ضمن برنامج "نكبة ديجا فو" في "مهرجان سينما فلسطين الدوحة"

الدوحة تعرض أفلامًا عن نكبة فلسطين... حكايات تصنع سينما

2019-10-18 14:00:00

الدوحة تعرض أفلامًا عن نكبة فلسطين... حكايات تصنع سينما
الفعل الماضي المستمر

تجربة "مهرجان سينما فلسطين الدوحة"، بحسب أفلام "النكبة ديجا فو" تخطو خطوة ثانية في تفعيل علاقة الصورة السينمائية الفلسطينية بتاريخ بلد وجغرافيته، كما بذاكرة جماعة وذكريات فردية. ورغم التفاوت الحاصل في آلية الاشتغال السينمائيّ بين الأفلام السبعة، إلاّ أن أهمية العنوان الأساسي ومضامين الحكايات والانفعالات تُعوّض تبسيطًا دراميًا أو خللا فنيًا أو لغة مباشرة. 

1

سبعة أفلام قصيرة تُعرض في برنامج "نكبة ديجا فو"، في الدورة الثانية (16 ـ 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان سينما فلسطين الدوحة". تنويع يجعل الحكايات، المروية بصُور وشخصيات ومسارات درامية، أقرب إلى ذاتٍ وروحٍ وانفعال وتأمّل، مع التنبّه إلى تفاوت جمالي بينها، فالاشتغالات غير سوية كلّها، وإنْ تلتقي المضامين عند فلسطين، فتنبش من وقائع عيشها في احتلالٍ ومواجهات يومية ما يُثري الحكايات والأفلام، فتُصبح الأخيرة توثيقًا سينمائيًا للأولى، بما تحمله الأولى من مشاعر وتأمّلات ومسالك وتفاصيل أيضًا.

تواريخ الإنتاجات غير حديثة كلّيًا، فالأهمّ كامنٌ في ما تُقدّمه الأفلام من قصصٍ، مجبولة بألم التاريخ وثقل الذاكرة، وبتمزّقات الحاضر وارتباكات الراهن، وبآمال مبتورة وانفعالات مفتوحة على احتمالات جمّة. 

لليهوديّ القادم إلى حيفا محتلاً، حضورٌ يعكس شيئًا من وقائع النكبة عند وقوعها؛ لكن الفلسطينيّ أكثر حضورًا، فالنكبة تعنيه، ونتائجها تلاحقه إلى حاضرٍ مُشبَعٍ بخرابٍ وتحدّيات. للتقنيات الحديثة دورٌ في صوغ نصٍ سينمائيّ يستعيد ماضيًا مُتعِبًا، وينفتح على راهنٍ يُشوّه الماضي وذكرياته، من دون أن يتمكّن المحتلّ الإسرائيلي من شطب الذاكرة واغتيال الذكريات وتغييب التاريخ والجغرافيا؛ لكن الأسود والأبيض يُعادِل تقنيات كهذه، مُدمِجًا بؤس النكبة عند وقوعها بحاضرٍ ملوّن وصاخب، كأنّ الماضي يعبر سنين القهر والانكسار والخيبة، فيصل إلى حاضرٍ غير قادر على النفاد من ثقل الحدث.

التنويع متعدّد الأنماط: بساطة اللغة في سرد حكايات الناس، تُقابِل اختبار التجريب البصريّ، المعتمِد على براعة الكمبيوتر في ابتكار الأشكال. سلاسة الحكيّ، المنبثق من وقائع آنيّة تفرض على الفلسطيني تصرّفاتٍ لن يرضى بها فلسطينيّ آخر، في العلاقة الملتبسة بين الفلسطينيين أنفسهم تحديدًا، هذه السلاسة تُقابِل تكثيف صُور التجريب واختلافه البصريّ في معاينة قسوة المُعلّق في الحدّ الذي يصنعه المحتلّ، ظنًا منه أن أيّ حدّ قادرٌ على الحؤول دون اختراق الفلسطينيّ جدران الخوف والحصار والتنكيل، التي يبنيها المحتلّ الإسرائيلي، فيقع فيها. هدوء قولٍ، يغلب على أفلامٍ تروي شيئًا من تفاصيل النكبة ومصير المنكوبين، يُقابِل غليان العيش في بيئة فلسطينية، تعاني احتلالاً فتواجهه، وتتألم من أهوالٍ تُصيبها فتنتفض، ولو قليلاً، عليها.
 

أبوكي خلق عمره 100 سنة، زيّ النكبة


2

وحيفا ـ التي ترد سريعًا في "ولادة صورة" لفراس خوري، الذي يسأل ابنه "وين فلسطين؟" فيُجيبه الابن "بحيفا" ـ تُشغِل مكانًا في فيلمين اثنين، هما "أبوكي خلق عمره 100 سنة، زيّ النكبة" لرزان الصلاح و"الببغاء" لدارين ج. سلام وأمجد الرشيد. في الأول، تظهر حيفا عبر "غوغل الخرائط"، الذي تستعين به أمّ تريد العثور على منزلها، وتظلّ تنادي ابنها أمين، وتروي ذكرياتٍ قديمة عن العيش فيها. وللأم صوتٌ، يمزج بعض السخرية بشيء من مرارة الواقع الآنيّ، و"غوغل الخرائط" يتكفّل بالباقي. في الثاني، تختفي المدينة خارج المنزل الفلسطيني، الذي يهجره أهله تاركين وراءهم كلّ شيء (كإشارة لعودة متوقّعة ومنتظرة)، تدخله عائلة يهودية تونسية، "مجلوبة" بـ"قوّة" العسكر للاستيطان في بلدٍ محتلّ حديثًا، فالزمن عائدٌ إلى عام 1948، بعد وقتٍ قليل على النكبة.

في "أبوكي خلق عمره 100 سنة، زيّ النكبة"، مرويّات يبوح بها صوت الأم، بحثًا في الذاكرة عن حكايات يُراد لها عيشًا في عمق ذاتٍ وروح. في فيلم الثنائي سلام والرشيد، يُثير "الببغاء" الفلسطيني يهودًا يقتحمون بلدًا ومنزلاً وحيّزًا، قبل أن يتعرّض لتنكيلٍ على أيدي السكّان الجدد، فيشتمهم كما يشتم جنودًا يعبرون بالقرب منه. في الأول، يفتح "غوغل" أفقًا جغرافيًا أمام روحٍ تجد الراهن أقسى بإلغائه معالم وبتغييره أسماء شوارع، فتسخر الأم بألمٍ يتشظّى صداه في أمكنة وفضاءات. في الثاني، يُفشِل الببغاء خطّة المحتل اليهوديّ التونسيّ، الهادفة إلى إرضاء رجل أعمال يسبقه في احتلال المدينة، فيُبدّل بعض ديكور المنزل، لاستقباله وعائلته. فالببغاء "يعضّ" ابن رجل الأعمال، ما يدفع والدته إلى إعلان غضبها من زيارة غير موافقة عليها أساسًا.

المكان ينعكس في "منطقة ج." لصلاح أبو نعمة كحيّز لمواجهة يومية بين عائلة فلسطينية (والدان وابن وحيد) ومستوطنين يهود يمارسون إرهابًا دائمًا عليها لاقتلاعها. فـ"دفاع" العائلة عن المنزل يبدو دفاعًا عن جغرافيا محمّلاً بتاريخٍ حاضرٍ، رغم أنّ قلقًا وخوفًا وارتباكًا ينتاب أفرادها، قبل أن تنقلب الأقدار على المستوطنين الثلاثة. فالنهاية مُعلّقة، رغم أنّ صوت الرصاص يُسمَع، فأحد المستوطنين يفقد مسدسه أمام المنزل في غزوة سابقة.

والمنزل جزءٌ من قصّة "دلّة قهوة" لثائر العزّة، وإنْ في خلفيّتها، فالنصّ معنيّ بسرد تفاصيل دقيقة في يوميات بائع القهوة جُمعة (جُمعة صادق)، منذ استيقاظه باكرًا، وإعداده القهوة، والخروج بالدلّة من المنزل لبيعها. تفاصيل لن تكون مهمّة، بقدر ما تُشكّل سيرة ما لجُمعة، الذي ينقل إلى الشاشة، عبر عينيه وملامحه وعلاقاته، بعض المكان/ الجغرافيا، وبعض النبض الذي يعتمل فيه. أما المنزل المقصود، فلن تُظهره الكاميرا، بل يبقى أسير أفرادٍ في حوار مقتضب ينتهي برفض جُمعة اقتراح أحدهم عليه عملاً مؤقتًا، يدرّ عليه بعض الربح. فالعمل المذكور يقتضي منه المشاركة في هدم منزلِ عائلة فلسطينية يريد الاحتلال هدمه، ما يجعل بائع القهوة وصديقًا له في حالة استنفار لفظي ونفسي، قبل أن يُغادر جُمعة السيارة، عائدًا إلى مهنته المتواضعة كبائع قهوة، وإنْ تكن الأرباح قليلة، فهي أفضل وأشرف وأصدق.

يتفرّد "دلّة القهوة"، سينمائيًا، عن الأفلام الأخرى، باعتماده تقنية الأسود والأبيض، وباشتغاله الدقيق على تفاصيل الكادر والصورة والصوت والتوليف. فالفيلم ـ المُنتَج بفضل "كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة"، ضمن مشروع "أحبّ بيت لحم"، تمامًا كـ"منطقة ج." ـ يكشف موهبة أكيدة في امتلاك الشرط السينمائي للروائي القصير، بتكثيف صُوَره ولقطاته، وبدقّة تصويره الشخصيات والأمكنة والفضاء المديني المحصور ببقعة جغرافية ضيّقة، واتّخاذه لقطات مقرّبة أحيانًا لكشف مزيدٍ من ملامح الفرد وبيئته.

وإذْ يُصنع "دلّة قهوة" في سياق طالبيّ جامعي، يُشرف سينمائيون فلسطينيون عليه، كسائد أنضوني وسهى عرّاف ووسام الجعفري ومؤيّد عليان وغيرهم، فإنّ "منطقة ج." يُبرهن أن الشغف السينمائي حاضرٌ في شبابٍ يتعاملون مع الكاميرا كلغة قول وبوح، وكأداة معرفة ووعي، وكفنّ قادر على التفكيك والمعاينة والمقاربة.
 

الببغاء


3

هذا أساسي. فالشغف جوهر الاشتغال السينمائي، الذي تتّضح معالمه في أفلامٍ، يحتاج بعضها إلى مزيد من وعي معرفي وجمالي وثقافي، لما فيه من مضامين تشي بتنبّه إلى أهمية العلاقة بالتاريخ والحاضر. فـ"الفعل الماضي المستمرّ" لديما حوراني مثلاً يكسر الزمن، مُقرِّبًا محطّتين اثنتين، يُفترض بهما أن تبتعد (زمنيًا) إحداهما عن الأخرى، للقول إنّ النكبة غير منتهية، فهي مستمرّة في شيوعها بين الناس. والقصّة "لا يُعرف أبطالها"، مع أنّها "قصّة كل لاجئ"، كما في جينيريك البداية، الذي يُضيف أنّ الفيلم "عمل أدائي تدخلي يُحاكي صورة من أرشيف النكبة الفلسطينية عام 1948، لثلاث عائلات تجمعهم رحلة اللجوء على ظهر شاحنة"، تحطّ بهم وسط مدينة رام الله، في الذكرى الـ66 للنكبة.

تختار ديما حوراني تقنية الأسود والأبيض في تصويرها عائلات اللجوء، التي تدخل رام الله بعد 66 عامًا من النكبة، حيث الألوان تتداخل وتلك التقنية في مزيجٍ بصريّ بين ماضٍ وحاضر. والألوان مكثّفة في اشتغال الكمبيوتر لإنجاز صُور "ذاكرة الأرض" لسميرة بدران، حيث أشكال الشخصيات غريبة وقاسية ومخيفة أحيانًا، في تأديتها فصلاً من فصول الصراع الدائم بين الفلسطيني والمحتلّ الإسرائيلي. بينما يكتفي فراس خوري، في "ولادة صورة"، بسرد حكاية الوحش على ابنه في 3 فصول (صعود الوحش، مرايا الوحش، السقوط)، الذي يُلحّ عليه إعادتها مرارًا، مع أنّ الابن متأكّد من أنّه سيحفظها حتى يُصبح بالغًا.

أما حِرفية التمثيل، فواضحة مع التونسية هند صبري والفلسطيني أشرف برهوم (الببغاء)، كوضوحها مع جُمعة صادق (دلّة القهوة). صبري وبرهوم يؤدّيان راحيل وموسى، اليهوديين التونسيين، في ارتباكات القدوم الأول، والتعرّف على مكانٍ لا علاقة لهما به، ومواجهة الجديد المفروض عليهما في بيئة غير مُدركَين تفاصيلها وتاريخها وحضورها. بينما صادق يتفلّت من كلّ قيد تمثيلي وقاعدة أدائية، متّخذًا من البساطة والسلاسة والعفوية ركائز أساسية لتأدية دور بائع قهوة، يبيعها لسائقي سيارات الأجرة، ولعابرين من هنا وهناك، مكتفيًا معظم الوقت بجعل التعابير الصامتة للوجه وحركة الجسد بوحًا وانعكاسًا لروحه وذاته. 
 

ولادة صورة


4

تجربة "مهرجان سينما فلسطين الدوحة"، بحسب أفلام "النكبة ديجا فو" تخطو خطوة ثانية في تفعيل علاقة الصورة السينمائية الفلسطينية بتاريخ بلد وجغرافيته، كما بذاكرة جماعة وذكريات فردية. ورغم التفاوت الحاصل في آلية الاشتغال السينمائيّ بين الأفلام السبعة، إلاّ أن أهمية العنوان الأساسي ومضامين الحكايات والانفعالات تُعوّض تبسيطًا دراميًا أو خللا فنيًا أو لغة مباشرة.