يُعرض اليوم ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

"ورد مسموم" ... ابتسموا للصورة من فضلكم!

2019-10-05 12:00:00

لا يهمّ ما يجري لسكانِ القبور، لا يهمّ أبدًا ما يعيشهُ المشرّدونَ والمغيّبون، والحديثُ عن الفقر والجوع والديكتاتوريات حديثٌ طويل كما هو معروف، المهمّ الآن ألّا يصرخَ القتيلُ وهو يموت فيزعجَ النائمين بهناء. وألّا يكشّرَ سكّانُ حيّ المدابغِ وسواه من الأحياء المماثلة عن أسنانهم المنخورة بينما الأقمارُ الصناعيّةُ الدوليةُ تلتقطُ الصورة...

اختلفت الطرائقُ التي يسلكُها منتجو الإبداع للتعبيرِ عن علاقاتهم بأوطانهم أو بأماكن إقامتهم على مدار التاريخ. من أولئكَ من يجد أنّ مكافأةَ الأوطان تكون بتخليدِها عبرَ كيلِ المديح، ومنهم من يعتبرُ أنّ المعنيّ بالمكان، معنيٌ بالضرورةِ بنبشِ عيوبِه أملًا في تصحيحها.

اختلافٌ قد يكون منبعهُ اختلاف تعريف الأوطان نفسها، فهل بالإمكانِ التعاملُ مع الأوطان كأماكن مجرّدة يُمكنُ اعتبارها قائمة بمعزلٍ عن سكّانه وظروف حيواتهم؟

الثقافة العربية لطالما حفلت بمثل هذه الثنائيات، بين مديح الأوطان واللوم عليها وعتابها، بل وهجائها أيضًا. والأمثلة على ذلك كثيرة عبر تاريخ الثقافة العربية. تحضرُني في هذا السّياق قصيدة للشاعر السّعوديّ علي العمري اسمُها "الرّياض" من مجموعته الشعرية أبناء الأرامل، يصفُ فيها الرّياض فيقول: الرّياض / قصرٌ / أينما حامَ اللصوصُ.

ويذهبُ أبعد من ذلك فيقول إنّ الرّياضَ: طعنة في الظهر / تجرّها الحاجة إلى السلامة. / مزرعة الرّيبة / في انتظار / قادمٍ سينهار.

قبل علي العَمْري بعقودٍ طويلةٍ، كتب شاعرُ العراق الكبير بدر شاكر السيّاب في قصيدته الخالدة "المومس العمياء": ويحَ العراقِ أكانَ عدلًا فيهِ / أنّكِ تدفعينْ / سهادَ مقلتِكِ الضريرةْ / ثمناً لملء يديكِ زيتًا / من منابعِهِ الغزيرةْ / كي يُثمرَ المصباحُ بالنورِ الذي / لا تُبصرينْ؟!
 


في فيلمِهِ الروائيّ الطويل الأول "ورد مسموم" المعروض حالياً ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، عاد المخرج المصريّ أحمد فوزي صالح لتسليط الضوء على منطقة المدابغ في القاهرة القديمة، وقد كانّ الحيّ ذاتُهُ بطلَ أول أفلامهِ التسجيلية "جلد حيّ" قبل أعوام.

ورغمَ أنّ فيلم "ورد مسموم" مأخوذ عن رواية "ورود سامّة لصقر" للروائي المصري أحمد زغلول الشيطي، إلا أنّ متابعَ الفيلم لا تشدّهُ حكايةٌ أو متانةُ حبكة، ذلكَ أنّ المخرج أحمد فوزي صالح أجرى تعديلاتٍ لا تبدو بسيطةً في السيناريو، ما فتحَ الباب أمام الكاميرا لتدخلَ إلى الحيّ فتعيشُ مع أهله، وسط المياه الكيماوية الآسنة التي تجري بين بيوتهم. الناسُ هم الأبطال حتى وإن لم يقولوا أيّ شيء أو يُطلِقوا أيّ حكمةٍ من تلك التي اعتدنا سماعها من أبطال الأفلام!

الحيّ المسحوق المُعدم، الذي يعيشُ سكّانُهُ ظروفًا تكادُ لا تُصدّقُ لولا الأرقام الإحصائية التي تُخبرُنا عن حجمِ الفقرِ والعوز الذي يعيشُهُ المصريون اليوم، هو البطلُ إذن. الصورةُ التي تنقلُها كاميرا أحمد فوزي صالح بإتقانٍ وإبداعٍ شديدين للحياة اليومية هناك، لا تحتاجُ إلى كلماتٍ كثيرةٍ أو سيناريو مُحكم لتوصل للمتلقّي ما يجبُ إيصاله.

ومن الطبيعيّ والحال كذلك ألّا يُعجبَ الفيلم، الحاصل على عدد كبير من الجوائز، شرائحَ واسعة من الذين لم يروا فيه إلا تشويهاً لمصرَ وصورتِها في العالم. وقد حصلَ الفيلمُ على نصيبٍ وافرٍ من سهامِ النقد هذه، وقد كنتُ حاضرًا على إحداها، في الدورة الثامنة لمهرجان مالمو للسينما العربية ٢٠١٨، حيثُ ثارت ثائرةُ عددٍ من "نجوم الشباك" في مصر، فورَ نهاية العرض. أذكرُ أنّ الممثل بيّومي فؤاد استشاطَ غضبًا وهاجمَ مخرجَهُ ببلطجيةٍ مثيرة للاشمئزاز معتبرًا مصرَ أفضل من الصورة التي قدّمها الفيلم عنها.

هو ده اللي انته شايفه من مصر يا أحمد يا فوزي يا صالح؟!!

مفيش وردة واحدة في الفيلم؟!ّ

بهذه الكلمات وما يماثلها، صرخَ بيومي فؤاد في قاعة بانورا للسينما في مدينة مالمو جنوب السويد. والحقيقة أنّ الفيلم لم يقل إنّ هذه مصر على الإطلاق، ولا حتّى مخرجهُ قال هذا، إنما اكتفى بالردّ إنّ على المصريين المنزعجين من "نشر غسيلهم الوسخ" أن ينظّفوهُ أولاً!
 


لم ينزعج بيومي فؤاد، أو سواهُ من منتقدي الفيلم للأسباب ذاتها، من أنّ حوالي أربعين مليون شخص يعيشون تحت خطّ الفقر. لم يُبدِ أحدهُم انزعاجاً من أنّ عشرات الآلاف، وربما مئات، ينامون في المقابر لعدم توفّرِ سكن لديهم. لم يُبدِ أحدهم اعتراضًا على الفقر الذي يعيشُهُ هؤلاء، لم يحتجّ في مهرجانات السينما العالمية على المثقفين الذين يتعرضون للسجن والتضييق على حرياتهم وحرياتِ أسرِهم وذويهم بينما يعيشُ أولئكَ النجوم في الطائرات المتنقلة بين مهرجانات السينما الدولية لنقلِ الصورةِ الحقيقيةِ عن "أمّ الدنيا"!

لا يهمّ ما يجري لسكانِ القبور، لا يهمّ أبدًا ما يعيشهُ المشرّدونَ والمغيّبون، والحديثُ عن الفقر والجوع والديكتاتوريات حديثٌ طويل كما هو معروف، المهمّ الآن ألّا يصرخَ القتيلُ وهو يموت فيزعجَ النائمين بهناء. وألّا يكشّرَ سكّانُ حيّ المدابغِ وسواه من الأحياء المماثلة عن أسنانهم المنخورة بينما الأقمارُ الصناعيّةُ الدوليةُ تلتقطُ الصورة...