنذاك، وصلَ إلى المجلس الحربيّ في منطقة الكرنتينا ليلة اغتيال بشير. ويقول كريم بقردوني، الرئيس السابق لحزب الكتائب، والسياسيّ الذي كان يجلسُ طوال سنوات الحرب على طاولات صناع القرار، أنّ شارون اتّهمَ قادة الكتائبِ في ذلك الاجتماع برجولتهم، حين رأى بكاءهم على زعيمِهم الشاب، وقائدِ حُلمِهم. وأنّهُ قالَ لهم ما معناه إنّهم لا يستحقّون بشير. إذ لو كان الأخير حيًا، وقُتلَ أحدُ قادتِه لسارعَ بطلب الثأر. وصفةٌ ثأرية كلاسيكيّةٌ، لكنّها تُثبتُ جدواها على الدّوام. فالحربُ حرب. والدّمُ الذي يغلي في العروق، لا يُبرّدُهُ إلا دم يتفجّرُ في شوارعِ "الأعداء".

من بين أولئكَ القادة الذين قابلهم شارون في اجتماعه، كان إيلي حبيقة، وهو شابٌ مسيحيّ مارونيّ ينتمي لبيت أقل من متوسط الحال، تركَ المدرسة في عمرِ السادسة عشرة، والتحقَ، بعدما صار واضحًا أننا أمام شخصية قابلة للطموح والدموية والتعبئة في آن، بميليشيا مسلحة سمّت نفسها "ب – ج" (بشير الجميّل) قبل أن يتجاوز السابعة عشرة من عمره. ذلك المناخ الحربيّ، المشحون بهلع الأغيار، ونظريات التفوّق العرقي. إضافةً إلى شخصية حبيقة، التي وجدت في الحربِ فرصةً للظهور والوصول إلى أماكنَ لم تكن لتحلمَ بالوصول إليها، دفعت الشابَ المندفعَ لفهمِ الحربِ على نحوٍ بسيط: اقتُل تصلْ!

نظريةٌ مشى عليها حبيقة، وآتت أُكُلها سريعًا، فالحروب لا تؤجلُ مكافآتِها، فلم يلبث أن تقدّمَ في مناصبهِ العسكرية والحزبية بعد انتسابهِ للكتائب، حتى صار أبرز أذرع بشير الجميّل العسكرية والأمنية خلال سنوات الحرب، ورئيس جهاز الأمن والمعلومات في القوات اللبنانية منذ عام ١٩٧٩، أي أنّهُ لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين!

من غير المرجّحِ طبعًا أن تكون شخصّية حبيقة أو سواه من المنخرطين في حرب لبنان، خافيةً على الجانب الإسرائيليّ، الذي يعرفُ جيدًا كيف يلعبُ على الحبال المتاحة، وكيفَ يخلقُ لنفسِهِ حِبالاً إن لم يجد في محيطه، مستفيدًا من الظروف كافّة. وعلى هذا، فقد أدى اجتماع الكرنتينا إلى اتخاذ القرار بمهاجمة مخيّمي صبرا وشاتيلا، ثأرًا لبشير الجميّل.
 

 من المجزرة


في الليلة التالية، اكتفت القوّات الإسرائيلية بالسماح لميليشيات من قوّات سعد حداد (جيش لبنان الحر) التابعة لها، إضافةً لميليشيا جهاز الأمن الخاص بالقوات اللبنانية، والتابع مباشرةً لإيلي حبيقة، بالدخول إلى المخيمين الفلسطينيين بحجة وجود ١٥٠٠ مقاتل فلسطيني مسلّح فيهما، وارتكاب واحدة من أفظع المجازر الدموية في الحرب اللبنانية، راح ضحيتها مدنيون تراوحت أعدادهم وفق تقارير ما بين ٨٠٠ و٣٠٠٠ شخص، معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال.

في فيلم بثّته قناة الجزيرة ضمن برنامجها "الجريمة السياسية"، تتبع المخرجان محمود عبد العزيز ومهند صلاحات، قصة اغتيال الوزير ايلي حبيقة وسط بيروت عام ٢٠٠٢، وقررا ربط القرائن المتاحة بين أيديهما، للوصول إلى أسئلةٍ تحتاجُ إلى إجابات، سواء خلال سنوات الحرب، أو إزاء من قتلَ إيلي حبيقة ولماذا؟!

نهاية حبيقة، وإن كانت مسألة تقليدية في الأوساط المافيوزية، نهاية دورٍ أدّت إلى نهاية صاحبه. إلا أن اغتيالهُ بعد اتخاذه لقرار الإدلاء بشهادته عما جرى في حرب لبنان، وعن الدور الذي أنيط به، في محكمةٍ بلجيكيّةٍ، تلقّت دعوى قضائية من أسر ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، بُعيد عودة صورة آرييل شارون إلى الواجهة السياسية الإسرائيلية، ما استفزّ الأصوات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين والمناهضة لإسرائيل. مسألة تعطي انطباعاً بأنّ ثمّة من حرِصَ على تلافي الخضوع لمساءلة قانونية دولية، وهذا إن صحّ، فإنّهُ يجعلُ من بحث الصحفيين الاستقصائيين، أو اللجان القانونية، أو المؤسسات الحقوقية ذات الصلة، أمرًا لازمًا يجب ألا يتمّ تجاهله أو التسخيف منه. فهو إذن يُقدّمُ ما يُمكنُ أن يؤرّقَ مرتكبي المجازر!

أراد حبيقة الإدلاء بشهادة ما عن المجزرة لدى المحكمة البلجيكية، فما هي تلك الشهادة؟ الرجلُ مدانٌ على أيّ حال، سواء ذهب إلى هناك أم لم يذهب، وإدانتُهُ مجتمعية بالدرجة الأولى، إذ إنه سياسيًا كوفئ على دورهِ خلال الحرب بأن أصبح نائبًا، ثمّ وزيرًا، ومؤسسًا لحزب الوعد (فلنتذكر أنّ مؤسس الحزب هذا غير متعلم، وأن حياته السياسية بدأت بالقتال في الحرب وهو لم يتجاوز السابعة عشرة). ثم إن العلاقات بين حبيقة والإسرائيليين قد قُطعت في العام ١٩٨٤، حسب شهادة أسعد شفتري، رئيس جهاز الأمن الخاص بالقوات اللبنانية، التابع لحبيقة، والذي استطاعَ الفيلم أن ينتزعَ منهُ اعترافًا باشتراكهِ المباشر في مجزرة صبرا وشاتيلا. وأضافَ شفتري إنّ الإسرائيليين حاولوا الاتصال بحبيقة بشكلٍ ملحّ، لترتيب لقاء معه في باريس قبل ذهابه للإدلاء بشهادته في المحكمة عام ٢٠٠١. الأمر الذي أكده شبلي ملّاط، محامي أسر ضحايا صبرا وشاتيلا، الذي رجّحَ أنّ الاغتيال جاء ردًا على رغبة حبيقة بالخلاص، من خلال الإدلاء بشهادته تلك.

ولأننا نتحدث عن لبنان، فمن غير الممكنِ تجاهل مجموعة من البديهيات، من قبيل أنّه كان يخضعُ في تلك الفترة للوصاية السورية، وأنّ رستم غزالي وغازي كنعان كانا المسؤولين المباشرين عن السياسة اللبنانية مع مطلع القرن الحالي. كما لا يٌمكنُ أيضًا تفادي التساؤل: لماذا أراد النظام السوري إغلاق ملفّ اغتيال إيلي حبيقة، عبر الاتصال المباشر بالجنرال أشرف ريفي، الذي كان يشغل منصب رئيس قسم المباحث الجنائية الخاصة، والذي كشف للفيلم إنّه تلقى اتصالاً من رستم غزالي خلال تواجده في مسرح الجريمة، وطلب منهُ "ما يعذّب حاله"، وأن يقفل التحقيق لأنّ إسرائيل هي الفاعل!

أرادَ الإسرائيليون في تقرير لجنة «كاهان»، تحميل الدم الفلسطيني للبنانيين، وقد وجدوا ضالتهم في حبيقة، فأعلنوا أنّ اللجنة جاءت للتحقيق في دور القوّات اللبنانيّة فقط في المجزرة. بينما لم يكن التحقيق في دور الإسرائيليين الذي وفر الحماية للمهاجمين، وحاصر بيروت الغربية وقطع عنها كلّ أسباب الحياة، ودفع بقوّاتٍ تعملُ تحت إمرته للمشاركة، هي قوات سعد حداد. أرادوا للدم الفلسطيني أن يغطي كلّ يدٍ ممكنة، إلا يدهم. بناءً على أنّ الضحايا يقتصّون من اليد التي تحملُ سلاحَ قتلهم. لا ممن وفّر لها السلاحَ والقرار.

أرادَ الفيلم أن يكون وثيقة من بين كلّ تلك الوثائق، التي تضعُ تساؤلاتٍ عن دور سوريٍ يبدو غامضًا، إن في اغتيال إيلي حبيقة، الذي كشف تقريرٌ نشرهُ موقع «إنتلجنس أون لاين» الفرنسي، عن احتمالية ضلوع ضباط أمن سوريين في اغتياله. أو في الدور الذي لعبتهُ أطراف أخرى غير القوات اللبنانية في المجزرة. وحرب لبنان عامةً.

قدم الفيلم تحقيقين مزدوجين، وتتبع قصةً أخذتهُ لتتبّعِ أخرى. فرغم أنه لم يصل لنتائج نهائية تحدد الفاعل في اغتيال إيلي حبيقة، في مقابل تقديمه لمؤشرات قوية عن هويته. لكنّه قدّم، أيضًا، رواية جديدة عن المجزرة، فقد أثبت الفيلم الخلل القانوني في تقرير «كاهان» الإسرائيلي حول مسؤولية المليشيات التابعة لحبيقة وحدها عن المذبحة، كما وضع سياقاً متسلسل الأحداث منذ الليلة التي اغتيل فيها بشير الجميل، عصر ١٤ سبتمبر ١٩٨٢، واجتماع «الكرنتينا» الليليّ مع آرييل شارون، كاشفاً عن تخطيط مسبقٍ لدخول مليشياتِ الكتائب للمخيمات الفلسطينية، سبق اغتيال بشير! ما ينفي أن تكون المذبحة فعل ثأر لاغتياله، وصولًا لترتيب المجموعات المسلحة التي شاركت بالمجزرة، ابتداءً من القوات الخاصة الإسرائيلية التي دخلت صباح الخامس عشر من سبتمبر، وما تلاها من دخول لمجموعات سعد حداد، وأخيراً المجموعات التابعة لإيلي حبيقة التي دخلت بعد ظهر الخامس من سبتمبر وخرجت بعد يومين، تاركة وصمة عارٍ إنسانيّةٍ لم تمّحِ آثارها حتى يومنا هذا.