«ليتني كنت أعمى»... حقن الذاكرة بعينين لا تزالان قادرتين على التنفس

2019-12-24 08:00:00

«ليتني كنت أعمى»... حقن الذاكرة بعينين لا تزالان قادرتين على التنفس

وكما تحضر الشخوص، تحضر الأماكن في رواية الشرفا، الذي اعتمد تقنية السرد القائم على فقرات ليست ممتدة، ومشاهد متلاحقة، وكأن عليًاً يمسك في يمينه كاميراته القديمة، وفي يساره كاميراته الجديدة، ويلتقط الصور، هناك في ساحة المنارة في نابلس، حيث مسجد النصر، والساعة، وبعيداً في معسكر الكرامة، أو عند مدخل مخيم شاتيلا أو داخل أزقته، أو في رام الله، أو عابراً بلا كاميرات إلى ما صوّرَته الشخصيات واحتفظت به في ذاكراتها إلى يافا، وحيفا، وغيرها.

ما بين حكايات علي الطوق المصوّر المقاتل القادم من بيروت إلى رام الله ومنها إلى نابلس، وحكايات ياسر الزرعيني ابن مخيم جنين، تتأرجح رواية "ليتني كنت أعمى" بين نضالات عدة تتواصل منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى معركة مخيم جنين، وهي الرواية الأحدث للروائي الفلسطيني وليد الشرفا، الصادرة عن الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان.
 

وتُسلط الرواية الضوء على حقبة، باعتقادي، قلة من تناولتها، أي انتفاضة الأقصى، التي يطلق عليها البعض اسم "الانتفاضة الثانية"، وكذلك مرحلة الانتفاضة الأولى وهي تلملم أوراقها الأخيرة لتضعها في يد المفاوضين العلنيين في مدريد، والسريّين في أوسلو، بحيث يمكن عنونتها هي التي تتأرجح أيضاً ما بين بيروت ومخيم جنين، بـ"رواية الخيبات"، ليس فقط للمناضل العائد إلى فلسطين الوطن الحلم، أو للمقاتل من أبناء المخيم، بل لعموم الفلسطينيين أو غالبيتهم، وما آلت إليه أوضاعهم في مرحلة ما بعد "أوسلو"، كما أنها رواية رصد لنضالات باتت منسية، حيث الشخصيات تتنقل ما بين واقع ومتخيل يبدو مبنياً على المُعاش، أو ممزوجة ما بين عدة شخصيات.

الحديث عن الرواية يبدأ من حيث عتبة الإهداء إلى "الاعتذار الذي لم يعد مقبولاً، لقد تجاوز الزمان والمكان"، وإلى مبتدأ الرواية التي يتضح منها جلياً أن علي الذي كان يوثّق بكاميراته أحداث الثورة في بيروت، وهي الكاميرا التي تحمل في أحشائها صور أصدقائه من شهداء الثورة، ينتهي به الأمر فاقد البصر، في حين يفقد ياسر إحدى قدميه، وكأنها مآلات الثورة الفلسطينية في زمن يبدو فيه الفلسطيني كأنه "يمشي في تابوت"، نصفه ميت، أو كأنه "مسلوخ الجلد يمشي نازفاً"، يخجل إن فرح، ويقنط إن حزن.

"يدفعني علي الذي لا يرى على ذلك الكرسي المتحرك... علي قريب من عمر وليد، يمشي خطوة خطوة، أسمع صوت زفيره المتلاحق، أنظر إلى ما تبقى من رجلي تحت بنطالي الأسود الذي طوّي القسم السفلي الفارغ منه إلى الخلف ثُبّت بدبوس أسفل خصري، طالما لم أحذره يبقى يدفع، علي بلا زوجة أو ولد، كيف أصبح الأقرب إليّ، وأصبحت أنا الذي تبقّى له كما يقول... بهذه العبارات، وتحت عنوان "لذلك اقتضى التنويه" يفتتح الشرفا روايته على لسان ياسر، الذي يحث عليّاً على حفر قبر بعد عشرين عاماً، حين يوافقه الأخير على تحميض الصور في أفلامه القديمة، وهنا تظهر بعض صور شهر العسل مع زوجته التي ذبحت في مجزرة صبرا وشاتيلا عروساً، وصور الخروج من بيروت، وغيرها من صوَر المقاتلين والشهداء، وكأنها محاولة من الاثنين في درب الآلام إلى إسقاط أسطورة الزمن بإحياء "الموتى"، وجعلهم "ينزفون ويتألمون مجدداً"، هم الخارجون من قلب الصور.

واختيار سيارة الإسعاف لتكون جغرافيا المأساة الفلسطينية، ليس اعتباطاً، وكأنه ألمح هنا، أو هكذا أردت تأويل ما ذهب إليه، بأن القضية الفلسطينية برمتها هي الآن في سيارة الإسعاف، وحال لم ينته بها المآل إلى المقبرة شهيدة أو قتيلة، وُئدت بعد تعرضها لاغتصاب الأعداء، أو ذوي القربى، فإنها ربما تكون غير قادرة على المشي كما ياسر، أو فاقدة للبصر، أي البوصلة، كما علي، لا ينفعها الاعتذار، كما جاء في عتبة نص الرواية، فالاثنان يلتقيان في هذه السيارة، التي كان سائقها مرافقاً لأحد المتنفذين، يقود سيارة فارهة تُقلّ المتنفذ إلى حيث عمله أو لا عمله، في حين يقضي بقية الوقت فيها يلاحق رغبات أسرته وزوجة في تلك الحياة بالغة الرفاهية ما بين المقاهي والمطاعم وصالونات التجميل، فيما يسقط كل يوم أكثر من شهيد، وراء كل واحد منهم حكاية وأسرة ربما لا تجد قوت يومها.

سائق الإسعاف هذا في مهمته الجديدة ينقل إلى المستشفى من قلب نابلس القديمة خمسينياً يفقد عينيه، وشاباً يفقد إحدى قدميه، فيما تبقى الثانية معلقة المصير ما بين قطع أو بقاء على قيد حياة لن تسعفها وتوأمتها المفقودة إلى السير مجدداً نحو معركة أخرى، وهو يغني "شدّّوا الطوق شدوا الطوق... طول ما سلاح الثورة بإيدي راسي لفوق"، أو كما كان يخطط إلى بريطانيا لإكمال دراسته الجامعية العليا.

ويغوص الشرفا باقتدار العازف على وتر الكلمات والأحاسيس، داخل أعماق الشخصيات بكل ما يحملونه من تشوهات وتناقضات، وفخار بات ذكريات في كاميرا، أو في عين تخزّن الصور بعد أن فقدت قدرتها على تخزين صور جديدة، وكأنها الكاميرا التي منحه إياها الوفد المفاوض في مدريد لتصوير أحداث المفاوضات، حيث شارون، المسؤول بشكل ما عن ذبح زوجته، يقطن في ذات الفندق، هو الذي لا يريد أن يلوث صور الشهداء في كاميراته العتيقة موضع التندّر، فيقبل بالجديدة الغريبة عليه، كما هي المرحلة برمّتها، التي يرفضها بامتيازاتها ورفاهيتها التي عايشها رفاقه أو غير رفاقه من "العائدين"، في جو من انشغال غالبيتهم بـ"التفريغات والترقيات بعد عودتهم إلى رام الله".

لكن الشرفا لا يكتب شهادة نعي للمقاومة في رواية "ليتني كنت أعمى"، بل يبدو كمن يسطر رسالة غضب إزاء كل من خانوا الثورة، فيما يسعى أيضاً إلى حقن الذاكرة الفلسطينية بما يحول دون إصابتها بالزهايمر، فيذكر بمنضالين حقيقيّين، عبر صور التقطها أو تمنى التقطها أو لم يكن يريد التقاطها، ويسرد حكايتهم، ومن بينهم علاوة على القائد الذي لم يذكره بالاسم، أي أبو عمّار، وعدد مناقبه كرمز لن يتكرر، زكية شموط التي تمنى لو التقط لها صورة..."...صورة المقاتلة زكية شموط، لم يكن حلمي أن أصورها بالزي العسكري ولا بالعمليات التي نفذتها مع زوجها، ولا حتى بيتها في حيفا الذي هُجّرت منه وعمرها ثلاث سنوات فقط في عام ١٩٤٨، ولا معطفها وطفلها الذي حملته للتمويه على المتفجرات التي كانت على جسدها، كان حلمي أن ألتقط لها صورة هي ومولودتها التي ولدتها داخل العزل الانفرادي عام ١٩٧٢، إذ كيف نجت من كل هذا التعذيب، وكيف صرخت زكية صرخة الميلاد وحدها، في برد الزنزانة وعتمتها، كيف لميلاد وأمنيات للموت أن يجتمعا، وكيف لدم التعذيب ودم الولادة أن ينزفا معاً؟!".

وعلى عكس صورة شموط وابنتها، لم يكن يتمنى علي التقاط تلك الصورة بالأبيض والأسود لطفلتين في شارع الحمرا في بيروت "ربما في العام ١٩٧٨، الطفلة الصغرى ترتدي بلوزة مخططة بشكل دائري. رجلاها مقطعتان من منطقة أسفل الركبة، الجو حار، والضجيج في شارع الحمرا يختلط بين إعلانات السينما وصور شهداء القصف وصور ضحايا الحرب الأهلية، هواء حار محمّل بالغبار والرطوبة يعبر بين العمارات آخر الشارع الأقرب للبحر، كانت الطفلتان على يمين الشارع مقابل المكتبة الأقدم، تحبو الطفلة، أقترب أكثر نحو الرصيف، تبدو الطفلة في مصيدة بين غابات الأرجل المتسارعة ذهاباً وإياباً، تزحف الطفلة، تفرش يديها على الأرض بقوة، السواد يغطيهما، تتمسك بالأرض كأنها تتمسك بغصن، تتكور يدها، تصبح مثل يد الحرباء، تجر بنطالها الفارغ من السيقان خلفها، كأنه ذيل يجر على الأرض...".

وكما تحضر الشخوص، تحضر الأماكن في رواية الشرفا، الذي اعتمد تقنية السرد القائم على فقرات ليست ممتدة، ومشاهد متلاحقة، وكأن عليًاً يمسك في يمينه كاميراته القديمة، وفي يساره كاميراته الجديدة، ويلتقط الصور، هناك في ساحة المنارة في نابلس، حيث مسجد النصر، والساعة، وبعيداً في معسكر الكرامة، أو عند مدخل مخيم شاتيلا أو داخل أزقته، أو في رام الله، أو عابراً بلا كاميرات إلى ما صوّرَته الشخصيات واحتفظت به في ذاكراتها إلى يافا، وحيفا، وغيرها.

و"العمى" كثيمة كان محور الكثير من الأعمال الإبداعية في الأدب والفنون بكافة أصنافها، وفي الرواية سرعان ما يذهب الذهن إلى رائعة ساراماغو، والأمثلة هنا كثيرة جداً لا يتسع المقال إلى حصرها، فالقائمة حتماً ستطول، وهي ثيمة عادة ما تعكس الجانب المظلم للنفس البشرية بفردانيتها أو بصورتها الجمعية، إلا أن عليّاً في رواية "ليتني كنت أعمى" لوليد الشرفا، وإن كان لم يعد بإمكانه رؤية كلارا مرة أخرى، تخرج هي من شريط الفيديو الإباحي الذي قدمه له في مدريد صحافي إسرائيلي، بقي، ورغم كل ما مرّ فيه وعليه "يتنفس من عينيه"!