«ناقةُ صالحة» لسعود السنعوسي... قصة حب صحراوية

2019-09-28 14:00:00

«ناقةُ صالحة» لسعود السنعوسي... قصة حب صحراوية

تتشابك كل العناصر السابقة، على كل المستويات، الحكاية وأبعادها وتماسها بالواقع والتاريخ. اللغة، ومستوياتها، تقنيات السرد، وبناء الرواية، لتنتج في المنقضى المعادلة السردية الذكية "ناقة صالحة".

تجربة صغيرة قام بها الروائي الكويتي سعود السنعوسي (1981)، في مفتتح روايته الخامسة "ناقةَ صالحة" الصادرة حديثًا في طبعة مصرية مشتركة بين "تنمية" و"الدار العربية للعلوم ناشرون"، عندما جعل العنوان الفرعي "الوصول أكثر مشقة من الرحيل" يتكامل مع الجملة الافتتاحية : "..قال الشيخ لصبيه الأجير..".

مع كل صفحة كان بيت الشعر الشهير للمنخل اليشكري: "أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري" يرد على بالي، متماسّاً بشكل مباشر مع مسار الرواية، التي تحكي الوجه الآخر لحكاية الشاعر الكويتي دخيل بن أسمر (1880 – 1979) وحكاية قصيدته الشهيرة "الخلوج" وقصة الحب التي جمعته بابنة خاله صالحة آل المهروس..

بادية غرب الكويت

شرق إمارة جبل شمّر، حيث قبائل التخوم التي قد تنقسم في الولاء بين داعمين لحلف آل صباح وآل سعود في معركة الصريف (1901) ضد آل الرشيد، وتنقسم وانقسمت فيما قبلها وبعدها من معارك، وفي تلك البيئة القاحلة ذات الأعراف الأمضى من القوانين، يُتهم الشاعر دخيل بن أسمر بالتغزل في ابنة خاله وهجاء عمها، بقصيدة ملفّقة، ألفها شاعر آخر هو فالح آل مهروس، شقيق صالح، وهذا الأخير الذي ظفر بصالحة، عملاً بالعرف القائل: "العم ولي والخال خلي". بعد أن قضت الأعراف بنفي دخيل بن أسمر، أو هروبه، أو اختياره للمنفى. 

تتقاطع الخيوط بين دخيل وصالحة مرات عدة، تبدأ بمحاولة ناجحة من دخيل، الخبير الصحراوي، لجعل ناقة خلوج (ثكلى) كثيرة النواح، تتبنى حوار أنثى يتيمة هي "ناقة صالحة"، هكذا وُشمت الجِمال في الحكاية إلى آخرها، فجمل يقتل ابن صالحة، وآخر يقود دخيل إلى خيمتها بعد أن شردت من قبيلتها إلى الصحراء قاصدة الكويت، وآثار سير  ثالث تدل صالحة على فالح وناقته السريعة ودورهما الغامض في مقتل صالح وإهداء جمله إلى دخيل بعد معركة الصريف.

يموت صالح جريحًا بعد الرجوع من معركة الصريف إلى معسكر حلفائه في الكويت، ويموت ابنه وابن صالحة برفسة من الناقة الخلوج الخائفة من عواء الذئاب، ويسجن دخيل متهمًا بقتل صالحة وابنها. هناك حس بوليسي جلي يندلع منذ اللحظات الأولى من السرد، وتلميحات متفرقة بأن الشيخ محمد المروي عنه بضمير الغائب في الفصول الأولى هو نفسه الراوي العليم دخيل بن أسمر.

اللعب باللغة

يمكن الإشارة إلى اللغة في "ناقة صالحة" باعتبارها ضمن أبطال العمل، فالسنعوسي، يطرح في روايته الواقعة في 173 حكايته عبر لغة مميزة، صُمّمت خصيصاً لتعطي القارئ هذا الإحساس بالفضاء الصحراوي المترامي، والهجير، والقيظ، وأزمنة موغلة في البعد والنسيان: "لم أفتقد شيئًا إلا مفازة لا يُرى آخرها، وخيامًا متناثرة في العراء مثل حبات خالٍ ترصع ظهر فتاة عارية، وعواء ذئاب الليل، وعزيف رمال تسوقها الزوابع، وعيون الماء العذب، وغناء حادي الإبل، وتمايل أعناق جماله طربًا مع الحداء، وأرضًا تلفظ كمأها في الربيع، وأراضي خيراء بعد ليالٍ مطيرة، ونطيط اليرابيع الوجلة في الليل، ونبتات الرمرام يستظل بها الورل، أو يحك جسده بأوراقها يبرئ نفسه من لدغة عقرب أو حية رقطاء، وحليب نوق بطعم الورد، ونقوش الحناء في كفوف بنات القبيلة" (ص 34).

الأدوات اللغوية لم تقتصر على مفردات بنت بيئتها لتبني الفضاء المكاني في الرواية، وإنما امتدت الصنعة، لتوظف بعض المفردات القديمة، والمهجورة -والمفهومة من خلال السياق- في خدمة الإيهام بالزمن الماضي، لتعطي هذا الإحساس بالقِدم، بل وقد تدفع القارئ ليفتح أي معجم أو قاموس فقط ليتأكد من أن ما فهمه من السياق صحيح، وليضيف لقاموسه الشخصي مفردة جديدة.

جر السنعوسي اللغةَ الفصحى، إلى الصحراء، أقعدها في وسط الفلاة حتى حمصتها الشمس، عطّشها وألبسها ثيابًا بسيطة خفيفة تكاد تكون زاهدة، تشبه البيئة القاحلة. ثم إنه أمعن في تنويع مستويات اللغة والأسلوب، للتمييز بين الراويين: العليم الذي يحكي بزمن المضارع وصول الشيخ محمد إلى الكويت التي ينقبض قلبه منها ويضطر -منزعجًا- إلى أن يعدل عقاله المائل على عادة أهل الصحراء بعكس أهل الكويت. والرواة بضمير الأنا: دخيل بن أسمر ثم صالحة آل المهروس، كل بلسانه، بالزمن الماضي، في معادلة تقنية دقيقة وفعالة.

التنويع الذي طال زمن السرد أيضًا، منح حكاية دخيل وصالحة وبينهما الناقة، المرسال، الخلوج، الأم، والقاتلة بالرفس. عمقًا، ومساحة للتراسل، ومنحها الأربعين عامًا التي تدور خلالها مجريات القصة الشائكة بين العاشقين اللذين وقفت الأعراف القبلية في وجه حبهما ومنحت الفتاة لابن عمها صالح بدلاً من حبيبها وابنها خالها دخيل.

هذه الحيل اللغوية، تضافرت مع الصحراء، الفضاء المكاني، ومع فقر معرفتنا العامة بدخيل بن أسمر، ليرتقوا بـ"ناقة صالحة" لتلامس أطراف الحكايات الأسطورية وقصص الحب الخالدة التي لا تكتمل أبدًا والمشفوعة بالأشعار والبطولات ولوعة المسافات، يضاف إليها الافتتاحيات الشعرية مع بداية كل قسم بالرواية، والمقتبسة جميعها من الشاعر الكويتي دخيل الخليفة (1964)، إلا أنها أسطورة تاريخية، نادرة التوثيق، ومنسوجة بتخييل عارم لسد فجوات الحكاية الأصلية، وبأسلوب سردي حرفي يعكس الجهد المبذول في الرواية ويعكس بالمثل تمكن سعود السنعوسي من أدوات السرد وتقنياته إلى حد السهولة والبراعة.

تتشابك كل العناصر السابقة، على كل المستويات، الحكاية وأبعادها وتماسها بالواقع والتاريخ. اللغة، ومستوياتها، تقنيات السرد، وبناء الرواية، لتنتج في المنقضى المعادلة السردية الذكية "ناقة صالحة".

ثمة ملحق بعد ختام الرواية عبارة عن اقتباس طويل من فصل بعنوان "بادية الكويت" من كتاب: "أسماء تاهت في الصحراء: فهرس ديار شبه الجزيرة العربية" الجزء الثاني، لنزّال بن فيصل الحاكم، يشرح الفصل جذور الحكاية، لناحية الجغرافيا والأنساب، موضّحًا أن "ناقة صالحة" مبنية على أسس ذات جذور واقعية إلا أنها مطمورة في النسيان.