يوميات المهرجان... كمال الجعفري في فوضى متاهات البيروقراطية

2019-10-09 18:00:00

يوميات المهرجان... كمال الجعفري في فوضى متاهات البيروقراطية
zimbio.com

أول فيلم أخرجته تم تصويره في جنيف، ثم عدت للبلاد وقمت بإخراج فيلم يتحدث عن المكان الأول، المكان الذي ولدت فيه. أعرف أن هناك تناقض نوعًا ما في سيرورة العمل هذه، أن تخرج من المكان ثم تعود إليه وتوثقه بالكاميرا، لكن بالنهاية كل أفلامي حالات تشبه الوضع الفلسطيني.

في الفيلم الوثائقي القصير "جميعنا أتينا من هناك" يصور لنا المخرج الفلسطيني كمال الجعفري غرفة انتظار في دائرة الهجرة في برلين حيث ينتظر الكثير من الناس بعد رحلة عبر البحار والكثير من التحديات.

هؤلاء جميعًا مجردون من المفاهيم الإنسانية وهم عبارة عن أرقام تنتظر مصيرها... من خلال الفيلم يعكس لنا الجعفري مفهوم الأصل والعرق وتشعب جذور البشر في وسط واقع سياسي يحدد مسار حياتنا ويحكمه ويتساءل: ماذا نحن الآن منذ نقطة الأصل وحتى فوضوية متاهات البيروقراطية؟ 

في نهاية المسار يجمع الجعفري كل الأرقام الظاهرة على شاشة العدّ، تسري جميعًا واحدًا تلو الآخر لتشكل معًا دمًا جديداً يندمج ويتجانس ويشكّل من طالبي اللجوء في دائرة الهجرة المختلفين بشرًا بدم جديد..

كيف ولدت فكرة جميعنا أتينا من هناك؟

الفكرة ولدت لأن الشخص الذي يظهر في الفيلم هو صديق فلسطيني يعيش في برلين ويعمل في متحف الطبيعة، وفي إحدى زياراتي له تصفحت كتابًا يتحدث عن نظرية النشوء والتطور جاء فيه: الطريق طويلة من العلقة (أول صور الخلق) جميعنا أتينا من هناك. في نظرية النشوء والتطور قبل وجود السمكة هناك مرحلة العلقة وهذه هي الفكرة، بأن الناس تنتقل من مكان لآخر، يتركون الأماكن التي ولدوا فيها، صورهم تتغير وتتبدل، يبنون حياة جديدة، في أماكنهم الجديدة يمرون باختبارات كثيرة، واليوم نرى أن هذه الاختبارات تتم بشكل ممنهج للمهاجرين في العالم أينما كانوا، لكن في نهاية الأمر كلنا نتبع لنفس المصدر.

هل يمكن أن يفكر المهاجر بالأصل حسب رأيك؟

لا أعتقد. عندما يقع الإنسان تحت اختبار الهجرة واللجوء لا يفكر في الأصل وأن البشر جميعاً تابعون للمصدر ذاته بهذا الشكل الدقيق والعلمي.

هذه الفكرة تتناقض مع التقسيمات الموجودة اليوم لأن الدول مبنية على أساس عرقي أو قومي..

صحيح، لكن أنا ضد كل هذه التقسيمات ولا أؤمن بهذه المفاهيم وتعريف الإنسان حسب قومية وجغرافيا. في فلسطين وضعُنا مختلف طبعاً لأننا نعيش تحت احتلال. أنا غير مقتنع بفكرة وجود الدول القومية.

ربما أسيئ تفسير فكرتك في سياق الدولة الفلسطينية المنشودة.

أنا لا أقول إن الشعب الفلسطيني لا يحتاج دولة قومية، بالعكس. أنا أتحدث عن فكرة الحاجة لكل شعب الدفاع عن نفسه من خلال تعريفات معينة، لكن بالمفهوم الفلسفي للموضوع لا يهمني من أين يأتي الناس جغرافيًا أو عرقيًا. أنا أتعامل معهم كبشر.

الفيلم يتمتع برمزية عالية جدًا وليس من السهل على المشاهد استيعاب الفكرة، اختيارك لهذا الأسلوب نابع من وجود جمهور معين تقدم له الفيلم؟

ليس بالضرورة. لا أفكر في الجمهور عندما أبدأ العمل على فيلم، أعمل بشكل حر ولكن خلال العمل أحاول الإجابة عن سؤال كهذا: من هو جمهور الهدف؟ لكن في نهاية الأمر الفيلم بالنسبة لي هو إحساس وفي هذا الفيلم كان لدي إحساس بأن هناك شيء ما خاطئ في حياتنا العصرية اليومية وهذا ما أردت التعبير عنه.

هذا يجعل أفلامك موجهة للنخبة!

الفن نخبوي بطبيعته، وأنا لا أفكر أني سأقدم فيلماً للنخبة، كما ذكرت سابقًا عندما تكون لدي فكرة أعبر عنها بأسلوبي، ربما لا يكون مستساغًا لعموم الناس لكن لا مانع من التوجه لعموم الجمهور مع العلم أن قضية التلّقي لها علاقة بالوعي والثقافة لدى الجمهور. الثقافة السينمائية تتطور مع الوقت والجمهور يتذوق الفن تدريجيًا.

أسلوبك لا يتيح لكل الناس فهم المقولة من وراء الصورة.

لا يتعلق الأمر بالفهم، بل بالمشاعر.
 


لماذا تخرج أفلامًا؟

الإجابة متعلقة بتعريف أحدنا للسينما. لماذا نخرج أفلامًا، للترفيه أم تعبير شخصي، وكمال الجعفري يتعامل مع السينما كتعبير شخصي. عندما يتم عرضها هناك من سيحب هذه الأفلام وهناك من لن يحبها، هناك من سيفهمها وهناك من لن يفهمها، مستحيل إخراج فيلم يفهمه جميع الناس بنفس القدر، واذا فهمه الجميع واستهلكوه بنفس الصورة فهو فيلم رديء.

أفلامك ترصد حالات وأماكن وفيها نوع من الأرشفة، حدثني عن هذا التنوّع.

أول فيلم أخرجته تم تصويره في جنيف، ثم عدت للبلاد وقمت بإخراج فيلم يتحدث عن المكان الأول، المكان الذي ولدت فيه. أعرف أن هناك تناقض نوعًا ما في سيرورة العمل هذه، أن تخرج من المكان ثم تعود إليه وتوثقه بالكاميرا، لكن بالنهاية كل أفلامي حالات تشبه الوضع الفلسطيني.

تقصد الهجرة واللجوء؟

كل الحالة الإنسانية والسياسية الفلسطينية، هناك حوار بين الشاب الفلسطيني والسيدة السورية في دائرة الهجرة يعبّر تمامًا عن حالة التشتت، تشتت الفلسطينيين الذي أصبح اليوم حال الكثير من الشعوب الأخرى. ومع أن هدفي ليس تصوير الواقع لأن تصوير الواقع لن يكون الواقع نفسه. دَور السينما برأيي تخطى قضية تصوير الواقع وخلق فن يعبّر عن مشاعر المخرج تجاه هذا الواقع.