المقابلة: إيليا سليمان (١/٢)

2019-10-01 15:00:00

المقابلة: إيليا سليمان (١/٢)
هذه الصورة وباقي صور المقابلة خاصة بالمجلة ومن تصوير ياسمين حاج.

أول ما تشعر به كي تصنع صورة هو الإحساس بإمكانية أن تحمل متعةً ما. أمّا ما يرافق هذه المتعة، فيمكن الحديث كثيراً عن ذلك. لكن فكرة أن يكون في الصورة متعة مشاهدة وأن يكون عندك (وهي عندي) الرغبة أن يكون هنالك مشاركة لهذه الصورة واستمتاعك بها، مع كلّ مُشاهد لها تتخيّل وجوده.

لا مقدّمات تُكتب لمقابلة مع إيليا سليمان...
 

السؤال الأوّل هو الأكثر توقّعاً، لم انتظرتَ عشر سنين بين «الزمن الباقي» و«إن شئت كما في السماء»؟

الإجابة بسيطة، أولاً لأنّي كسول. هنالك أسباب موضوعية وهنالك تلك التي لا جواب لها، وهنالك أسباب تبقى -لنقُل- نوعاً من الأعذار، أو لستُ متأكداً من أنّها أسباب فعلاً، لكن لها "مشروعية" ما. مثلاً،  هنالك فترة ليست قصيرة بين كل فيلمين من أفلامي، ٧ أو ٨ سنين. لكن لكونها ١٠ الآن، يمكننا السؤال "لمَ؟".

أنا لا أصنع أفلاماً روائية/سردية ولا مبنية على كتب، لا أكتب سيناريوهات عن شخصية متخيّلة. كل ما تراه في أفلامي هي أمور مأخوذة من حياتي الشخصية، أو قد تكون ملاحظاتي/مراقباتي لما يحصل حولي، أو تأمّلات لمسائل داخليّة. فإن أراد أحدنا أن يصنع فيلماً، لا بدّ أن يعيش، يعيش ليرى ما حوله. أحياناً يكون أحدنا متنبّها وأحياناً لا، تكون سارحاً أحياناً قد تكون في حلم يقظة ما، وأنت جالس على كرسي، كما أفعلها مراراً، أو حين تكون في الشارع وترى ما حولك وتدوّنه. وهذا لا يكون كل الوقت، ذلك يستغرق سنيناً. تجمّع هذه الملاحظات إلى أن تثقل وتجد أنّه يمكننا صنع شيء منها.

أساساً، لا أعرف متى يمكن أن يُصنع شيء، لا بد من التجريب لأرى، إلى أن أكتشف أنّ هنالك احتمال لحكاية ما. حتى الحكاية، تُكتشَف أثناء الشغل، وليس قبله. يكون لدي حسٌ، فكرة، شعور أنّ هنالك ما يتوجّب قوله لكني لست أكيداً كيف. لكن عادة لا بدّ من التخيّل، وإن كنت لا أجيد الرسم بالمرّة. لا بد من تخيّل غاليري فيها ٢٠٠ لوحة على كانفاس أبيض، وأبدأ التعليق عليها كما أعلّق قصاصات الملاحظات هذه هنا. تبدأ بالملاحظات التي ستتركّب على ملاحظات غيرها، أشتغل عليها، ثم تتآلف الملاحظات مع بعضها، تماماً كما أنّ رساماً ما يبدأ بالعمل على لوحة لا يعرف بعد إلى أين يتّجه. الفرق أنّي لا أشتغل على لوحة واحدة، بل على عدّة لوحات في الوقت نفسه.

بعدها، هنالك ما أسمّيه مونتاجاً لاشعورياً وهو ما يقابل مونتاج الاستمرارية، وهو كيف أن لوحات عدّة، تُصفّ إلى جوار بعضها لتعطي معنى ما. وهذا يكون كذلك بالتجريب والأخطاء. حيث أجلس الآن، عادة يكون أمامي، هنا، خزانة. يكون الحائط مليئاً بقصاصات الملاحظات، أبدأ بتركيبها معاً، وأبدأ باكتشاف أين يذهب الفيلم. أحياناً ترى أنّه مسدود، أحياناً أتراجع وأحياناً لا... هذا التركيب لوحده يستغرق سنوات. سنوات لتعيشها، سنوات لتركيبها، وسنوات لتشعر أنّ لديك فعلاً ثقلاً معيّناً يمكن تسميته بسيناريو.

خذ هذه السنوات كسبب للتأخير، وخذ بعدها مسألة التمويل. كلّما أشتغل على فيلم يستغرق التمويل ٣ أو ٤ سنين، لعلّه استغرق في هذه المرة أكثر قليلاً، لأنّ ميزانية الفيلم كانت أكبر. هذه أسباب أطرحها الآن هكذا، قد يكون بعضها دقيقاً وبعضها لا، لكن نعم، أعتقد أن الأسباب الأولى التي طرحتُها هي صحيحة، لكن لمَ السنين الإضافية فصارت بالمجمل عشر سنين؟ السبب هو التمويل.

هناك سبب آخر لا أتحكّم به، هو أنّي لا أتعاطى كثيراً مع فكرة أنّي مُلزمٌ (الآن) بكتابة فكرة سيناريو. أنهي فيلمي ثم أعيش. ولا أعيش كي أكتب بالضرورة. أكمّل حياتي كما أنا، فعندي شغف لأشياء أخرى كذلك. ولا أُدخل نفسي في حالة ضغط أن الناس تنتظر مني فيلماً، كما صار يُقال لي موخراً بأن "لا نريد انتظار عشر سنين أخرى للفيلم القادم". السؤال عندي هو إن كانت هنالك حاجة ضرورية لفيلم أو لا. لستُ مأخوذاً بسحر الكاميرات ولا السينما، حتى روح السينيفيليّ تلك، ليست فيّ، بالتالي أصنع أفلاماً عندما أحسّ أن لدي شغف تجاه فكرة أكتشفها لحظتها وتجاه إحساس يطغى ويدفع لأن أبدأ بصناعة فيلم.

عموماً. انظر، كلّما أريد قول شيء، أريد كذلك قول عكسه. تشعر أن هنالك حاجة سياسية، جيوسياسية، وطنية أو مهما يكن، لكن هنالك مقابلها دائماً ذلك الشعور بمتى ترغب بالبدء بتركيب الصّور. ليس المقصود الفن لغاية الفن، هنالك شيء أقول أنّ له علاقة بالواقع الذي نعيشه، بما يحصل حولنا في العالم. لكن الفكرة تبدأ بأن تشعر بتلك الرغبة أولاً، تريد أن ترى وتحقّق هذه الصورة التي تراها.

أقول أنّ السينما هي كذلك، أحياناً تشعر برغبة بصناعة فيلم ليس بالضرورة لأن له رسالة، لكن يكون له رسالة. تبدأ من السرد، وليس من استراتيجية أنّ لا بد من قول شيء ما. أقول ذلك لأنّ بالأمس تحديداً أجريت مقابلة مع "لوس أنجلس تايمز"، قلتُ تماماً كل ما لم يتوجّب قوله في هذا الموضوع، لأنّه متوقّع.

بأنّهم كيف سيأخذون كلامك، في أي سياق يضعونه.

مثلاً. لا أعرف إن كان هذا الصحافي بالذات أراد ذلك، لكن قد يكون ذلك متوقّعاً منّي. تكلمت عن تركيبة الصّور وقلت له في النهاية، وأنا أفكّر ملياً بهذا، أنّ أول ما تشعر به كي تصنع صورة هو الإحساس بإمكانية أن تحمل متعةً ما. أمّا ما يرافق هذه المتعة، فيمكن الحديث كثيراً عن ذلك. لكن فكرة أن يكون في الصورة متعة مشاهدة وأن يكون عندك (وهي عندي) الرغبة أن يكون هنالك مشاركة لهذه الصورة واستمتاعك بها، مع كلّ مُشاهد لها تتخيّل وجوده.

لهذه الأولوية، أحياناً يقول أحدنا "لا"، وصحيح كذلك، أنّك تصنع فيلماً لأن إحساساً صار لديك بأنّ هنالك ما يتوجّب قوله. صحيح، في هذا الفيلم، لكن ليس بالضرورة في جميع الأفلام. في لحظة معينة كانت تأتيني تلك المشاعر، كأن أكون جالساً هنا وأقول "حسناً، نواصل الحديث عن: ما هي قضية فلسطين؟ وعولمتها؟ والعالم في ظل العولمة، في أية مراحل خطرة هو الآن؟" وكل يوم نسمع أخباراً عن ذوبان الجليد إلى...

حرائق الأمازون مؤخراً.

تماماً، هنالك كوارث بيئية يومياً، أصبحت كليشيه غير منتهية، فتقول "حسناً لمَ لا نحكي عنها بشكل فردي وليس جماعي"، وهنا لا أتحدّث عن حِراك. أحكي شعور أحدنا بالوحدة، لأنّ شعوراً بالغربة يبدأ بالتشكل، هو فعلاً تعريف كامل وخالص للاغتراب. تشعر، أثناء جلوسك، بخوف معين، بأنّ الأمور تسوء وتشعر، أنّ لا أحد يتحرّك من أجل ذلك باستثناء المظاهرات القليلة هنا وهناك، التي تعرف عنها من التلفزيون، والتي لا تكفيك كمانع. أتاني هذا الشعور في الفيلم، على مستوى أن يكون هنالك مواساة، فإن جلس اثنان مع بعضهما، على إثر هذا الفيلم، وبدآ بالحديث عن غربتهما ووحدتهما، هذه لوحدها تواسيني. هذا أجده في الفيلم الأخير تحديداً، لأنّي في الأفلام السابقة لم يكن لدي هذا الشعور بدمارٍ (أبوكاليبس) متوقّع. لكنّنا نعيش هذه المرحلة الآن، كل يوم نتحدّث عن متى سيصل العالم إلى مكان بائس. صرنا نحس بذلك جسدياً كذلك. مثلاً، مع كل موجة حر، تشعر فعلاً بحر شديد لكن هنالك كذلك الشعور بالخوف، الشعور بأن الأمور تتغيّر، لم تعد على طبيعتها.

بخصوص الكسل. للكسل وزنه، ألاحظ -بطبيعة الحال- أنّني كسلان، لا أحب أن أقوم بشيء. هنالك متعة كبيرة في الكسل.

والإبداع يحتاج للكسل...

نستطيع قول ذلك، لكن ليس كل مبدع كسول. أنا كسول بامتياز. أستطيع الجلوس  لساعات كي أحلم فقط، أحلم بما لن يحصل أبداً، وبما يمكن أن يتحوّل لمواد سينمائية. لكني لا آخذ نفسي بجديّة في هذا المعنى. أي لا آخذ نفسي كمبدع كسول. أي أنّه لا بد من الكسل كي أكون مبدعاً، أبداً. لستُ كذلك. أنا كسول وحسب، ببساطة.

أحب أن أطبخ، وأحب المشي ببطء، أحب أن لا أقوم بشيء، أحب التسكّع، وأعتقد أن أكثر اللحظات التي عشتها، حتى كذكريات، هي التي كنت جالساً فيها، لساعات، لا أفعل شيئاً. إن كانت في الناصرة أو بيروت أو... كنتُ أحدّث صديقاً أن أجمل لحظاتي كانت في مقهى في بيروت هو مغلق الآن وحزنت كثيراً عليه، هو لصديق، المقهى كان رائعاً لأن لا شيء يحصل فيه ولا يمر أمامه أحد، وزبائنه قليلون، أفراد. مقهى خاسر وجميل.

عندما عشتُ فترة في بيروت، وحين كنت أشتغل على فيديو كليب لياسمين (حمدان) مكثت لشهر ونصف في هذه المنطقة، وكانت فكرة أن أستيقظ كل يوم، أنزل لأتمشى قليلاً -كان هنالك مساحةً تمشي فيها وهذا غير عادي في بيروت- أجلس في المقهى نفسه، كنت أشعر أن الدنيا واسعة. وأنّ الوقت يمرّ وأنت تشعر أن لديك كل الوقت. يمر وقتٌ دون أن يحصل أي شيء، ثم يحدث أمر بسيط جداً، يكون حينها مركزياً كأنّه حديث عظيم، لكنه مجرد حدث عابر. في مكان كهذا، أعتقد أنّي إن جلست لسنة فقط، كنت كتبت ملاحظات عديدة، لأنّ لا شيء يحصل هناك ولأنّي لا أفعل شيئاً هناك. يوجد، لا بد، مخرجون آخرون كذلك، لكنهم ليسوا كثر. لأنّك حين تنظر إلى سيَر المخرجين تجدها مليئة بالأفلام وليس باللاشيء. أنا حياتي مليئة بـ "ولا شي".

من هنا، من الـ "ولا شي" تأتي المَشاهد.

أكيد

طبيعة المشاهد التي تكتبها تحتاج قعدة كهذه.

أكيد. وربّما لأنّي منجذب لهذه القعدات، عندما تتشرب أموراً كهذه وتستوعبها، يكون ذلك لأنك منجذب لهذا النوع. فأكثر ما يعطيني روح النكتة أو السخرية يكون في مرات كثيرة هذا اللاشيء. أكبر مثال يمكن أن أحكيه لك، لما يأتي من هذا اللاشيء، هو عن فيلم «سجل اختفاء»، في مشهد منه لا يحصل شيء، وأنا جالس مع صديق لا نفعل شيئاً. يسقط كتاب، وبعد صمت يقول له "عم بتشتّي ثقافة". بالنسبة لي هنا تكون النكتة. لإنّه صحيح أنّنا كنا نجلس في هذا المحل، ولا شيء كان يحصل، لا أحد يمر، قليلون كانوا يمرّون، كما شاهدتَ في الفيلم، كان الملل عميقاً جداً، لكن في اللحظة التي يحصل فيها أي حدث بسيط، تكون له أهمية مركزية، وعندما تكون فيه روح النكتة، طبعاً سيهمّني ذلك كثيراً.

سئلت بالأمس سؤالاً مماثلاً، لماذا تحبّ أن تضحك العالم؟ سؤال جميل، بسيط جداً ومعقّد جداً، لكن له جوابه، لماذا؟ لأن هنالك انجذاب كبير، تريد المشاركة في الصورة وتريد المشاركة في القصص المضحكة. لا تريد أن تضحك على نكاتك الخاصة، تريد مشاركة النكتة. وفي النهاية، المتعة هي هذه المشاركة. أعدك أن لا تكون هنالك عشر سنين أخرى للفيلم القادم.

الآن، بالنسبة لفكرة أن لا تفعل شيئاً، وتخرج من ذلك بمَشاهد مكثفة جداً، إذ لا بد لأحدنا أن ينتبه لكل لحظة في كل مشهد. هذا يذكّرني بمقولتين متناقضتين في السينما، أو لنقل مدرستين: ألفرد هيتشكوك يقول إنّه لصناعة الفيلم لا بد من أخذ اللحظات المثيرة للاهتمام في الحياة التي نعيشها، والسيناريست الأساسي في "الواقعية الجديدة" الإيطالية، سيزار زافاتيني، يقول العكس، إنّنا نحذف من الحياة اللحظات المثيرة ونصنع بما تبقى الفيلم. أين ترى أفلامك من بين الاثنين؟

في الثانية، حيث نحذف اللحظات المثيرة للاهتمام. لكن المقولتان صحيحتان، لا تناقض بينهما. هنالك أفلام تُصنع للحظات مركزية وهنالك ما يأخذك إلى الهامش. أفلامي هي، أكثر، مراقَبات لهوامش، لكل ما هو على الهامش، فأسلّط الضوء عليه. لذلك كان الكثير من الناس يقولون "آه، كنا نرى ذلك كل يوم لكنّنا لم ننظر إليها مرة بشكل خاص". فتمر كغيرها. حين تكون متنبّهاً، ما يحصل على الهامش يمكن إن رُبط ببعضه، أن يحمل معاني عدّة. فتبحث عن المعنى في الهامش. وهذه ليست استراتيجيات.

قد تكون من طبيعة كتابة هكذا مَشاهد.

نعم، هي تكون في النهاية، حسب من أنت تكون. أي أنّي أنتبه لأمور كهذه، أنتبه لما فيها من كوميديا أو سخرية أو ميلانكوليا. أفلامي جميعها تشبه بعضها، فيها جميعها كوميديا وميلانكوليا. وطبعاً، مثقلة بالتسييس. هذه هي الشخصية الرئيسية لأفلامي، هو من يقوم بها.

كلما أعود إلى أفلامي، وأتساءل عن سبب صناعتها، ليس في أي من أسبابها غموض. واضح تماماً لي لمَ صنعت «سجل اختفاء»، أتذكر تماماً ما الذي أدخلني إلى هذا المكان، فمن ناحية كنت غاضباً جداً، ومصاباً بالخيبة من مسار القضية الفلسطينية، وحزيناً. كان اتفاق أوسلو بالنسبة لي تراوما، عشت مرحلته بألم. أضحك على نفسي الآن حين أرى الإحباط الذي عشت به تلك المرحلة. وكنت أريد سرد فلسطين بطريقة بديلة. كان ذلك همّي، أنّي أردت صناعة فيلم يكون السرد فيه مختلفاً عن كل الكليشيهات، صنعته لأني أردت القول "يمكن للأفلام أن تُصنع هكذا، كذلك"، الآن لم أعد أقوم بذلك، فيلم واحد هو الذي أردت قول ذلك به وكفى. كان لدي حماس كبير لأن أبيّن كيف يمكن أن تُصنع الأفلام عن فلسطين لكن من زاوية مختلفة تماماً وسردية مختلفة تماماً، بدون الكليشيهات الفلسطينية "القومية". ووقتها فعلت ذلك مع حب انتقام من الأفلام التي كانت تحكي عن فلسطين من خارج فلسطين، من إسرائيليين، فرنسيين...

وكذلك الأفلام التي مع القضية؟

وهذه كذلك، عن الكليشيهات التي فيها شعاراتية وتبسيط فظيع. وخالية من التعقيد المتعلق بما هي السينما. هي تحكي عن موضوع بشكل سيّء، كأنّك تستعمل لغة بمفردات ركيكة كي تحكي عن موضوع حساس جداً ويحتاج للدراسة والمشاعر. السينما فن في النهاية. أثناءها، في بداية «سجل اختفاء»، كانت هنالك رغبة في القول إن هنالك طرق بديلة كذلك، إضافة إلى السياسة، لذلك تجد أوسلو في الفيلم.

لذلك أردت في «سجل اختفاء» أن تكون الشخصية الرئيسية صامتة؟ كنوع من احتجاج؟

لا. هذه كذلك لم تكن استراتيجية. بدأ الصمت من أول فيلم قصير لي، «تكريم بالقتل»، صنعته كواحد من خمسة أفلام عن حرب الخليج. وهكذا كانت بداياتي. كان لي فيديو قبله، لا علاقة له بالسينما التي أصنعها اليوم، هو نوع من المونتاج السريع، أشبه بأفلام تلفزيونية ووثائقيات وهوليوود، عن كيف يتم تصوير العرب في الإعلام الغربي، لكن لا علاقة له بأفلامي. عندما أتيت لأصنع البديل، أردت أن أقوم بهجوم معاكس على سلاح يُستخدم ضدّي، كفلسطيني، سألت نفسي "هل سأقدّم لغةً بديلة؟" وبدأت. أتاني عرض لإنجاز هذا الفيلم القصير، وكان تكليفاً، لا برغبة منّي. أتى منتج ورأى الفيديو الذي صنعته وقال "هل تحب أن تصنع فيلماً عن حرب الخليج؟" قلت "نعم، أصنعه في نيويورك".

بدأت بكتابته، كان ذلك تجريبياً، لم يكن لدي بعد شعوراً عن "ما هي السينما التي أريد أن أصنعها؟" لم يكن ذلك تجريباً وحسب، بل مغامِراً كذلك. كنت أريد تقليد مايكلأنجلو أنطونيوني وجان-لوك غودار، إحالات لأفلام شاهدتها، كنت أُقحم لغتي الخاصة في ساندويش، كانت تنقصني الثقة بنفسي طبعاً، في وضعية كهذه، فاتّكأت على أسماء هي أكثر فكرية منها عاطفية. تتكئ على نص أكثر مما تتكئ على الصمت، وتتكئ على ما أنت متأكداً من أنّه سيمرّ وبسرعة، كي لا تفشل في نوع السرد السينمائي الذي فيه مخاطرة أكبر.

الاتكاء على ما هو مضمون.

نعم، أردت وضع عواميد. ذلك من عدم الثقة في النفس، لم يكن لدي لغة، بل فقط فكرة عن ما هي اللغة التي أردت استعمالها. كانت المرة الأولى التي أقف فيها خلف الكاميرا، فلم أعرف تماماً ما الذي سيحصل بعدها. أردت أن أرمي نفسي في هذا المكان لأرى أين يمكن للغة أن تأخذني، لم أكن أسيطر. أردت بداية أن أبحث عن ممثل، يمثلني أنا، كجالس في بيتي في نيويورك، تندلع حرب الخليج وأقلق على أهلي في فلسطين. بعدها انتبهت إلى "لمَ أبحث عن ممثل يشبهني، أنا هنا".

كانت هذه هي الخطوة الأولى التي أوصلتني إلى  أفلامي اليوم. كان حدساً أكثر من أي شيء آخر. والأمر نفسه بخصوص الصمت. شعرت أن هذه الشخصية -أنا- لا بد أن تكون صامتة، وأنّها ستُمثّل بهذه الطريقة، وشعرت أن الأصوات التي في الفيلم هي التي ستسرد وليس اللغة بالضرورة. أكملت بعدها كذلك. لو ترى سيناريو «سجل اختفاء»، في نسخه الأولى، ستجد شخصيات حقيقية موجودة في الناصرة، لكن السرد أتى من المخرج التايواني هاو هيساو-هايسن، وهو كان السبب لصناعتي أفلاماً اليوم، لأنّ المرة الأولى التي شاهدت له فيلماً، قلت لنفسي "آه، أنا بقدر أعمل أفلام". هو بعد ياسوجيرو أوزو طبعاً، وهو من المتأثرين بأوزو، فسيناريو «سجل اختفاء» كان فيه حبكة، فتاة وأخوها، وقصة، وأموراً كهذه، فيها عناصر لو صارت فيلماً لكان فيلماً جميلاً. وقد نال السيناريو الذي كتبته، الإعجاب.

لمَ لم تصنعه؟

صنعته، لكنّي شرّحته، صار «سجل اختفاء». أتت لحظة معينة قلت لنفسي فيها "لا، أريد تجريب لغتي الخاصة" رأيت أن السيناريو يشبه هاو هيساو-هايسن لكنّه في الناصرة. فيه تقليد وفيه حقيقة.

في تلك اللحظة خرجت بهذا الأسلوب الذي نراه في ما لحقه من أفلام.

نعم. حينها كنت أبحث عن لغتي الخاصة، ما تطلّب المخاطرة. لو كنت صنعت ذلك الفيلم، لكان فيلماً جميلاً، له سيناريو جميل، فيه دراما والكثير من الفكاهة، بعض  الملاحظات المكتوبة لهذا السيناريو أرويها اليوم في المزاح أحياناً. كان فيه مشهد لشرطة متخفّية. فجأة تصل سيارات، تشحّط عندنا، يخرج منها رجال شرطة بملابس مدنية ويسألون عما نفعله هنا. نكون جالسين ندخّن، لا نفعل شيئاً، مراهقين، يدفشنا، عند العين في الناصرة، ويديرنا إلى الجدار ويسأل، كما في أي بيئة غيتو. يسأل "ما هو شغلك؟" فنعطي أجوبة ساخرة كـ "بركّي عواميد"... أي لا نفعل شيئاً، ويظن الشرطي أن ذلك عملٌ لا يعرفه هو.

هذا مثلاً مشهد فيه سرد معقّد مع قصّة تراجيدية في نهايتها للفتاة التي كانت شقيقة الشخصية الرئيسية. شخصيتي أنا لم تكن هناك بالمرة. كان السيناريو مبنياً على شخصيات أعرفها، ما يذكّر بمجتمعات فيها شيء من الغيتو، شيء مافيوزي. مثلاً، كنت جالساً مرّة، في محل سوفينير، وقد كتبت هذا المشهد، يمر رجل من أمامنا، يدخّن، في صمت، يمر ويقول "هيّاني راجع". يعود بعد عشر دقائق وحين يشعل سيجارته نجد دماً على يده. نعرف أنّه نزل ولكمَ أحدهم ورجع وجلس بصمت وأشعل سيجارته، دون أن يشتم من ضربه حتى. هذا النوع من اللحظات السينمائية كان يجذبني. فيها صمت، وفي الوقت نفسه العنف الذي في البلد، تستطيع أن تخرج كل ما تريده عن البلد، الغيتو، من لحظات الصمت هذه. أردت أولاً صنع الفيلم لكني قلت "لا، لا بد من مخاطرة أكبر" وكانت تلك بداية فكرة انقلبت لتصير فيلم «سجل اختفاء»، وكانت مخاطرة مخيفة. اليوم لا أستطيع الدخول في مخاطرات كهذه. لن أذهب إلى مكان احتمال الفشل فيه عالية كتلك.

قرّرت أن أصوّر الفيلم كلّه دون حكاية، وكنتُ أنا المنتج. أتى فريق كامل، ضخم، من فرنسا، أجلستهم وقلت لهم "ليس هنالك حكاية للفيلم، فقط عندي لوحات، لكن لا بد أن يحصل شيء ما خلال التصوير، وذلك سيتحوّل لمركز الحكاية في الفيلم". سألوا "ما هو هذا الشيء؟" قلت "الحوادث تحصل دائماً"، لا بد أن يحصل شيء ما أثناء التصوير ويفتّح عندي فكرة لمركز تحوم حوله الحكاية، كبداية ووسط نهاية. فات الفريق كلّه بحالة رعب طبعاً. سألوا كيف لي أن أقوم بعمليّتي إنتاج، وهذا كلّه يحتاج لميزانية كبيرة وهذا يزيد من خوفهم. فكان أحدهم يأتي كل يومين يسأل "سيّد سليمان، هل من حادث؟ هل حصل شيء ما اليوم؟" أقول "لا شيء". مرّت أيّام ولم يحصل شيء وزادت حالة الرعب لديهم. قالوا "سينتهي التصوير ولا حكاية عندك؟" وأنا أردّ بأن شيئاً ما لا بد أن يحصل. وكانت الفكرة أنه عندما يحصل شيء ما، نوقف التصوير والكل يعود إلى بيته، وأنا أكمل كتابة الفيلم بناء عليه، وهذا ما حصل. في مرحلة معينة، كنّا نصوّر المشهد الذي تأتي فيه سيارة شرطة إسرائيلية، بسرعة مخيفة وتشحّط، ويخرج عدة رجال شرطة منها ليتبوّلوا على جدار. كان مشهداً خطراً جداً، لأن السيارة المسرعة كانت تشحّط في اتجاهنا ويمكن أن ترتطم بنا. وكان المنتج يسألني "هل التقطتَ المشهد الجيّد". أقول "لا"، وإن كان مشهداً جيّداً. كان يخاف أن تنقلب السيارة علينا. من المحاولة الأولى إلى الثانية عشرة، وقد صوّرت ٤ أو ٥ محاولات جيّدة. لكن لا أعرف ما كان يحصل في رأسي، إلى أن وصلنا إلى المحاولة التي يقع فيها الجهاز (الووكي توكي) من الشرطي الذي كان يركض بسرعة خلف السيارة، هو شرطي متأخر عن زملائه فيركض ليتبول معهم، وهذه بالمناسبة لقطة تهكمية من رامبو. يركض ويقفز ويقع منه الجهاز، بالغلط، ومن هناك أتت الفكرة، بعدها الشخصية الرئيسية (أنا) تجد الجهاز، تسمع أن عملية ستحصل، تعرف تفاصيل المهمة، وأنّها أُنجزت. تأخذ الجهاز وتضعه في مسرح "الحكواتي"، ثم تستعمله الفتاة كجزء من استعراض في الشارع. ويبدأون بالبحث عنها.

كل هذا المشهد، في الحكواتي، والفتاة، وما فعلته، والألعاب النارية، كُتب في ثلاثة أسابيع، وأنهينا التصوير، والجميع عاد إلى بيته، وهكذا صارت حبكة الفيلم. هذه المخاطرة مثلاً، لا أفعلها الآن.

أي أن المشاهد كلّها كانت مكتوبة مسبقاً في الفيلم الأخير؟

نعم، هنالك مشهد أو اثنان كتبتهما أثناء التحضير. هنالك مشاهد صوّرتها ولم أضعها، هنالك مشهد كبير جداً، متعلق بالشرطة الفرنسية وهي تلاحق أحدهم، في أكثر من مكان، وكان تتابعاً كوريوغرافياً، لكني وجدت أنه يكسر إيقاع الفيلم، فألغيته. لم يكن هنالك ارتجال. ومشهد آخر ضخم، فيه الكثير من الناس، مع الشرطة كذلك، صوّرته وحذفته لأنّه لم يكن كما أريد. هنالك مشاهد كنت قد حذفتها ثم أرجعتها. حذفتها لأسباب تخص الميزانية ثم أرجعتها، ثم حذفت غيرها. نستطيع القول أن الفيلم ممول بشكل جيد، لكن ليس تماماً، كان هنالك دائماً رغبة في تمويل أكبر، لأن الفيلم كبير، والمشاهد كبيرة، وفيه ثلاث عمليات ما قبل الإنتاج، وسفر كثير، وتأثيرات خاصة ضخمة. فكان هنالك قلق فيما يتعلّق بالقسم الخاص بنيويورك. فقد حذفت منه حوالي ٣٠٪ قبل التصوير لأنّ ميزانية هذا الجزء من الفيلم كانت صغيرة.

حذفته بعدما كان مكتوباً وجاهزا؟

كان مكتوباً في السيناريو، كنّا نتحضّر للتصوير.

بالحديث عن المَشاهد والتصوير، أول مشهد في الناصرة، في الكنيسة، هل كان سهل التصوير؟

لا، أبدًا، كان صعباً جداً.

لماذا؟

مشهد كهذا كان لا بد من يومين لتصويره، أنجزناه في ليلة واحدة، لكنه صُوّر كما يجب في النهاية. كان مشهداً أكبر، بزوايا أوسع، حذفت لقطات منه، كنّا نصوّر بمنطق الكر والفر. وما زاد المشهد صعوبة أنه احتاج إلى ممثلين إضافيين كثر، وهؤلاء يصعب تأمينهم، فليس هنالك أقسام لتأمين الممثلين الإضافيين، كما لدى الإسرائيليين. عندنا، لا بد من تجميعهم، فكان هنالك طلّاب سينما، وناس من البلد. بداية كانوا قليلين جداً، ثم أعلنا عن حالة طوارئ فاتصل كل واحد بأقرباء له للمشاركة. انتهى التصوير كما يجب أخيراً، لكنها لم تكن لحظة مريحة. أنهينا التصوير بشعور أنّ المشهد لم يُصوّر جيداً وأني سأحذفه، وتسبب ذلك بإحباط رهيب.

انتهى المشهد أخيراً كما تريده.

نعم، كما تراه أنت كمُشاهد، لكن خلال العملية ذاتها، تتعذب كثيراً عندما تعرف أنّ ما كنت تتخيله في رأسك لتصنعه، غير موجود أثناء التصوير، بسبب الوقت أو العدّة أو غيره، ولا تنسَ أن هذا المشهد أُنجز مع قلق بما يمكن أن يكون ردّ فعل الكنيسة. تعرف الكنيسة أن هذه القصة سترِد في الفيلم، لكني لا أعرف إن كانوا قد عرفوا المشهد، سنرى، إلى أن ينعرض الفيلم في الناصرة.

ذكرتني هنا في ما قاله جون كازافيتس مرة: "لا شيء مما تخطط له سيتحقق، الشيء الحيوي عن الفيلم أنّه يقاومك، يقول الفيلمُ لك: تظنّ أنّك ستفعل هذا وذاك، لكني سأفعل شيئاً آخر، وسأخبرك بما سأفعله." رغم أنّ كازافيتس يكتب حكاية بحبكة وغيره.

طبعًا.

إلى أي درجة إذن يكون ما نشاهده نحن قريباً من النسخة الأولى التي هي قصاصات الملاحظات التي حدثتني عنها، أو السيناريو؟

الأكيد أنّه قريب جداً. عندما أرجع إلى السيناريو وأقرأه، أجد أنه تقريباً ذاته كما في الفيلم. لكن الأكيد كذلك أنه بعيد جداً. فأنت، حين تكون جالساً هنا، ما يكون في خيالك لا يمكن أن يكون ذاته لما تتيحه الإمكانيات حين تصوّر، كما هي في الواقع. فتشاهد الفيلم كشيء مختلف عمّا كتبته لكن في الوقت نفسه أنت صوّرت تماماً ما كنت كتبته. إن أنت تلتصق بالسيناريو كنوع من الويكيبيديا، أو الكتاب المقدّس، ويكون بالنسبة لك مرجعاً، سيكون الفيلم فاشلاً بالتأكيد، فلا عفويّة هنا. ففي البداية أنت تكتب السيناريو، ثم يمر بعض الوقت، فكيف يمكن لك أن تتأكد من آنية اللحظة المكتوبة أثناء التصوير، إذن لا بد أن تنسى السيناريو حينها. لا بد أن يكون لديك إلهام أثناء العمل. لأنّك إن تنفّذ ما هو في السيناريو فقط: ٤ يأتون من هنا، ٥ من هناك... يكون ذلك تطبيقاً وحسب. لا أقوم أنا بذلك. بل أثناء التصوير، كي أشعر أنّي الآن أبدأ العمل، من جديد، كي يكون هنالك إحساس لدى المُشاهد بأن هذه الآنية موجودة، وإلا يشعر بأنّه شيء من "الزمن الماضي"، بالتالي، إن أردت منح هذا الشعور "بالزمن المضارع" للمُشاهد، لا بد من دخول المخاطرة مرة أخرى. ما أفعله هو أني بعدما أكون قد كتبت السيناريو، وفي قسم الإنتاج والأقسام الأخرى، وكل قسم يريد ما يريده، ما أحاوله أثناء التصوير هو كأن تقوم بالواجب المنزلي لكنّك لا تحضره معك إلى المدرسة. هذا ما أحاوله وإن كان مخيفاً أحياناً. لا بأس، حين يصل الخوف إلى درجات معيّنة أعود إلى السيناريو وأقول "آه صحيحة هذه الشخصية، فهمتُ الآن لم قمت بذلك". لكني لا أعود إلى السيناريو كمُرشد أو دليل. هو ليس كتاباً مقدساً. فيحدث الإلهام، ولا بد أن يحدث، بالتالي تبقى مشحوناً بالخلق أثناء التصوير.

تشتغل فترة طويلة على السيناريو، لسنين، فمن المستحيل أن تنسى ما كتبته، لكنه يعطيك مساحة لتحلم من جديد. حتى في الماستر كلاس، أنصح المخرجين بعدم الالتزام بالنّص لأنّه يحدّدهم، فالنّص كُتب مسبقاً، وستعود لكتابته أثناء قراءته، لا بد من كتابته من الأوّل. قراءة السيناريو لا بد أن تكون إعادة كتابة له. أنا أعطي السيناريو للمساعد، وأقول له بأن يبقيه لديه، وهو دائماً معي، حين أشعر بأنني ضعت قليلاً، أعود وقتها إلى النّص.

بعض الأمور أثناء التصوير تعطيك إمكانيات لم تكن تحلم بها حتى، تنظر حولك وتقول "نعم هنالك ما هو مثير للاهتمام، أحدهم يأتي من هنا وليس هناك مثلاً، بسبب الخلفية أو الإيقاع أو غيره". لا بد من شغل عفوي وابتكاري أثناء التصوير. إن كان لديك الوقت لذلك، عظيم، وإن لم يكن، لا بد أن تضغط نفسك قليلاً لتشتغل هكذا.

 

في الجزء الثاني من المقابلة والمنشورة غداً، يتحدّث إيليا سليمان أكثر عن كتابة السيناريو، عن العنوان «إن شئت كما في السماء»، عن "الجنة" المقصودة، عن عولمة الحالة الفلسطينية، عن التنبّؤات أثناء الكتابة لأفلامه، عن التفاؤل والتشاؤم وإسرائيل، عن تغييرات في المشهد الأخير للفيلم، عن الجيل الجديد وأساليب المقاومة، عن الصمت كأسلوب سردي سينمائي ومقاوِم، عن الاستهلاك في السينما، عن جاك تاتي وبستر كيتن، عن معنى "أنا فلسطيني" التي قالها في الفيلم، عن فكرة "الغريب التام" والهوية الفلسطينية التي قويت مع هذا الفيلم، عن التوقعات من عرضَي رام الله والناصرة...
 

يُعرض «إن شئت كما في السماء» ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" في رام الله (٢ أكتوبر) وفي الناصرة (٤ أكتوبر).

 

إلى الجزء الثاني من المقابلة...