عُرضت ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

"إجرين مارادونا" و"المدن الغريبة المألوفة" يخطفان الأنفاس 

2019-10-09 04:00:00

في المشهد الأول يعطي الفيلمُ انطباعاً أنه وثائقي مختلط بالروائي إذ يكون هناك أربعة رجال متحلقين حول طاولة في مقهى بأحد المدن الإنجليزية يغنون من تراثهم، وتبدو الصورة طبيعية تماماً كما هو صوتهم يصدح بالغناء، يرن هاتف "بكري" ليتم تبليغه بأن ابنه تم إطلاق النار عليه في الوطن.

يخطف فيلم "اجرين مارادونا" الذي عرضه مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" في رام الله الأنفاس منذ أول مشهد حتى نهايته التي تُكللها أغنية "ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلة" لفرقة العاشقين، فهو فيلم يربط بين الانتفاضة الأولى، والشغف الجماعي باللاعب الشهير ديغو مارادونا، وما كان يمثله لجيل المراهقين والأطفال وحتى الكبار في ذلك الوقت، وكأن انتصاره وفوزه أمر شخصي، وتعبير عن حالة خروج من يأس كبير سببه الاحتلال الإسرائيلي، وعزلة القضية الفلسطينية عن محيطها في ذلك الوقت.

والفيلم من تأليف وإخراج فراس خوري، وإنتاج مي عودة، وتعود أحداث الفيلم إلى كأس العالم في عام 1990، إذ يتابعها الشقيقان رأفت (11 سنة) وأدى دوره الطفل فارس عباس وفضل (7 سنوات) وأدى دوره الطفل أيوب أبو حمد، ويشجعان منتخب البرازيل ومعهما عائلتهما والجيران، كما يجمعان الصور لإلصاقها في ألبوم مخصص لمنتخبات كأس العالم، ما يضطرهما إلى سرقة المال من أبيهما الذي أدى دوره الممثل علي سليمان، من أجل شراء جميع الملصقات المتاحة لإكمال صور لاعبي منتخبات كأس العالم.

ولكن تبقى لهما صورة واحدة مفقودة لقدميّ مارادونا وإحداهما تركل الكرة، فيقومان برحلة في البلدات الفلسطينية المحيطة بهما للعثور على الملصق الأخير واستكمال الألبوم حيث سيحصلان حينها على جهاز "أتاري" كجائزة، ويكون هذا البحث والشغف بمارادونا وفريقه سبباً كي يتعرفا على الكثير من قيم تقبل الخسارة وأخلاق التشجيع الكروي، ومعنى الانحياز لفريق دون غيره في مواقف ومشاهد متقنة تجمع بين التراجيديا والكوميديا.

ويمثل الفيلم أحلام وميول جيل بأكمله، في مشاهد خفيفة، لكن باقية ودون أن يتم تسطحيها بل تعبر عن فترة زمنية هامة تعلقت فيها الجماهير بمارادونا، وبنت آمالها على ربح فريقه حتى ولو لم يحدث ذلك.

واسم الفيلم "اجرين مارادونا" بالعامية الفلسطينية ما يجعل وقعه غريباً قليلاً، ومع ذلك فإن السيناريو مبدع ومتمكن، كذلك التمثيل، خاصة الأطفال الذين لم يسبق لهم التمثيل من قبل، ما يلقي كثيراً من الضوء على حرفية المخرج وجهوده مع طاقم العمل.

وتتنوع قائمة الأفلام القصيرة الروائية لمهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، مواضيعها وجودتها، ودرجة الرهان على حب المتلقي لها، فلا يمكن القول إن جميعها تجعلك تبتسم أو تتابعها حتى النهاية بذات الدرجة من الاهتمام.

 ومن هذه الأفلام الروائية القصيرة؛ فيلم "أنا وهو" للمخرج الشاب إبراهيم حنضل، من إنتاج دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة، ويتناول يوميات شابة تعيش حياة مزدوجة، طبيعية في الخارج، ومبينة على أوهام في داخل منزلها، فكما يبدو؛ هي دائمة التخيل بأنها تعيش بصحبة رجل في حياتها اسمه جورج، وغالباً هذا الرجل كان موجوداً في السابق وليس من نسيج خيالها بسبب صورة معلقة لهما على الثلاجة، لكنها لا تزال تتعامل معه على أنه موجود؛ تلقي عليه تحية الصباح، تترك له رسائل صوتية على مسجل هاتف منزلهما، كما تضع له فنجان من القهوة مع فنجانها.

وعلى الرغم من أنه يحسب للممثلة إجادتها للدور، وللمخرج جمال المَشاهد لتفاصيل المنزل وهو فارغ، والتي ترك لها مساحة في عمر الفيلم القصير البالغ 13 دقيقة فقط، وانعكاس الضوء والظل فيها، إلا أن الفيلم بارد، وأعاد تكرار ثيمة قديمة دون تجديد أو جرأة أو انطلاق حول الوحدة، ووحدة النساء خاصة.

ففي الفيلم غياب لروح المرأة المستقلة، والذات المتحققة وكأن وجودها لا يصح سوى بالرجل، وربما أراد المخرج ببساطة أن يعبر عن قيمة العائلة، بعيداً عن رجل وأنثى لكنه في كل الأحوال هدف لم يصل، ويترك تساؤلاً فضولياً حول شكل الفيلم لو صنعته امرأة مخرجة.

أما الفيلم الذي جاء من قائمة الأفلام الروائية القصيرة للمهرجان مخيباً للآمال، فهو فيلم "في المختبر" من إخراج لاريسا صنصور وسورين ليند، فقد حوى كثيراً من التنظير والحوار مقابل القليل من الأحداث التي يظهر أغلبها في الحوار أيضاً، ويبدو أن فلسفة السيناريو تغلبت حتى على أداء ممثلتين كبيرتين كهيام عباس وميساء عبد الهادي، وجعلت الفيلم يبدو وكأنك تقرأ كتاباً، ولعلّه كان أمراً جيداً لو لم تكن صورة الفيلم بتلك الجودة، ما جعلك لا تحصل على كتاب كامل أو فيلم كامل.

ولا أعتقد أنه يجب أن يبدو الفيلم الخيالي معدنياً كما أزيائه وديكوراته، فكان بالإمكان أن يحوي كثيراً من حياة ودراما وفي الوقت ذاته خيالياً ورمزياً، ومعادلاً موضوعياً لمأساة الأرض والذاكرة الفلسطينية، خاصة أنه من صنع طاقم محترف من مصورين ومخرجين وممثلات.

والفيلم الذي جاء بالأبيض والأسود، وفي شاشة مقسمة نصفين في معظم المَشاهد، يبدأ بلقطة أخاذة لما يشبه حبراً أسود يجري في شوارع مدينة بيت لحم ويغطيها، إلا أنه يبقى المشهد الأقوى في الفيلم حيث تتوالى الأحداث لكن على لسان الشخصيتين الرئيستين داخل مُجمّع تحت الأرض، وتتعرف عبرهما أيضاً إلى أن كارثة بيئية أنهت الوجود البشري في مدينة بيت لحم، حيث تحول مفاعل نووي مهجور إلى بستان ضخم أسفل مدينة بيت لحم المقدسة.

 ويستعد مجموعة من العلماء لإعادة زراعة التربة باستخدام البذور التي جُمعت قبل أيام من نهاية العالم، وحينها يلتقي جيلان من النساء؛ الأول من أصحاب القرار بالتغيير والثاني ضحية هذا التغيير في حوار حول الحاضر والماضي والمستقبل واستعارة الذاكرة، والحنين، والذكريات البديلة المؤقتة.

أما الفيلم الذي من الممكن القول بأنه واحد من أجمل الأفلام الروائية القصيرة التي تم إنتاجها مؤخراً وعُرضت في المهرجان، فهو فيلم "المدن الغريبة المألوفة" لسعيد تاجي فاروقي، ولا أدرى من ساهم في صعود الثاني: محمد بكري بأدائه المذهل الذي لا يشيب أبداً كما حال صاحبه، أم هي حكاية الفيلم الجميلة والبسيطة والإخراج المبدع على الرغم من أنه كان منطلقا في مشاهد ومتردداً ومكرراً في مشاهد أخرى.

في المشهد الأول يعطي الفيلمُ انطباعاً أنه وثائقي مختلط بالروائي إذ يكون هناك أربعة رجال متحلقين حول طاولة في مقهى بأحد المدن الإنجليزية يغنون من تراثهم، وتبدو الصورة طبيعية تماماً كما هو صوتهم يصدح بالغناء، يرن هاتف "بكري" ليتم تبليغه بأن ابنه تم إطلاق النار عليه في الوطن.

فجأة تصبح الطاولة التي بجانبه تنتمي إلى هناك، بل هي جزء من المظاهرة والأحداث حيث يضعون عليها ابنه النازف، وحوله شباب يحاولون إسعافه وسط هتافات وأصوات مرتفعة، بينما الجريح ينظر إلى والده وكأن اللحظة حية، وهي حية في المشهد، لكنها ليست سوى صورة في عقله تنتقل إلى حاضره حيث جميع من في المقهى مشغولون بالغناء ولا أحد منهم يرى المتظاهرين. مشهد قوي، ولا يقل أداء بكري الصامت عنه قوة، ثم تستمر هذه الكابوسية الكافكاوية والتي هي ليست من كافكا تماماً، بل مستوحاة من كتابات مريد البرغوثي كما هو موضح في التعريف عن الفيلم بصفحة المهرجان على الإنترنت.

يبقى الأب يمشي هائماً على وجهه مع الفجر في شوارع غريبة لكن فجأة تصبح منتمية لمدن مألوفة حيث يسمع صوت طفل يبكي، فيدخل مكاناً فيه خيمة، وإمرأة تقف بين ما يشبه ندف الثلج يسألها "سعاد... وين رح تروحي" وهي صورة أخرى من رأس هذا المغترب في برد بريطانيا.

يمشي تائهاً لا يملك المال ولا حتى الأوراق اللازمة لسفره، يسترجع ذكرياته، شاعراً بالذنب حين ترك كل شيء في البيت بما فيه ابنه، ومع ذلك تشعر أن حزنه على ابنه همد قليلاً، فيأسه أكبر من حزنه وعجزه أكبر من لهفته على السفر وقدرته على فعل شيء، فشارع الاغتراب يبتلع الإنسان دون أن يقتله، بينما شوارع الوطن تبتلع الإنسان حين تعي قيمة موته!