مهدي فليفل وسؤال الهوية بلغته السينمائية الخاصة

2019-10-07 13:00:00

مهدي فليفل وسؤال الهوية بلغته السينمائية الخاصة
https://iffr.com

يبتعد مهدي في أسلوبه عن النمطية التي نراها في الكثير من الوثائقيات الفلسطينية، سواء على مستوى الموسيقى واختيار الأغاني التي عادة ما يختارها مهدي لتكون صوتاً داخلياً يأتي من داخل حياة الناس الشعبية، ولا تأتي مؤثراً خارجياً ليخلق دراما للمشهدية، فمشهد مهدي مليء بالدرامية المدروسة بعناية. كما يبتعد عن الكليشيهات في تناول الموضوع والقضية، مشتغلاً على الإنسان في الحكاية.

في فيلمه الوثائقي القصير الأخير "لقد وقّعت على عريضة" (١٠ دقائق، إنتاج ٢٠١٨)، المعروض حالياً ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" بدورته السادسة ٢٠١٩، وفي مسابقة طائرة الشمس، يقدم المخرج الفلسطيني الدنماركي، مهدي فليفل تجربة جديدة تنتمي لسلسلة التجريب الذي يقوم به في مشروعه السينمائي، منذ تخرجه من الجامعة الوطنية للأفلام والتلفزيون من المملكة المتحدة عام ٢٠١٠، وتأسيسه مع شريكه  شركة "نكبة فيلم وركس" الذي أنتج من خلالها فيلمه الأول "عالم ليس لنا" عام ٢٠١٢.

في فيلمه الأخير "لقد وقعت على عريضة"، وهو فيلم تقوم سرديته على مكالمة هاتفية صباحية بين صديقين تمتد على مدار الفيلم، بعد توقيعه على عريضة عبر شبكة الإنترنت، وجد نفسه غارقاً في هستيريّا من التشكيك بالذات، يقوم بتحليل وتفكيك معنى قراره بالتصريح علناً عن دعمه للمقاطعة الثقافية لإسرائيل. مازجاً كذلك في الفيلم ما بين الدراما المتخيلة مع الواقعية، مركزاً فيلمه على الخطاب والصور المباشرة من المكان والذاكرة، بحيث يترك أسئلة كثيرة للمشاهد بعد المكالمة التي امتدت على مدار الفيلم، هل كانت تلك مكالمة حقيقية مع صديقه أم هي ضمن سيناريو موضوع مسبقاً؟

للمتابع لتجربة فليفل، يرى أن مهدي ينطلق من التجريب أساساً لأسلوبه، ويمكن أن يمازج فيه بين أجناس الفيلم، وهو في فيلمه هذا يقترب أكثر من تجربة لفيلم تجريبي قصير "عشرون مصافحة سلام" إنتاج ٢٠١٤، يكرر فيها مشهدياً المصافحة الشهيرة بين ياسر عرفات وإسحاق رابين وبيل كلينتون يوم اتفاقية أوسلو ١٣ سبتمبر ١٩٩٣، أضاف له بصوت الناقد الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، مفارقة التقطها إدوارد سعيد وهو يتحدث عن عملية السلام في أوسلو، حين مدّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يده لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين.

سيرة ذاتية للاجئين في عالم ليس لهم (٢٠١٢)

جمعت معظم أفلام مهدي الأخرى ثيمة اللجوء، تحديداً اللجوء الفلسطيني ابتداءً من فيلم سيرته الذاتية "عالم ليس لنا"، "رجل يغرق"، "عودة رجل"، "زينوس". وتبحث كاميرته دوماً عن التفاصيل الصغيرة لتصنع الحكاية، تلك التفاصيل التي يبحث عنها أيضاً في الأرشيف، لتخلق سياقاً قائماً على المعايشة اليومية والحدث.

ومهدي أيضاً لاجئ، ولد في دبي لعائلة فلسطينية لجأت من فلسطين إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، ولاحقاً انتقلوا للدنمارك التي يحمل مهدي جنسيتها اليوم. ويشكل مشروعه السينمائي بتقديري، بحثَ مهدي السينمائي عن سؤال الهوية، وعن معنى اللجوء، وعن معنى أن تولد لاجئاً. فكما يقول في "عالم ليس لنا": "حين تنتهي الإجازة الصيفة كنت أغادر عين الحلوة لأذهب أينما أشاء، لكن بالنسبة لأصدقائي فتلك قصة مختلفة". تلك القصص المختلفة التي صنع منها مهدي أفلامه.

يعتبر "عالم ليس لنا"، الذي اقتبسه عن اسم المجموعة القصصية للروائي والكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، فيلمه الأول، على الرغم من أنه أنجز مجموعة أفلام قصيرة أخرى أثناء دراسته، إلا أن هذا الفيلم شكّل علامة فارقة في مسيرته، وقدمه كمخرج حائز على عدة جوائز، وهذا الفيلم وهو وثائقي طويل، ينتمي لأفلام البيوغرافيا، أو السيرة الذاتية، تتداخل فيه سيرة مهدي الذاتية مع قصص أصدقاءه الذين يغادر كل عام بعد أن يقضي معهم إجازته الصيفية، ويتركهم عالقين يربّون الأمل في سجنهم، مخيم عين الحلوة، لكنه لاحقاً يذهب إليهم في اليونان وفي نيته عمل فيلم عنهم، تنتهي تلك الزيارة في الأعوام اللاحقة بثلاثة أفلام.

كوابيس واقع اللاجئين العالقين (٢٠١٤)

كان فيلمه "زينوس"، إنتاج ٢٠١٤، الذي اقتبس اسمه من المفردة اليونانية التي تعني الغريب، وهو واحد من أفلامه التي كان قد صورها في زيارته لأصدقاءه العالقين في اليونان، كجزء من عملية البحث والتطوير لفيلم يعمل عليه ويبحث له عن تمويل، ويتناول ذات موضوع فيلم زينوس: قصة مجموعة شباب عالقين باليونان. وبعد أن عاد بالمواد المصورة اكتشف أن ما بين يديه من مواد مصورة يمكن أن تكون فيلماً بحد ذاتها. وهي ذات الثيمة التي عمل عليها في عددٍ من أفلامه اللاحقة، التي تتناول حكايات مجموعة من الشباب من مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، خرجوا من سجنهم الصغير في عين الحلوة ليصبحوا لاجئين عالقين في سجنهم الكبير، أثينا.

كان هذا الفيلم فاتحة لمجموعة أفلام لاحقة أنجزها مهدي ما بين أثينا وبيروت، ما بين ٢٠١٤ و٢٠١٧، في تلك السلسلة من الأفلام، تبدو الحكايات مثل الكوابيس لمن يسمع حكاياتها من أصحابها، تلك الكوابيس أو الحكايات السوداوية التي نميل لمشاهدتها كدراما حتى لا نصدق أنها تحدث في عالمنا، في العالم الذي ليس لهؤلاء اللاجئين الغرباء، بحسب عنوان فيلم مهدي "عالم ليس لنا".

تسجيلي درامي ما بعد حداثي ٢٠١٦

من أثينا ينتقل مهدي في فيلمه اللاحق، الوثائقي القصير عودة رجل "Man Return"، إنتاج ٢٠١٦، الذي يروي فيه محاولة صديقه رضا الهرب من مخيم عين الحلوة بعد ثلاث سنواتٍ قضاها عالقاً في اليونان، ليعود مرة أخرى إلى لبنان مدمنًا للهيروين، ليجد الوضع في المخيم قد تغير بشكل جذري بسبب تداعيات الحرب في سوريا، لكن كل هذه المشاكل لا تمنعهُ من قرار الزواج بحبيبة الطفولة.

رجل يغرق في بيروت (٢٠١٧)

في العام التالي، أي ٢٠١٧، جاء فيلمه القصير "رجل يغرق" (A Drowning Man)، ليشكل علامة فارقة أخرى في مسيرة مهدي، عاد فيه إلى اليونان حيث كان فيلمه "زينوس"، ليحكي حكاية أخرى عن "فاتح"، الرجل الغارق في أثينا بالهموم والمشاكل وضغوطات الحياة اليومية، حيث ترشح هذا الفيلم في عدة مسابقات أفلام دولية ونال عدة جوائز، من بينها ترشحه إلى قائمة أفضل فيلم بريطاني روائي قصير في النسخة الـ71 من حفل توزيع جوائز البافتا البريطانية، وفي مسابقات أخرى رشح عن فئة الفيلم الوثائقي القصير، فالفيلم يمزج ما بين الوثائقي والدرامي، ونال شخصيته الرئيسية الممثل "عاطف الشافعي" الذي لم يكن ممثلاً بل لاجئاً فلسطينياً عالقاً في أثينا ابتدع له مُخرج الفيلم حكاية في سياق حياته اليومية، يلجأ لسرقة حذاء من محل تجاري، وهي الجزء الدرامي من الحكاية، نال الفيلم جائزة أفضل ممثل، ليفتح الجدل حول تجربة مميزة ما بعد حداثية تمازج أجناس الفيلم ببعضها بحرفية عالية.

شخصيات قوية

شخصيات مهدي التي يختارها لأفلامه، هي شخصيات قوية وشجاعة رغم المأساة التي تعيشها، تقاتل بشراسة في غابة العالم القاسي لتبقى، فهي لا تمتلك الكثير من الخيارات، كما في "عالم ليس لنا"، الذي وثق فيه مهدي أيضاً لحكايات أصدقاءه من خلال سيرته الذاتية، وكذلك فعل في "زينوس" و"رجل يغرق" و"عودة رجل"، وتلك ليست مصادفة، فصانع الأفلام المتمكن من لغته البصرية وأدواته يفهم جيداً أن ليس هنالك حكاية جيدة تصلح لأن تكون فيلماً، وأخرى رديئة، فأي حكاية يمكنها أن تكون فلماً جيداً إن امتلك صانعها لغته السينمائية وأدواته ولغته السردية، ومهدي يتقن فن سرد الحكاية ببراعة.

مخرج تجريبي جريء

قبل عامين، سألت مهدي فليفل بعد عرض فيلمه "رجل يغرق"، ضمن فعاليات "أيام فلسطين السينمائية" في مالمو التي نظمتُها عام ٢٠١٨ بالتعاون مع "الجمعية الثقافية الفلسطينية" في المدينة، عن مزجه الوثائقي بالدرامي في فيلمه، وعن جرأته في استخدام الكاميرا، التي ينحاز فيها للحكاية واللغة البصرية على حساب الجودة التقنية للصورة، قال لي حينها: "لا يجد فرقاً بين الوثائقي والدرامي، هنالك فيلم وحين تفكر فيه كفيلم لا يهم إن امتزجت الحكاية المتخيلة مع تفاصيل الواقع."

يبتعد مهدي في أسلوبه عن النمطية التي نراها في الكثير من الوثائقيات الفلسطينية، سواء على مستوى الموسيقى واختيار الأغاني التي عادة ما يختارها مهدي لتكون صوتاً داخلياً يأتي من داخل حياة الناس الشعبية، ولا تأتي مؤثراً خارجياً ليخلق دراما للمشهدية، فمشهد مهدي مليء بالدرامية المدروسة بعناية. كما يبتعد عن الكليشيهات في تناول الموضوع والقضية، مشتغلاً على الإنسان في الحكاية.

مهدي مخرج تجريبي ما بعد حداثي بامتياز، وباعتقادي هو الأكثر جرأة في التجريب من بين كل صناع الأفلام الفلسطينيين الحاليين، التجريب المدروس الجريء، فهو لا يخشى مزج المدارس السينمائية ببعضها، هذا التجريب الناضج جعله صائداً للجوائز، فقد عرض فيلمه "عالم ليس لنا" في مهرجان تورونتو العالمي للأفلام وحاز على أكثر من ٣٠ جائزة عالمية منها برلينال (ألمانيا)، وأدنبرا، وياماغاتا، وجائزة لجنة التحكيم- دوك: نيويورك. في عام ٢٠١٦، حاز على جائزة الدب الفضّي لفيلمه "عودة رجل"، وشهد فيلمه "رجل غارق" العرض العالمي الأول بمهرجان كان السينمائي عام ٢٠١٧ وحاز على جائزة أفضل فيلم قصير في الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون BAFTA عام ٢٠١٨. أما فيلمه الأخير "لقد وقّعت على عريضة" فقد حاز على جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير من مهرجان الأفلام التسجيلية في أمستردام IDFA​ للعام ٢٠١٨، وترشح أيضاً لجوائز الأفلام الأوروبية عام ٢٠١٨.