هنا نصبح أمام رعب كلمة "الشعب يريد" هل الإرادة هنا فعل ممكن وفي الكلمة شيء من القدرة والرغبة في المشاركة في إنتاج المعنى الجديد أم أحلام وفونتازمات شعب كسول يبحث عن حياة الريع لذلك يتحدث كثيراً عن ثروات البلاد النفط والملح مثلا؟
انطلق الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في قصيدته "إرادة الحياة" والتي اجتُرح منها معنى تلك العبارة التي استلهم منها الشعب التونسي شعار ثورته ومن بعده كل الشعوب المنتفضة بعد 2011 "الشعب يريد" من يأس مبثوث في كتاباته من الشعب نفسه:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
إن هذا البيت لا يعلن إرادة ذلك الشعب بل يرثيها، لأن شرطية استجابة القدر رهينة إرادة الشعب الميؤوس منه. الشرط هنا يفيد الاستحالة. والشابي نفسه في مواقع كثيرة نثراً وشعراً كان يتحدث عن اليأس. ذلك اليأس الذي جعله يتمنى أن يكون حطّابا فيهوي على الجذوع بفأسه ويذهب إلى الغاب يائساً كما كان الشابي يائساً من نخبته عندما كتب في يومياته سنة 1930: "لقد أصبحت يائساً من المشاريع التونسية، ناقماً على التونسيين، لأنني أراهم يقولون كثيراً ويعملون إلا قليلاً، وإنني أراهم نبغاء في بسط نظرياتهم. والتحمس لها يدفعهم إلى أن تؤمّل الآمال الكبار، وتعتقد أنك تخاطب روحاً متجسدة في فكرة تلتهب، حتى إذا جاء دور العمل تمزقت تلك البراقع، وخمدت تلك النزوات، وتكشف البرقع البرّاق عن وجه الحقيقة الأربد، وإنجاب طلاء الشباب ونضارة الفتوّة المستعارة عن تجعّدات الشيخوخة وقبور الخمول.
إن التونسيين الآن ذوو نظريات فسيحة واسعة، ولكنهم يدورون في منطقة ضيّقة من الأعمال لا تكاد تنتج شيئاً."
غير أن الشعب التونسي الذي هجاه الشابي نثراً وشعراً كان في كل مرة يحاول الإطاحة بذلك اليأس عبر انتفاضات مختلفة منها ما كان على المستعمر ومنها وما جاء على سلطة ما بعد الاستقلال. كانت انتفاضاته دائماً تعاني من هشاشة. تتوقف في منتصف الطريق. تخمل لتأكلها الغيلان أو ترتد لتنتج الأسوأ مؤكدة رأي المفكر السعودي عبد الله القصيمي أن الثائر العربي إذا ثار على طاغية يأتي بأسوأ منه.
هناك شيء ما في هذا الشعب تجعل أحواله تتقلّب كأشهر بطل روائي في أدبه وهو غيلان، وغيلان بطل كتاب «السد» للأديب محمود المسعدي، ذلك البطل الوجودي الذي يكابد من أجل بناء سد دون جدوى. هناك دائماً قوى تحول دون أن يفعل ذلك.
يكتب الشاعر الراحل الصغير أولاد أحمد يوم 8 جانفي 2010: "النجدة يا كتاب العالم"
فالشعب وبعد أيام من تمرده تخلى عن استعمال كلمة ثورة ليرتد إلى كلمة انتفاضة كذلك فعل الإعلام العربي فيكتب الصغير أولاد أحمد تدوينات متتالية "ثورة تونس وليس انتفاضة... الرجاء التصحيح" و"الرجاء إقناع الشعب بأنه قام بثورة . وذلك بمزيد تكرار اللفظة والمفهوم".
إن هذه الصرخة لاستعادة الثورة لغوياً هي التي ضيعتها أو تكاد، فالثورات تحدث في اللغة والأحداث تحدث في الرأس وتجري على اللسان. لم يكن الشاعر إلا مدافعاً عن تلك الأرض الجديدة المحلوم بها وهي تتحقق وتُحل كأحجية.
يواصل أولاد أحمد هذيانه اليومي من بيته الذي سماه "مركز القيادة الشعرية للثورة" حتى يكتب في 8 مارس 2011 على صفحته بالفايسبوك التي سيجمعها بعد ذلك في كتابه «القيادة الشعرية للثورة: يوميات»: "على الشعب الذي يريد أن ينتصر أن يوجد في زمن واحد وليس في أزمنة متباعدة ومتقاتلة".
هنا يمكننا أن نحلل الوضع التونسي. إن تواصل استمرار الأمل التونسي في تحقيق أهداف ثورته نابعة من طبيعة الشعب نفسه، لا حماسه لتحقيق تلك المطالب الثورية بل لسخطه وعدم رضاه بأي تحقق. إن انعدام الثقة التي زرعتها الأنظمة السابقة في ذهنية هذا التونسي جعلته لا يصدّق شيئاً. وعدم التصديق يعني التكذيب وهذه ميكانزمات دفاع، ربما، لاواعية لمزيد تحقيق ما ثار عليه.
لا يكتشف التونسي ما حققه إلا عندما يترك تونس ويلتقي بأشقائه العرب ومن الخليج تحديداً. يشعر هناك في غالب الأحيان بالاغتراب. فالهوية واحدة كما يدعي هو وهم على حد السواء لكن لا شيء يشبهه فيهم. ما هو بديهة عنده مخيف عندهم. ليس في المسألة أي تفاضل، إنما هي الأمور كذلك إذا تحدثوا في الشأن العام والحريات الفردية والسياسة.
أسقط الشعب التونسي منذ 2011 صور الرئيس ولم يجرؤ رئيس من جملة الرؤساء الذين مروا على قصر قرطاج منذ ذلك الوقت على رفع صورة له في أي مؤسسة عامة أو خاصة أو في القصر الرئاسي. وهذا الانتصار الرمزي كاف لنقول إن "الشعب مازال يريد". ولكن الإطاحة الحقيقية بالرئيس كانت في الانتخابات الأخيرة عندما أطاح الشعب بنموذج الرئيس الارستقراطي الذي يتوجه إلى قرطاج مدفوعاً ومحمياً بحزب كبير وتأييد أحزاب مجاوره له إيديولوجيا ومسنوداً برجال أعمال كبار. ليصل قرطاج رجل أعزل، رجل بسيط، أستاذ جامعي، موظف من الطبقة المتوسطة التي دمرتها كل الأنظمة لتلحقها بالطبقات المهمشة والمعدمة أحياناً. فاز قيس سعيد أمام رجل الأعمال والسياسي وصاحب قناة تلفزيونية فضائية. هنا يُدخل الشعب قصر قرطاج رجلاً من عامته وبذلك يعلن عن استجابة القدر لإرادته. فالشعب لم يعد يريد فقط بل يفعل ويكسر القيود.
غير أن السؤال المحير الآن هل فعلاً هذا الشعب الذي جاء بالرئيس قيس سعيد سيصمد في وجه النخب الأخرى الرافضة له؛ النخب السياسية وقواعدها والنخب الاقتصادية والمالية والإعلامية التي من صالحها أن تسقط هذه التجربة وتعود بصورة الرئيس إلى ما كانت عليه وتعود بالخطاب الرئاسي إلى طابعه الدبلومسي والمتحفظ والمنسوج وفق المألوف؟ فقد أثبت الرئيس قيس سعيد حتى بعد توليه منصب الرئاسة أنه منفلت ومتفلت من الضوابط وكثيراً من الأعراف والتقاليد وحتى البروتوكلات التي تهم رئاسة الجمهورية حتى أنه صرح في آخر خطاب له في مدينة سيدي بوزيد، المدينة التي حرق فيها محمد البوعزيزي نفسه ديسمبر2010، أنه ليس خائفاً على منصبه كرئيس ولا يعنيه بقدر ما يعنيه التحول الذي يحلم به.
إن الاندفاع الذي نراه من الرئيس قيس سعيد نحو إرادة الشعب وخاصة المسحوقين ينظر إليه نظرتين، الأولى تثمنه باعتباره خطاباً شعبياً ضرورياً وهو خطاب ثوري في كل الحالات ويعتبره البعض مستهدفاً ويرون استهدافه هو استهداف الشعب وإرادته، ويعتقد نخبته من حوله أنه استهداف مخيف ويقارنون بينه وبين الزعيم المغتال شكري بلعيد الذي ردّدت إثر اغتياله النخب قصيدة الشابي التي يقول فيها:
كـلّمـا قـام فـي الـبـلاد خـطـيـب
مـوقـظ شعـبـه يـريـد صـلاحــه
ألبسوا روحـه قميـص اضطهــــادٍ
فـاتـكٍ شـائــك يــرد جـمـاحـه
أخـمـدوا صـوتـه الإلهـي بالعسـف
أمـاتـوا صـداحــه ونــواحـــه
والثاني يعتبره ظرفياً وأن هذه الشعبية ستعصف به وأن الشعب الذي أوصله إلى الحكم هو نفسه الذي سيسقطه لأنه بانتظار تحقيق ما وعد به. يقول المؤرخ الهادي التيمومي صاحب «موسوعة الربيع العربي»: "قيس سعيد سينتهي بشكل صاروخي كما صعد بشكل صاروخي". هنا نكون أمام سؤال كبير، ما هي حدود إرادة الشعب؟ هل إرادة الشعوب في اختيار مصيرها أم في اختيار منقذها؟ لماذا مازالت الشعوب العربية شعوب سلبية حتى الثائرة منها، وتنتظر الخلاص؟ هل فعلاً هناك فرد يمكن أن ينقذ الكل؟
إن هذا النمط من التفكير الذي أتى بقيس سعيد في وجه من وجوهه هو الذي أسس لما عرف بالبورقيبية نسبة إلى الزعيم الحبيب بورقيبة ونَسبتْ له دون غيره كل إنجازات البلاد في الحريات والاستقلال والنضال والمقاومة حتى بناء الدولة وعمليات تحديث المجتمع التونسي. وكأن حرية المرأة كانت فكرة بورقيبة محضة وليست فكرة الطاهر الحداد وكأن الاستقلال جاء فقط بحنكة بورقيبة السياسية ولم يكن بزملائه السياسيين والنقابيين والشهداء والمقاومة المسلحة في كل مكان...
هذا الفكر هو نفسه الذي يَرثي الزعيم بورقيبة طوال الوقت ويدافع عن تماثيله وصوره وأحياناً يختلق تعرضها للأذية لأنه شخصن النجاح، حتى أن الرئيس السابق الباجي قايد السبسي الذي فهم الأمر جيداً فلم يبحث عن إنجازات بل اندفع يمارس عملية تنكرية بأداء أدوار تمثيلية مستعيناً باكسسوارات بورقيبة وحركاته وخطابه وحتى ملابسه ونظاراته الشمسية في حملته الانتخابية ليصل إلى قصر قرطاج ووصل بذلك.
هنا نصبح أمام رعب كلمة "الشعب يريد" هل الإرادة هنا فعل ممكن وفي الكلمة شيء من القدرة والرغبة في المشاركة في إنتاج المعنى الجديد أم أحلام وفونتازمات شعب كسول يبحث عن حياة الريع لذلك يتحدث كثيراً عن ثروات البلاد النفط والملح مثلا؟
هل الشعوب التي تبحث عن زعماء هي شعوب واعية فعلاً؟ لماذا لا نسمع عن زعماء في مجمعات ديمقراطية ولا نكاد نسمع برؤسائها أو ملوكها كالدول الاسكندنافية والأروبية؟ حتى أن السياسة تسقط كل مرة الرؤساء الذين يريدون التحول إلى زعماء كما يحدث لرونالد ترامب اليوم.
هل الشعوب العربية شعوب من السندريلات تنتظر الأمير المنقذ على الحصان الأبيض ؟
هل هي لعنة الشابي التي تلاحق الشعب التونسي والشعوب العربية الخاملة التي تنتظر المخلص؟ يقول صاحب أغاني الحياة:
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لمّا سَأَلْتُ : " أَيَـا أُمّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"
"أُبَارِكُ في النّاسِ أَهْلَ الطّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِـذّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزّمَـانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبّ الحَيَاةَ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطّيُورِ وَلا النّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزّهَــر