أولغا توكارتشوك: أؤمن بسلطة الوسواس (ترجمة)

2019-12-10 12:00:00

أولغا توكارتشوك: أؤمن بسلطة الوسواس (ترجمة)
Olga Olga Tokarczuk, 2019. Martin Meissner/Shutterstock.com

يمكن الاعتراف اليوم بأنّ روايتي كانت نتيجة ذلك الوسواس الذي أصابني. نعم، أنا أؤمن بسلطة الوسواس الإيجابية. قد يدمّرنا ذلك الإحساس، لكنّي أعتقد بأنّ الوسواس يمكن أن يصبح طريقة لتركيز الطاقة في نقطة معيّنة.

أجرى المقابلة جون فريمان ونشرتها جريدة الليبراسيون الفرنسية في ١٤/١٠/٢٠١٩، وهذه ترجمتنا لها.

تُعتبر أولغا توكارتشوك واحدة من أبرز روائيّات بولونيا في الفترة الحاليّة، حيث حقّقت أعمالها الأدبيّة نجاحاً كبيراً في موطنها ثمّ في بقيّة العالم. حصلت أولغا مؤخّراً على جائزة نوبل للآداب لسنة ٢٠١٨، وذلك في نفس السّنة التي نالت فيها الترجمة الإنكليزيّة لروايتها «الترحال» على جائزة المان بوكر. هذا كما ثمّنت جائزة نوبل قدرة أولغا التخييليّة وإيلائها الجانب الموسوعي اهتماماً كبيراً في أعمالها الروائيّة.

فيما يلي حوار ورد في جريدة ليبراسيون الفرنسيّة بين الروائية والشاعر الأمريكي جون فريمان، يهتمّ بأهمّ أثرين حبّرتهما الرّوائية وهما «الترحال» و «أسفار يعقوب». كما يسلّط الضوء على بعض من سيرة أولغا توكارتشوك، وشيء من رؤيتها للعمل في الكتابة. 

تضمّ روايتك «التّرحال» بين دفّتيها حكايات تجمع من جهة أولى بين قدرة جمع لقصص مختارة باعتناء وبين عملية تخييل، من جهة ثانية، جعلت من تلك الحكايات تبدو وكأنّها تحلّ على الورق قادمة مباشرة من دماغك. هل معظم ما جاء في الرواية مستوحى حقاً من أحداث واقعيّة؟

حين تكتب هذا النوع من الروايات ذات الأدراج، القائمة على مجموعة من المشاهد المنفصلة، الأهمّ حسب رأيي هو أن تحصل على مجموعة ثابتة من المقاطع. علمت منذ البداية أنّني كنت في حاجة إلى راوية قويّة للأحداث، لذلك قمت بصياغة شخصيتها انطلاقا من تمثّلاتي، وما أملك من مؤهّلات. كنت على قناعة تامّة بأنّ الرّاوية يجب أن تكون ذات شخصيّة مكثّفة، مجهّزة بعدد من الأدوات، وذلك حتى أتمكن من تقديم نتائج تحاليلها الصحيّة منذ البداية. على القرّاء أن يطلعوا على مثل هذه النوعية من التفاصيل، عليهم التعرّف على المادّة التي صُنع منها جسد الراوية في هذا العمل.

هل تتذكرين أول رحلة قمت بها في حياتك؟

 كنت أهوى، منذ نعومة أظفاري، استكشاف المجال المحيط بي. قمت في تلك الفترة من عمري بجولات على أقدامي انتهت بي إحداها على ضفاف  نهر الأودر. لم يكن ذلك النّهر يبعد عن المنزل العائلي بما يزيد عن الألفي متر، و مع ذلك فقد غمرني شعور بأنّني صرت، و لأوّل مرّة فتاة استطاعت فتح أرضا بكر.  كانت تلك التجربة تأسيسيّة لشخصيّتي كطفلة. استكشاف العالم، جعله محل ثقة و مصدر أمان. شعور قد لا ينتاب أطفال هذا الزمان. مازلت أتذكر الى الآن لحظة وصولي أمام النهر. كان النهر فسيحاً، واسعا وأخّاذاً. كان الأمر رائعاً بالنسبة لي. ردّدت في داخلي: لقد فعلتها. كيلومتر واحد، خطوة عملاقة من أجل البشرية.

(تضحك)

تعرف العناصر الطبيعية حضوراً قويّا في روايتك. فالماء مثلا دائم الظهور . هل لذلك رمزيّة ما في أعمالك؟

طبعا. في الماء رمزيّة تحيل إلى اللاّوعي البشري. الماء هو  التّماس. رمز الحاجز الممكن تجاوزه. في المقابل، فالقارب ليس إلاّ استعارة من نوع آخر. أعتقد أنّ طلب عبور البحار، الأنهار، هي فكرة  لطالما استبدّت بالوعي البشري. قد تكون هذه المياه هادئة، كما قد تكون في حالة هيجان، قد تكون، من جهة أخرى، منبع خصوبة تمكّننا من النموّ مثل النباتات. الماء إذن، هو حمّال دلالات. بالنسبة لي، فقد اكتشفت مبكّراً، بأنّ خطوط المياه، شبكة أعصاب الإنسان، أوردتنا الدمويّة، لها نفس الشّكل. يمكن اعتبار كتابي في علاقة وطيدة بالجوهر المكثّف للأشياء، ذلك الذي يجعل أحجاماً كبيرة شديدة القرب من أحجام صغيرة. أعتقد أنّنا نعيش في عوالم مجهريّة.

درست مادة علم النفس، وهو ما درسَته كذلك الراوية في كتاب «الترحال». يعرف عنك أيضا أنّك شغوفة بأعمال كارل غوستاف يونغ. إلى أيّ مدى أثّر اختصاصك العلمي في أسلوبك السّردي؟

كانت والدتي أستاذة أدب بولوني. كنت بدوري سأنسج على منوالها. لكن ما جذبني حقيقة هو علم النفس، صرت شديدة الإيمان بضرورة دراسة هذه المادّة في زمن كانت فيه بولونيا تعيش ظروفاً قاسية. كان ذلك في ثمانينيات القرن العشرين، مع هيمنة حالة الطوارئ في الشّوارع، ندرة الموادّ في المغازات، سواد الاكتئاب بين العباد. استقبلت أولى مرضاي بسرعة، في تلك الوضعيّة.

كنت أشتغل متطوّعة منذ البداية، لمّا تفطّنت إلى أنّ الجميع كان يفهم ما يحدث وفقاً لوجهة نظر مختلفة الواحدة عن الأخرى. يبدو الأمر مبتذلاً اليوم، في القرن الواحد والعشرين. لكن في تلك الفترة، كان اكتشافي حينها بمثابة ثورة. فأن تتمّ قراءة الواقع من خلال وجهة النظر تلك أو الأخرى فهذا يعني أن لا وجود تماماً لوجهة نظر موضوعيّة.

أتذكّر لقاء جمعني بأخوين كانا من أوّل مرضاي. حدّثاني كلًّا على حدة عن تاريخهما العائلي، كانت روايتهما مختلفة الواحدة عن الأخرى. حينها سألت نفسي: ما لذي يمكن استخلاصه من ذلك؟ أظن أن ذلك كان دافعي للتقدّم بالخطوات الأولى نحو الكتابة.

 تعتمد روايتك «الترحال» على وجهات نظر مختلفة، لكنّها تركّز، من جهة ثانية، على قضية الجسد. متى وجدت وسيلة لربط ذلك مع المسائل الميتافيزيقيّة والاستعارات القائمة على الطيران والرحلة؟

كتبت تلك الرواية منذ وقت طويل. أظن أنّ الارتباط بين الميتافيزيقا والجسد قد نشأ في فترة كنت قد مررت فيها بأزمة سنّ الخمسين. كان لديّ موعد مع دكتور لإجراء تحاليل طبيّة أو شيءٍ من هذا القبيل. كنت في قاعة الانتظار لمّا حدّثت نفسي: أنا أعرف الشيء الكثير عن العالم، موقع الكواكب، غابة الأمازون، لكنّي لم أكن أعرف كيف كان يعمل كبدي، ماهو لون معدتي، كيف تبدو خطوط شراييني تحت قشرتي؟ اكتشفت فداحة تلك النقيصة، قلت لنفسي أنه صار من غير الممكن تجاهل معرفة الجسم. في تلك الفترة بدأت بدراسة تاريخ التشريح. لحسن الحظ أني تمتعت بمنحة جامعية في أمستردام، وهو ما مكّنني من العمل لمدّة سنة كاملة على سبر أغوار تلك التيمة.

كان أهمّ ما اكتشفته حينها هو ما حدث سنة ١٥٧٤، حيث تم إصدار كتابين في نفس الوقت تقريباً: الأول في وصف التّاريخ وعمل الكون، والثاني في كيفية اشتغال الجسد لأندري فيسالي (يعتبر من أهمّ علماء التشريح في عصر النهضة)، وهو ما أثبت لي أنّ عالمين مجهريين متلاصقين كانا بصدد النشأة.

قال أحد النقّاد، بعد عملية تشريح لروايتك، أنّ الجسد البشري ليس في العمق سوى ميكانيكا، هل أنت على اتفاق معه؟

لا. أعتقد أنّ هذه الفكرة قديمة، حيث وفي عهد التنوير، بدأ الناس بالاعتقاد بأنّ العالم ليس سوى مجرد ميكانيكا، آلة متقنة. بالنسبة لي أعتقد أنّ السرّ مازال محافظاً على غموضه وأنّنا لم نتمكن بعد من رفع الغشاوة عنه، وذلك رغم ما حقّقناه من تقدّم علمي. رغم ما نعرفه اليوم عن الدماغ البشري وعن طريقة عمله، ما زالت العديد من المباحث مجهولة تماماً. لا زلنا غير قادرين إلى اليوم عن الإجابة على الأسئلة الكبرى لعصرنا: كيف يعمل الوعي؟ كيف يمكن تفسير ذلك الإحساس الذي لدينا والذي يجعلنا منقطعين تماماً عن باقي العالم؟ لماذا لدينا ذلك الشعور بحالة فكاك عن بعضنا البعض؟ نعم أعتقد أنّ الوعي مازال إلى اليوم مسألة شديدة الغموض.

أليست مسيرتنا في هذا العالم قائمة على سرّ كبير؟ أو لعلّها مملاة من طرف إيماننا بأنّ في الكون رأفة؟ 

لا أعلم. تتمثّل مهمّتي ككاتبة في طرح الأسئلة بجرأة دون ضرورة تقديم أجوبة. إذا أردت الإجابة على سؤالك عليّ أن أغيّر مهنتي وأن أصبح امرأة علم. أن تكون كاتبة، فذلك يعني طلب المزيد من الحريّة، وضع الإصبع على الأدواء من أجل إثارة بعض من الحقائق. أرغب دائماً ب/أن تكون كتاباتي مدعاة للتفكير. أن تكون دافعة للقرّاء من أجل مساءلة العالم.

تلازم الوسوسات مجموعة كبيرة من الشّخصيات في أعمالك. إنّه هوس شديد العمق في أحيان كثيرة. هل هذا يعكس شيئاً من القلق الذي يصيبك زمن الكتابة؟

ارتبطت أكبر الوسوسات التي اعترتني بروايتي «أسفار يعقوب». تواصل الأمر على مدّة تقارب الثّماني سنوات. هل تتصورّ ذلك؟ ثماني سنوات لم أقرأ فيها سوى الآثار التي تعود إلى القرن الثامن عشر، لم أفكر فيها سوى بشخصياتي، ثقافتهم، دينهم، تصوّفهم، في بداية عصر الأنوار، وفي أوروبا الوسطى. الحمد للّه أنني مازلت أحيا بينكم اليوم. (تضحك).

يمكن الاعتراف اليوم بأنّ روايتي كانت نتيجة ذلك الوسواس الذي أصابني. نعم، أنا أؤمن بسلطة الوسواس الإيجابية. قد يدمّرنا ذلك الإحساس، لكنّي أعتقد بأنّ الوسواس يمكن أن يصبح طريقة لتركيز الطاقة في نقطة معيّنة. الأمر مؤلم لكنّه مثمر في نفس الوقت.

تركيز الطاقة في نقطة معيّنة. هذا وصف جيّد للصلاة. هل تؤمنين باللّه؟

(بعد تفكير) أيّ من الآلهة؟ (ثم تضحك)

أنا لا أشير إلى صورة ربّ ذو لحية بيضاء طويلة، له قدرة على إرسال الصواعق وإلحاق العقاب. بل إلى تلك القوة الخارقة في الخلق والتنظيم.

في هذه الحالة، نعم. أنا مؤمنة. لكن إيماني بعيد عن إله شبيه بالبشر. أؤمن بأنّ هذا الإله، هو، هي، أو غيرهما، لا يهمّه كثيراً ما نثيره نحن البشر حوله من أقاويل.

ماهي المدينة التي تعطيك رغبة مباشرة  بركوب الطائرة حالاً؟

منزلي الجديد الواقع في جنوب بولونيا، في منطقة أشبه بزائدة دوديّة فوق الخارطة الأوروبية. تاريخياً، لم تنتم هذه المنطقة مطلقاً إلى بلدي، إذ تمّ إلحاقها إلى التراب البولندي بعد الحرب العالمية الثانية. كانت هدية صغيرة من مؤتمر يالطا للسلام، لإصلاح ضرر ما تخلّت عنه بولونيا في الشرق. 

 أنا أعيش هناك، في منزل قديم، نقوم اليوم بإعادة تهيئته. أهاتف زوجي، هذه الأيّام عدة مرّات لأسأله أين وصلت الأشغال في إصلاح السقف، المزاريب، الشبابيك وغيرها. أنا، في داخلي، أرغب في القيام بهذه السفرة، العودة إلى هناك، للاعتناء بمنزلي (ضحك). تلك وجهتي القادمة.