حَمل (قصة لرؤى الشيش)

2020-01-09 00:00:00

حَمل (قصة لرؤى الشيش)
RUBA SALAMEH

بعد مرور عشرة أشهر جاءني هاتف في صباح يوم عطلتي يخبرني أني فزت بالمسابقة، وأن فكرتي هي التي اختاروها، وأنه عليّ أن أشاركهم اجتماعاتهم ليتم تحويلها إلى خطة مفصلة مع فريق محترف لإنتاجها. أنهيت المكالمة، غمرت نفسي تحت لحافي بعينين مفتوحتين باتساع، متخذة وضعية الجنين.

إن العمل لدى الآخرين هو كأن يضغط أحدهم على رأسك لتبقى تحت الماء مدعيًا أنه هكذا يعلمك السباحة، بينما الشعور الأساسي هو بالظلم، وبانعدام القيمة، بالوحدة وبالاحتقار الذاتي. أتساءل في طريق عودتي من عملي لماذا قُدر هذا الشخص أن يكون أنا؟ سأقتل نفسي اليوم، فور وصولي. أركض بضع المترات المتبقية لوصولي بيتي، وما أن يصير الباب قبالتي تنتابني هلوسات تشتت ذهني وتبطئ حركتي إلا أن إصراري يدفعني للاستمرار. ها أنا بتثاقل أفتح باب البيت وأصل المطبخ وأحضر كأس السم. أغمض عيني كي أستعيد توازني وأستطيع أن أرفع الكأس. السواد في كل مكان، أنا لست هنا الآن، صرت جزءا من الكون المظلم، إحدى ذراته، غباره، أنا العتمة. أفتح عينيّ كي أعود إلى خلقتي الحقيقية كإنسان ولد وعليه شاء أم أبى أن يمارس وجوده. أخرجت من فمي كلمات معقدة ومؤلمة متسائلة: "هل لي في رحم هذا العالم شيء يجعلني أنتظر ولادته؟"، قلت هذا وأنا واقفة عند رخامة المطبخ أتأمل كأس السم ممسكة به دون أن أرفعه. لا أستطيع رؤية شيء سوى كأسي كأني وسط لوحة كلها ضبابي والكأس مرسوم بدقة ووضوح. أما أنا ومطبخي فكنا باهتين نحتاج إلى الكثير من التأمل حتى يستطيع الرائي الانتباه لنا والتعرف علينا. لم أكن أبدًا من أولئك البائسين الذين عندما يكتئبون يعرف أهلهم وجيرانهم وأصدقاؤهم وحتى قطط الشارع أنهم في حالة يرثى لها. إن ما يواسيني هو شعور يسري داخل دمي، كنسمة هواء خفيفة وباردة في مساء صيفي كان نهاره شديد الحرارة، مفاده بأني دائما أحسن حالاً من الآخر. أرى أن الفرق بيني وبين الآخرين هو أن روحي متطلبة أكثر، لدرجة بات كل شيء شاحباً وباهتاً ولا شيء واضح عدا الموت المتمثل بكأس السم الذي أمسكه بيدي. اختلطت بالكثير من الناس ولم أصدف شخصا يشبهني، حتى البائسين من الذين التقيت بهم كانوا يبحثون عن الرضى ولم يجدوه، ربما لهذا هم بائسون. عليهم أن يبحثوا عن القيمة إذا كان ولا بد أن يدمروا حياتهم ويخسروا وقتهم الثمين بالفشل النفسي، فليكن السبب ذا قيمة؛ فليكن السبب هو القيمة لا الرضى!

نزعتني أفكاري ذاتها من وسط اللوحة بحيث لم أعد أكثر من رسمة فحسب، بل حضور يستطيع تصنيف الأشياء بناءً على ماهيتها، فأنا الآن أرى مطبخي بكل وضوح. الخزائن والصحون على طرف المجلى، عيون الغاز وطاولة الطعام الصغيرة. تناولت الكأس وسكبته داخل الحوض ثم ألقيته بالقمامة، التففت متوجهة نحو باب المطبخ. نظرت إلى الباب. إنه قبالتي تماماً. مشيت خطوة ثم تساءلت من جديد "ماذا علي أن أفعل الآن؟" كلوحة سريالية، تناثرت زوايا وقطع المطبخ في كل مكان، ورأيت يدي تسبح وحدها في فضاء المطبخ مع عيون الغاز. لكن كيف لي أن أرى عيوني تحوم في أرجاء المكان؟ بأي طريقة أرى أنا الآن إذا كانت عيناي خارج وجهي؟ لم يدم تساؤلي طويلًاً عندما رأيت وجهي من غير ملامح يحوم هو الآخر، فقد أجبت بصوت مسموع "لو شربت السم لما كنت أتساءل ماذا علي أن أفعل الآن". وكأن العبارة التي قلتها كانت تعويذة سحرية لملمت شتات نفسي وأعادت ترتيب القطع المتناثرة والهائمة إلى مكانها الصحيح، جاعلة من الواقع لعبة تركيب تم إتمامها حتى النهاية.

وفيما الثواني تمر بدأت أشعر أن الوقت يقتلني. جلست على الأرض وصرت أبكي بحرارة. مرت ساعتان إلى أن تمالكت نفسي مجبرة إياها على إكمال هذه الحياة. ذهبت لأستحم. كم هو شعور جميل أن تجد شيئاً لتفعله! خرجت من الحمام وارتديت ثيابي. كررت للمرة الثانية، كم هو جميل شعور أن تجد شيئا تفعله! كنت قد اخترت ملابس تحميني من برد الصيف الغادر في المساء. أغلقت باب المنزل ورائي وأنا أتساءل إلى متى سأظل أعود من عملي أفكر بالانتحار؟ تختلط الأفكار والأحاديث داخل عقلي كأني غائبة عن الوعي، وأمشي كشبح لا يلاحظ وجوده أحد. مدينة غير واضحة المعالم يسير فيها ظل لشخص ميت، كل خطوة عالم جديد أقتحمه. مرة أكون أنا الحقيقة الواضحة ومَن حولي قطع متناثرة، ومرة لا أكون سوى حجرِ في بناء قديم يراقب مرور الناس على مدار عقود، ومرة أكون مع جموع الناس خلفية لمشهد عاشقين اتخذا صورة لهما في وسط الشارع. أخرجني من دوامة خيالاتي وأفكاري شاب اقتحم وعيي فاتحاً باب الإدراك لما يحدث على مصراعيه. فجأة صرت أسمع صوت الناس وأصوات السيارات وأرى الإعلانات في كل مكان، وأخيراً أفهم ما يقوله الشاب، قد قال جملة واحدة فقط، تفضلي، وذهب. مسكت الورقة التي أعطاني إياها. نظرت إلى المكان بصورة بانورامية، وعرفت أني تجاوزت مكان سكني بشارعين، فاتخذت قراراً بأني لا أريد أن أبتعد أكثر من ذلك، وأني أريد العودة إلى المنزل. مشيت، بماذا أفكر الآن؟ لا أعرف، صرت أقرأ في الورقة التي بين يدي. إنه إعلان. رفعت رأسي لأجدني وجهًا لوجه مع باب البيت. كم أكره الأبواب، فهي طريقة للعبور إلى مكان آخر وحالة أخرى. كلما رأيت باباً أردت الدخول منه، تساءلت "ماذا علي أن أفعل الآن؟" ليعود واقعي لوحة سريالية. أتعب كثيرًا وأبذل جهداً عظيماً حتى أعيد ترتيب عقلي نحو الحقيقة. قررت أن أفتح الباب وأدخل. يا إلهي كم هو جميل شعور أن تجد شيئاً كي تفعله! ارتديت ملابسي القطنية، استلقيت على الأريكة، وقلت: "كيف لي أن أشرح فكرة بطريقة جيدة؟ كأن أقول لهم مثلاً إن فكرتي هي مسابقة فنية، تتكون من مجموعات كل مجموعة هي فرقة، وكل فرقة تحتوي على كاتب أغانٍ وملحن موسيقي ومغني، وكلهم من المبتدئين أو الذين في بداية مشوارهم، أو الذين لم يجدوا الفرصة ليمارسوا إبداعاتهم، وهنالك لجنة تختار من المحترفين في كل حقل الموهوبين الذين سيتم قبولهم بالبرنامج، والذي سيكون كالتالي: الملحنين من المشاركين بالمسابقة يختارون كتّاب الأغاني المشاركين في المسابقة، وكتّاب الأغاني يختارون المغنين الذين سيغنون كلماتهم بحيث أن الفرق تشكل نفسها بنفسها، لتكون النتيجة عدة ألبومات موسيقية، يظهر منها أكبر عدد ممكن من المواهب الفنية، وطبعًا يتم اختيار الألبوم الأفضل بناءً على تصويت الجمهور. هذه فكرتي. نقطة. إرسال. شعرت بالإحراج بعدما أرسلت الرسالة الإلكترونية. عادت خيالاتي خليطاً من لوحة سريالية ولعبة تركيب. الكثير من القطع المتناثرة في المكان. عليّ أن أفصل قطع اللوحة عن قطع اللعبة. لم يهدأ عقلي بالمرة. ندم، إحراج، كره للذات، عدم ثقة، دوار، كل البيت صار قطعاً تحوم في الهواء، حتى الهواء صار ساخناً، هذيان، الشمس تضرب وجهي بقوة. تساءلت، "كيف وصلت إلى وسط الصحراء؟"، وفقدت الوعي.

بعد مرور عشرة أشهر جاءني هاتف في صباح يوم عطلتي يخبرني أني فزت بالمسابقة، وأن فكرتي هي التي اختاروها، وأنه عليّ أن أشاركهم اجتماعاتهم ليتم تحويلها إلى خطة مفصلة مع فريق محترف لإنتاجها. أنهيت المكالمة، غمرت نفسي تحت لحافي بعينين مفتوحتين باتساع، متخذة وضعية الجنين.

 

أعزائي قرّاء عامود يوم غيّر حياتي/قصص نجاح في مجلة (ثقافتي): أحيانًا، تحتاج أن تغوص في العمق لتصنع لنفسك مكانًا على السطح. أو كل ما في الأمر هو أني صرت أجد شيئاً أردم به هذا الفراغ الأسود الذي يتجدد باستمرار في قلبي.