منذ تلك الأيام في الطفولة والصبا بدأت علاقتي مع المكتبة المنزلية وكنت لا أطيق البقاء في بيت أقاربي إذا زرتها مع أمي إذا لم يكن بها مكتبة. كنت أشعر أنها بيوت منجوسة أو ملعونة وكنت أسألهم: كيف تعيشون دون كتب؟
بدأت حياتنا مع الكتب عندما اغتيل التاجر الذي في بيتنا.
عاد أبي بـ"الطارما" إلى البيت بعد أن أعلن فشله في التجارة. والطارما هي خزانة ترتيب السلع الغذائية ومكتب التاجر في محل البقالة. كان أبي أحد ضحايا التجربة الاشتراكية البورقيبية وما سمي بـ"التعاضد" (١٩٦٢- ١٩٦٩). لم أكن بعد قد ولدت لكني تخيلت كل شيء. رأيتهم أولئك الرجال الغلاظ يدخلون تلك الخزائن الخشبية الزرقاء ذات الرفوف الكثيرة والجوارير العديدة. أخذت أفتح الجوارير بحثاً عن شيء. لم يكن بها شيء غير روائح البن والفلفل. بجانبها كانت هناك كرتونة يتيمة مليئة بحقق الطماطم والهريسة وأكياس ملح ومعكرونة. كل ما بقي من نصيب والدي من الشراكة بينه وبين تاجر آخر من جزيرة جربة قرّر أن يواصل المغامرة وحده.
بعد سنوات أتيت إلى العالم. رأيت أبي يحمل كتاب "هل كان عبد الناصر دكتاتوراً" ويهم بالجبل وراء عشرة عنزات. كان الكتاب قد جاء به أخي طالب الثانوية وكان أخي ذاته في تلك اللحظة يدهن أخشاب الطارمة والرفوف بلون أبيض .عندما سألته ماذا تفعل أخبرني أنه يصنع مكتبة.
هكذا حسم أبي أمره مع عبد الناصر في الجبل وعاد يطلب المزيد من الكتب فاستقبله أخي بالمكتبة البيضاء وقد جف الدهان واستعمل أخي الجوارير كرفوف أضافية.
ماذا فعلت أيها الملعون؟
صنعت مكتبة يا أبي.
لم يبدِ أبي أي انفعال. ذهب إلى حصير يقرأ مجلة "الأمة" منتظراً الغداء.
من الغد نهضنا على مكتبة بيضاء تتصدر رفوفها الأعمال الكاملة لتوفيق الحكيم والأعمال الكاملة لطه حسين و«سبعون» لميخائيل نعيمة وبعض روايات إحسان عبد القدوس وكتاب طُبع بخط اليد كتب على غلافه «القصيدة» لمعين بسيسو وبعض الأعداد من مجلتي "الأمة" ومجلة "الوعي الإسلامي" و«منجد» عربي فرنسي ومصحف كبير و"جزء عم" وكتاب «الروض العاطر» للنفزاوي وقصة «الجمجمة». ووضع فوق المكتبة صورة شعبية لعلي بن أبي طالب وهو يقطع رجل رأس الغول.
نظر أبي إلى المكتبة. استل منها كتاب شهرزاد وساق ماعزه إلى الغابة.
هكذا تعرفت على أول مكتبة بحياتي. وصار أخي الأكبر يؤثثها بالكتب كل أسبوع. لا ندري من أين يأتي بها لكن المكتبة كانت تكبر يوماً بعد يوم. وكنت قد تقلدت مهمة جديدة عندما بدأت أحسن القراءة. وهي وظيفة رائعة أتقاضى مقابلها الجلوس مع والدي للأكل وتتمثل هذه المهمة في قراءة الكتب له عندما يعود من الرعي.
كان أبي شغوفاً بالقراءة بالفرنسية والعربية ويحب إعادة قراءة مسرحيتي «أهل الكهف» و«شهرزاد» لتوفيق الحكيم و«الأيام» لطه حسين، لذلك كانت هذه الكتب أكثر ما أعدت قراءته من الكتب حتى كدت أحفظها عن ظهر قلب.
في تلك الأيام كنت أركب الطريق لسبعة كيلومترات كي أستعير القصص التي تناسبني من المكتبة العمومية في المدينة الأقرب لقريتي الجبلية، وفي غالب الوقت كنت أقرأ القصص وأنا في الطريق إلى البيت لذلك اخترعت أمراً هو أن أحمل معي كتاباً لأخي غير مناسب لعمري أقرأه في الطريق وأترك القصة التي أحب للبيت. لذلك سماني الأهالي هناك بالفيلسوف. كانت كتباً صعبة أقرأها بصوت عال وأردد مقاطع منها على كل من يعترضني.
ساهمت أمي في تحويلي من مجرد قارئ نهم إلى كاتب. كانت تدخل غرفتي عند التاسعة ليلاً وتطفئ القنديل النفطي لكي أنام. كانت المسؤولة عن المؤن وعليها أن تتحكم في ثروتنا النفطية الصغيرة لإنارة البيت. وسبّب لي هذا السلوك حالة من الهلع، في البداية، لأنها تأتي دائماً في قلب المغامرة فتعطل علي القراءة وتحرمني من معرفة الأحداث وكم شعرت وقتها بأني أشبه شهريار الذي تعذبه شهرزاد بتأجيلها الحكي مع طلوع الفجر وآذان الديك. كانت أمي الديك الذي يأتي ليؤجل النشوة الكبرى: إنهاء الأحداث. وكان ذلك يحطم أعصابي ويدخلني في تشنج كبير يصل بي أحياناً إلى البكاء. لماذا تفعلين ذلك يا أمي؟ لماذا أنا موجود في هذا العالم على هذا النحو؟ لماذا ليس لنا مصباح كهربائي كالذي أراه في كتابي المدرسي؟
أقدمتُ ليلة على سحب كرّاسي، بعد خروج أمي وقد نفّذت مهمتها، وبدأت أكتب مصائر شخصيات كما أتوقعها. كتبت ليلتها كثيراً في الظلام مستنداً إلى المكتبة البيضاء، ومن الغد قمت باكراً أقرأ القصة التي توقفت عن قراءتها ومقارنتها بما استنبطت في كراسي. ومن يومها صرت أنتظر دخول أمي الذي سيحولني من قارئ إلى كاتب. كل ذلك كان يجري تحت تلك المكتبة البيضاء التي أتمدد تحتها على حصير قبل أن نشتري حشية رقيقة. كنت أتمدد على ظهري أصغي إلى حركة ثعبان في السقف الخشبي يحرك سعف النخيل اليابس. سيسقط بعد سنوات بيننا وتقتله أمي.
كانت رائحة الدهن أول الروائح التي أذهلتني. كنت أملأ صدري في ذلك الظلام بها. مازالت رائحة الدهن تنعشني وهي تذكرني بأول مكتبة في حياتي.
بعد سنوات وجدت نفسي وحدي مع امرأة ورجل يناهزان الستين عاماً في بيت في الخلاء. لا طفل أشاركه ويشاركني ألعابي فلذت من جديد بالمكتبة البيضاء. الحق أن كل شيء جميل في ذلك الوقت كان لونه أبيض، من الفتاة الجميلة التي رأيتها في البئر إلى الخبز الأبيض الإفرنجي اللذيذ الذي كان حدثاً عندما نفوز بقطعة صغيرة منه، وبعيداً عن البيت كانت هناك صخرة كبيرة بيضاء انفلقت لتنبت منها زيتونة وعلى تلك الصخرة كان يتجمع مراهقو القرية يروون لبعضهم القصص الغرامية والمغامرات وكنت أمنّي النفس أن أكبر ليُسمح لي بالذهاب إلى هناك، كان المكان يسمى "الحجرة البيضا" وهو مكان محظور على من في سني كما لو كان حانة.
عندما كبرت ووصلت الحجرة البيضا كنت أروي للرفاق قصص مكتبتي البيضاء. كنت أروي لهم «نساء لهن أسنان بيضاء» لإحسان عبد القدوس و«البيضاء» ليوسف إدريس و«خمارة القط الأسود» لنجيب محفوظ وكنت أستعير أحياناً من تلك القصص أشياء أنسبها إلى نفسي لأستمتع بذلك الحسد الذي أراه في عيون الرفاق من مغامراتي العاطفية المختلقة. الحق أننا كنّا جميعاً نكذب لكن كذبني كان محبوكاً لأن أصله كان أدباً.
بدأت بعدها في قَص القصص التي أكتبها عليهم. لاحظت أن الرفاق لا يعبؤون بما أكتب إلا ساعة أنسب القصة لطه حسين أو توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ.
واصلت القراءة لأبي وأصبحت أقرأ له الروايات العالمية التي يأتي بها أخي من العاصمة. من حسن حظي أن أخي اشتغل في مكتبة لبيع الكتب القديمة وهذا ما جعل مكتبتنا البيضاء تمتلئ بسرعة. كان يأتيني أيضاً بسلسلة «رجل المستحيل» و«فانتازيا». كنت أقرأ تلك الألغاز وأرميها لأنّي كنت أريد اقتحام تلك الكتب التي يقول لي وهو يهم بالعودة إلى العاصمة: تلك كتب للكبار لا تخصك. في المكتبة كنت أحشر صوراً من مجلات البورنو التي نشتريها نحن الصغار من بعضنا ولا ندري مصدرها ويصيبني هلع إذا ما جاء موعد زيارة أخي ولم أتذكر أي كتاب حشرتها فيه. هكذا صارت المكتبة كل عالمي فأنا أترك رفاقي عند الحجرة البيضاء لأعود إليها. صار بيننا شيء حميمي. أكلني الخيال فيها. صرت أحدّث الكتاب على أغلفة الكتب حتى إن أمي كانت تناديني بالمجنون أحياناً عندما أخاطبها بأقوال الكتاب وشخصياته.
علمتني المكتبة التي تتعاظم كل شهر مع عودة أخي كيف أواجه مواقف معقدة. كانت مدرسة كبيرة . فالقص أمكنني أن أسيطر على ذلك العالم المتوحش. فبه يمكن أن أكسب صداقة هذا وأن أحطم نفسياً ذاك أو أنتقم من آخر.
في السنوات الأخيرة من صباي بدأت علاقتي مع الكتب تتعاظم. كنت أدخر ثمن السندويتش لشراء كتاب جديد. خاصة بعد أن أصبحت أتردد على العاصمة تونس للعمل في العطل. كنت كأني أجمع خزينة العام حيث سأسجن في ذلك الريف مع ذلك الثعبان بالسقف. وكان يجب أن يكون لي الكثير من الكتب لأنسى حشرجته فوق رأسي. أقرأ حتى تنهكني القراءة والخيال فأسقط في النوم متأخراً.
منذ تلك الأيام في الطفولة والصبا بدأت علاقتي مع المكتبة المنزلية وكنت لا أطيق البقاء في بيت أقاربي إذا زرتها مع أمي إذا لم يكن بها مكتبة. كنت أشعر أنها بيوت منجوسة أو ملعونة وكنت أسألهم: كيف تعيشون دون كتب؟
عندما دخلت الجامعة بدأت في تأسيس مكتبتي الحلم، كانت ملاذي الآمن من المشهد الثقافي المتردي الذي صدمني. فاعتكفت في بيتي أقرأ وأكتب وأراسل مجلات وصحف عربية دون أن أنخرط في المشهد المحلي. كانت مكتبتي منقذي. فقد ظللت أكثر من عشر سنوات معطلاً عن العمل وكنت أعيش بمكافآت تصلني من تقديم ومراجعات كتب مكتبتي. كانت مكتبتي من يدفع عني إيجار البيت ومن يطعمني ومن يكسيني. سنوات قضيتها بين مراجعة الكتب أو إجراء الحوارات مع الكتاب مستنداً إلى مكتبتي التي تتعاظم يوماً بعد يوم، ثم صارت دور النشر والكتاب يهدون لي الكتب فأحتفظ بالجيد وأتخلص من الرديء.
ترتيب مكتبتي هي لعبتي الأثيرة. الترتيب حسب التيمات أم حسب جنسيات أصحابه، ساعة حسب الأجناس والأنواع الأدبية. أقضي وقتاً طويلاً في محرابها دون أن أمل، أقلب الكتب وأقرأ الفهارس إذا ما لم تكن لي رغبة في القراءة. قراءة الفهارس عادة جميلة تصلح لتنشيط الذاكرة. وهذا يساعدني في اختيار مواضيع لبرامجي التلفزيونية أو الإذاعية أو التظاهرات التي أنظمها في عملي اليوم. دائماً أرغب بأن أسكن مكتبة وألا يكون شيء في بيتنا غير مكتبة كبيرة، كلما فكرنا في تغيير شيء بالبيت نفكر بها فنجدد رفوفها أو شكلها وهي تتمدد في البيت وتلتهم الحيطان فهل ستلتهمني يوماً كما التهمت فيفالدو بونفين والد الطفل الياس بونفين بطل «الكتب التي التهمت والدي» لأفونسو كروش؟ لكن السؤال الذي يؤرقني اليوم هو ما الذي سيحدث لمكتبتي بعد رحيلي؟ ليتني أقدر أن أوصي بدفنها معي. لا أحد سيحبها مثلي. أراهم يمزقون أوصالها في كوابيسي أو يرمونها في المجاري ومصبّات المزابل.