بديهيات سلامة كيلة البسيطة

2019-10-24 14:00:00

بديهيات سلامة كيلة البسيطة

فالذي سينتصر بانتصار أحدِ المسارين من المفترض أن يكون الشعب السوريّ، لا الرأيُ السياسي! إذ إنّ الشعبَ السوريّ أيضًا من سيتضررُ فيما لو فشلَ أحدُ المسارين، وهو وحدهُ من سيتحملُ أعباء الحياة!

خريف العام ٢٠١٢، بُعيدَ وصولي إلى الاسكندرية بمدّة بسيطة، عرفتُ أنّ سلامة كيلة في مصر. دفعني فضولي، وقيمة الرّجل بالنسبة لنا كسوريين مناصرين للثورة آنذاك للقائه. تواعدنا في مقهى ريش، فالوصولُ إليه سهل عليّ كأيّ ضيفٍ طارئٍ على مدينة ضخمة بحجم القاهرة. لكنّ اتصالاً قطعَ ذلك التأمّلِ النوستالجيّ في المكان العريق وصوره وروّاده، ليقولَ إنّ من أنتظرهُ في مقهى ريش، موجودٌ الآن على العنوان الفلاني. كانَ العنوان لمكتب المجلس الوطنيّ السوريّ في القاهرة. هناكَ التقيتُهُ أولّ مرّةٍ، بعيدًا عن صورتِهِ التي ألِفناها فوقَ خلفيّة حمراء مع جملٍ تُطالبُ السلطات السوريّة بالإفراج عنه نظرًا لوضعه الصّحيّ الحرج. كان ثمّة رنّة مُربكة لصوتِه، فهي ذاتها التي نتذكّرُها –كسوريين أيضًا- حينَ قال لمذيعة قناة الدنيا الناطقة المستقلّة باسم النظام السوريّ حين عرفَ وسيلتها الإعلامية: "حلّي عنّي.. صيروا أوادم بحكي معك... إنتو مش صحافة حرّة. إنتو خاضعين لسياسة أمنية". تلك الجملة التي مثّلت مئات آلاف السوريين، ممن لم يكونوا قد استطاعوا نُطقَها بالجسارة التي نطقها فيها. كيف ننسى؟!

كانت سوريا بشكلٍ أساسيّ، والرّبيع العربيّ بشكل عام العناوين التي أسبغت حياته منذ عام ٢٠١١، ولأننا في مكتبِ المجلسِ الوطنيّ، كان لابدّ من الحديث عن التشكيلات التي صاحبت الثورة وخياراتِها السياسية التي اتخذتها وبنت عليها آليات عملها. وبالجسارةِ إيّاها، كان سلامة يُحاجج المختلفين معه سياسيًّا، يقولُ رأيهُ واضحًا وبسيطًا بصرفِ النظرِ عن صوابيّته.

كانَ رأيُهُ أنّ ما بنت عليه القوى الثورية نظرياتها السياسية والعملية لم يكُن سوى افتراضاتٍ مُشكلتُها أنّها لم تُبنَ على القوة الفاعلة الحقيقية في الثّورة: الشعب السّوري!

فانقسامُ التيّاراتِ انحصرَ تقريبًا في جوهره بين ثنائيّة: الرّهان على الحوار مع السّلطة القائمة أملًا في الوصولِ إلى حلٍ يُشكّلُ منفذًا وطنيًا للبلاد والنسيج الاجتماعيّ من الانزلاق في مستنقعِ الدّمِ حيثُ الاضطرار إلى العودة إلى تعريف الوطن قبل تعريف الهويّة الوطنيّة أصلاً. 

وثاني هذه الثنائية رأي آخر: يرى في الحوارِ مع السّلطة أمرًا لا جدوى منه، ذلك أنّ الحوار النّديّ مع السّلطة يستلزمُ أن نكون سويديين مثلًا لا سوريين. فالدبابات داخلَ المُدن. والمُتظاهرونَ يُقتلون أو يملؤون السّجون. وقوّات الأمن تُحاصرُ الهواء. فأي حوارٍ نديٍ تحت حِرابِ الخصوم؟! وذهبَ أغلبُ دُعاة رفض الحوار، إلى أنّ الوقتَ الذي سوف يضيعُ في الحوار مع السّلطة يُمكن العمل خلاله على خلق مناخٍ دوليّ مناسبٍ وتوجيه رسائل طمأنة للقوى الدولية الفاعلة، علّها تأخذُ الموقفَ الذي أخذتهُ إزاء الليبيين قبلنا، وتتدخل فتوقف المذبحة.

وكان لسلامة رأيٌ في هذين المسارين، فرغم ما فيهما من رجاحة وصوابية، إلا أنهما ينطويان على أكثر من خلل، أولهم أنّ الحوارَ مع السلطة قائمٌ على تقاليد سياسية لم تعد موجودة في سوريا قبل الثورة بعقود. وثانيهم أنّ المجتمع الدّوليّ ليس موظّفًا لخدمة السوريين، ولا يتخذُ قراراته بناءً على رغبات الشعوب عادةً. تلك بديهيات أكلها الغبار!  إلا أن الخلل الفادح كان حسب رأيه أنهما لا يبنيان نظريّتهما للحلّ على الشعب السوريّ نفسه، صاحب المُشكلة!

فالذي سينتصر بانتصار أحدِ المسارين من المفترض أن يكون الشعب السوريّ، لا الرأيُ السياسي! إذ إنّ الشعبَ السوريّ أيضًا من سيتضررُ فيما لو فشلَ أحدُ المسارين، وهو وحدهُ من سيتحملُ أعباء الحياة!

توالت اللقاءات بعدها في القاهرة والاسكندرية. وكان أكثر ما يميّزها أنّ الرّجلَ لم يكن يعرفُ معنى التوقف أو الكسل، أو حتى الإحباط! ليس في قاموسِ مفرداته ما يحملُ هذه المعاني، ذلك أنّهُ كان يتعاملُ مع بديهية "الشعب باقٍ" بتقديرٍ لافتٍ، ما يعني أنّهُ لا مجالَ لإيقاف التفكيرِ والعمل. ولربما فسّرت هذه الروحية عنده غزارة إنتاجه، لا الاستسهال كما يحلو لخصومه الفكريين.

فقد كان شعورهُ بالمسؤولية إزاء الفعل لا يقلّ عن شعوره بالمسؤولية إزاء القول. ولئن اعتبرَ أنّ التفكيرَ والقراءة والقولَ بحدّ ذاتِهِا أفعال، فإنّهُ لم يوفّر جهدًا خلال حياتِهِ لممارستها. ذلك الشعورُ بالمسؤولية عند سلامة كان المُكافئ الموضوعيّ لما يسمّيهِ آخرون: الأمل الذي يبقيهم على قيد الحياة. لقد تحوّل العملُ لديه (وهو في حالته لا ينتهي إلا بالموت) أملًا يُبقيهِ هو الآخر على قيدِ الحياة.

فإذا كان أكثر ما يُعْجزُ الباحثين ومحللي الاجتماع والسياسة في عالمنا الراهن، وفي قضايا الشرق الأوسط على وجه التحديد، عن اجتراح أفكارٍ يُمكنُ لها أن تمثّلَ مخرجًا من مآزق الحاضر المأزوم، يتمثّلُ في صعوبةِ التنبؤِ بالمستقبل، قريبهِ وبعيده. فإنّ أكثر ما يُمكنُ أن يُفتقدَ في مثل هذه الظروف هم الأشخاص الذين يعملون على بديهية "الشعب باقٍ" إيّاها، فهي التي تحرّكهم للعمل مع الناس بصرف النظرِ عن أي ظروفٍ دولية.

وإذا كانت مصطلحات كالتفاؤل والتشاؤم غير ناجعة في الفكر السياسي، الذي يعتمد بدوره على القراءة والتحليل ودراسة المجتمعات وحركاتها تاريخيًا، فإنّ التنبؤ بناءً على تلك الدراسات والتحاليل والقراءات يُعَدّ أساسيًا لدى المشتغلين في الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي. والتنبؤ بالمآلات في أيامِنا هذه قد لا يتجاوزُ كونه تخمينًا حدسيًا غيرَ مبنيّ على أيّ مما سبق، ذلك أنّ الطرق التي تُدار فيها السياسة العالمية لم تعُد مألوفة في تفاصيلها، إذا ما تجاوزنا العناوين الشعبية العريضة من قبيل: "أمريكا تدير العالم وتتحرك وفق مصالحها" أو "لا أحد يريد لشعوبِ منطقتنا أن تتقدّم"، وما إلى ذلك من تعابير ركيكة تعود اليوم إلى الواجهة نظرًا لسهولتها وللإجماع الشعبيّ عليها.

كل هذا يزيدُ حاجتنا إلى من يتذكر أنّ الأفكار يجبُ أن تولدَ من استعصاءاتٍ مثل هذه التي نعيش، فليس من بيئة خصبة لاستيلاد الأفكار أكثر مما نحن فيه من سوء!

وفي مثل هذه اللحظات يفقتدُ المرء أبا علي...