مقدّمة "كتاب الحكمة والسذاجة"... المجموعة القصصية الصادرة حديثاً

2019-09-29 13:33:00

مقدّمة

يسوع بشّر بالسذاجة، طالباً منا التخلي عن كل ما نملك لنصبح كالأطفال؛ ولكن السذاجة وحدها لا تكفي: في "مزرعة الحيوان"، يصدّق الحصان "بوكسر" كل ما يقال له، ويعمل بدأب ليل نهار. تعبّد هذه السذاجة الخالصة الدرب للأشرار كي يحكموا عالمنا.

صدرت قبل أيام المجموعة القصصية "كتاب الحكمة والسذاجة" للقاص والمترجم عدي الزعبي عن "دار ممدوح عدوان للنشر". تضم المجموعة اثنتي عشرة قصة قصيرة ومقدمة، تعالج جوانب مختلفة من العلاقة الشائكة بين الحكمة والسذاجة. للكاتب أيضاً مجموعتان قصصيتان "الصمت" (2015) و"نوافذ" (2017)، بالإضافة إلى كتاب مقالات بعنوان "قنديل أم هاشم المفقود" (2016). يُذكر أن الكاتب حاصل على دكتوراة في الفلسفة من بريطانيا، ويقيم حالياً في السويد.

التحرير


مقدمة الكتاب:

للشاعر البولندي جيسواف ميووش قصيدة طويلة مؤلفة من مقاطع مختلفة، تحمل عنوان "العالَم". في الترجمة العربية عنوان فرعي بين قوسين: "قصائد ساذجة"؛ يختفي هذا العنوان الفرعي في الترجمة الإنكليزية التي راجعها الشاعر بنفسه؛ على الشبكة العنكبوتية، أحد معجبي الشاعر البولنديين يقدّم ترجمته الخاصة من البولندية إلى الإنكليزية، مع عنوان فرعي يكتفي بالمفرد بدلاً من الجمع، أي: "قصيدة ساذجة".

ربما ترجع هذا الاختلافات إلى إشكالية العنوان الفرعي: ليس عنواناً أصيلاً ولا جزءاً من النص، بل إضافة مربكة تشبه الهوامش التي لا وجود لها في الكتابات الأولى، في الملاحم الشعرية والنصوص المقدسة؛ أو، ربما، تكمن المشكلة في سذاجة القصيدة: كيف تكون القصيدة ساذجة؟ أليست كل القصائد الجيدة ساذجة؟ أم أن العكس هو الصحيح: لا يمكن أن تتسم القصيدة الجيدة بالسذاجة؟ وقد تكمن المشكلة في مفهوم السذاجة نفسه: مفهوم ملتبسٌ دوماً، ويتراوح بين الغباء والطيبة والخير والبساطة. 

تتألف القصيدة من عشرين مقطعاً، معظمها يمكن قراءته كقصائد مستقلة، وهو ما حصل في معظم الترجمات: يكتفي المترجمون ببضع مقاطع ويسقطون البقية. ولكن القصيدة ككل متماسكة، بوضوح خفي تقريباً. 

تتوزّع القصائد على موضوعات ثلاثة: الأشياء، كالدرب والبوابة والدرج؛ والأفكار المجردة، كالحب والخوف والأمل؛ وحكاية عائلة تعيش الحرب. كلها ساذجة، بالطبع: تملؤها المحبة والبساطة. الحنكة تكمن في مزجها المدهش: سحر خالص يعبث بنا بخبث.

النقطة الأخيرة توحي بأن القصيدة ليست ساذجة تماماً: كل هذا الفن المتقَن لا يصدر عن سذاجة محض. ما لم يقله ميووش، مارسه من وراء ظهرنا: الصنعة والفن. 

يسوع بشّر بالسذاجة، طالباً منا التخلي عن كل ما نملك لنصبح كالأطفال؛ ولكن السذاجة وحدها لا تكفي: في "مزرعة الحيوان"، يصدّق الحصان "بوكسر" كل ما يقال له، ويعمل بدأب ليل نهار. تعبّد هذه السذاجة الخالصة الدرب للأشرار كي يحكموا عالمنا.

على العكس من يسوع، وبالاتفاق مع ما أخفاه الشاعر البولندي وأبرزه الفوضوي الإنكليزي، أرى أن السذاجة ليست معصومة. على السذاجة أن تترافق مع الذكاء والمعرفة والحذر والتبصّر: هذه هي الحكمة. كي تكون حكيماً، عليك أن تعرف الشر وتراه بوضوح؛ وعليك، أيضاً، أن تكون ساذجاً كفايةً كي تؤمن بقدرتك على مقاومته.

السذاجة الحمقاء غير الحكيمة، والحكمة الشريرة غير الساذجة، تكادان تسودان عالمنا، لتنشرا الحيرة والعتمة، وتجعلا العالم خليطاً مبهماً خطراً من الأشياء والأفكار والحكايا...