«مشاة لا يعبرون الطريق» لعاطف أبو سيف… من قتل الرجل العجوز؟

2019-11-20 14:00:00

«مشاة لا يعبرون الطريق» لعاطف أبو سيف… من قتل الرجل العجوز؟

هذا ما يفجر القوة الهجومية للسرد عند أبو سيف حدّ الإقلاق والإرباك والإدهاش. فهو يخلق حدثاً- وحدثاً فلسفياً. هو لا يحكي ولا يحلل الاختلالات الفيزيولوجية والنفسية للرجل الثمانيني، ولا أزماته الروحية وإحباطاته التي أودت به في المتخيّل عند أبو سيف إلى سرير المستشفى.

بجزئياتٍ وتفاصيل دقيقة، وبعيداً عن تصوير الطموح إلى الجبروت والسلطة، ينسج الروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف قص - حكاية عن رجل في الثمانين من عمره دهسته سيارة وهو يقود دراجته الهوائية، ومن ثمّ نُقل إلى المستشفى. لا أحد يعرف عنه شيئاً، حتى اسمه، واسم شركائه في الحكاية: الصحافي، والفتاة الجامعية التي نزلت من الباص لتساعد في إسعافه والتي أبوها رئيس تحرير الجريدة التي يعمل بها الصحافي دون أن يعلم بذلك، وبائع الفاكهة، والشرطي. وُضِعَ الرجل العجوز على السرير واستسلم لنومٍ طويل، قد يكون ثُباتاً وقد يكون موتاً، ولا أحد قادر على مساعدته في الاستشفاء ولا في القبض على المجرم الذي دهسه رغم تعدد الروايات: دُهس، لم يُدهس، عاش، لم يعش.

كأنّ عاطف أبو سيف يعطي لهذا العجوز الثمانيني تسلطاً مُطلقاً على القارئ. فيتركنا في صراع تناحري، مات ولم يمت، مَنْ دَهسه، وهل الغاية كانت اغتياله، ومَنْ المستفيد من قتله؟ وهل يملك صندوقاً أسود، أم إنّه لا يملك؟ فيبقى القارئ ينوس بين العمليات الشعورية واللاشعورية ليعرف مَنْ وراء هذه الجريمة، ولماذا: الشرطي والصحافي و... و... يحقّقون في حادثة دهسه ولا يُحقّق معهم، فيما إذا كانوا طرفاً أو سبباً أو شركاء في جريمة تغييبه عن الشعور- ما يُذكّرنا برواية (الطريق) لنجيب محفوظ وبطلها "صابر" الباحث عن أبيه سيد سيد الرحيمي الذي أكّدت له أمّه قبل أن تموت بأنّه مايزال حياً، الأب، الإله، الذي لم يجده. مَنْ غيّبه، مَنْ أبعده ولم يقرّبه؟

 كأنّ عاطف أبو سيف وهو الهازئ المتهكم في سرده، يجمع ما بين الجريمة الجنائية والأسئلة الفلسفية. فالوجود الإنساني والعدم الإنساني هو ما يقلق الروائي هنا، وهذا ما يُدهش في هذه الرواية «مشاةٌ لا يعبرون الطريق» (دار الأهلية للنشر، عمّان ٢٠١٩). فأسئلتها تشكّك بالحس السليم، والمعقول. فأبو سيف يفرد مساحات للأجزاء والأسئلة الصغيرة على حساب الحكاية المحورية، ولكن بتنسيقٍ روائي. فثمة سرّ في تغييب الرجل العجوز- ثم لماذا ننعته بالعجوز، الذي لا شجرة عائلة له، وهو الإنسان الذي يحب سلوى، وفعلَ من أجل حبها أشياء وأشياء، وها هو على سرير في المشفى لا هو ميّت ولا هو حيّْ؟ عاطف أبو سيف يكتب روايته ليسحر ويدهش قارئه وليس ليشرح ويقدم معلومات. فالشرطي كائن متوحش، حتى الصحافي، والفتاة الجامعية، وبائع الفاكهة. تراهم فظين على نحو عنيف كأنهم مخلوقات كابوسية- من كابوس فظ.

هذا ما يفجر القوة الهجومية للسرد عند أبو سيف حدّ الإقلاق والإرباك والإدهاش. فهو يخلق حدثاً- وحدثاً فلسفياً. هو لا يحكي ولا يحلل الاختلالات الفيزيولوجية والنفسية للرجل الثمانيني، ولا أزماته الروحية وإحباطاته التي أودت به في المتخيّل عند أبو سيف إلى سرير المستشفى. فغزّة- غزّة، ومخيم جباليا- مخيم جباليا، وفلسطين- فلسطين، لا إسرائيل. الرجل الثمانيني يعيش اغتراباً عربياً: كيف يُهزم هنا الرجل وبطريقة خسيسة وتصادَر قوته؛ تُصادر أناه الحقيقية، فيتجرّد من شخصيته وتصبح (أناه) مأساة للكائن البشري، أنا عاجزة، أنا تعاني قلقاً بخصوص وجودها، وتوتراً يشكل خطراً على حياتها.

 عاطف أبو سيف لا يكتب مأساة غامضة، أو أنه يُغرق في اللاواقعية السوداء، بل هو يدعنا مع رجل صامت لا يتكلم وسط أُناس متوحشين معزولين ساخطين- لكنه في إيحاء آخر كأن لا وجود لكل هؤلاء الأشخاص والأحداث، وما نقرأه حول هذا الرجل الثمانيني هو لغز وكابوس رغم ما يضعنا فيه أبو سيف أمام كائنات وحوادث- شيء من كافكا.

كل ما نراه يتم بوعي، ولكنه يعمّق من الاغتراب والوحشة ولا أحد يساعد هذا الرجل الثمانيني كان (وهماً) أم حقيقة. فهو، من قبل نكبة ١٩٤٨ إلى حادثة دهسه المُتخيلة وربّما الحقيقية، ما يزال يحب سلوى وما يزال يبحث عنها، في رحلة بحث تشبه رحلة صابر وهو يبحث عن أبيه سيد سيد الرحيمي بطل رواية (الطريق) لنجيب محفوظ، فلقد اشتغل ساعيَ بريدٍ كُرمى لها عسى أن يصادفها ولقد احتفظ بالدراجة الهوائية حين دهسته السيارة وهو يقودها، حتى أنّه لما التقى بالشاعر معين بسيسو في مقهى بالمخيم سأله إن كان قد لقي سلوى أو وصلته رسائل منها. بحثٌ، بحثٌ حتى صدمته السيارة ونُقل إلى المشفى. ومن ثمّ بحثٌ عن الجاني حتى يأتي ذاك الصباح الذي: "لم يكن الرجلُ العجوز على سريره. كانت الممرضة الممتلئة أوّل من التفت إلى الأمر. كالعادة فأوّل شيءٍ تفعله في الصباح هو تفقّد الرجل العجوز. لم يكن هناك. ظنّت أنّها أخطأت الغرفة لولا أنّها رأت الشابة المرافقة للرجل الآخر تفيق من النوم، تتثاءب وهي ترفع جسدها عن الكرسي الممدّد مثل سرير. لم تتبادلا الكلمات، إذ سرعان ما استوطنت وجهها هي الأخرى علامات الدهشة والصدمة حين نظرت صوب سرير الرجل العجوز ولم تجده "لنبقى مشاةً لا يعبرون الطريق: مَنْ قتلَ الرجل العجوز ومَنْ خطفهُ؟.