أين أحمد؟ (قصة لربيع عيد)

2020-01-09 00:00:00

أين أحمد؟ (قصة لربيع عيد)
RUBA SALAMEH

كل يوم وعلى مدار الأشهر المقبلة، كانت صور أحمد وهو يلقي الحجارة بكل حماس تجاه الشرطة، وهو يُجّر ويُضرب، وهو في المحكمة يزيح نظره عني، لا تفارق مخيّلتي. لم أعد أعرف أحمد الذي عرفته منذ الطفولة إلا في هذه الصور. وكأن سنوات المدرسة وشقاوتها ومغامراتنا معاً، امّحت بعد هذه الحادثة.

"غزة غزة ما بتركع، للدبابة والمدفع" كان الهتاف يتردد بين الجماهير في المظاهرة وأنا أبحث عن أحمد. اتفقنا أن نلتقي عند دوار إميل حبيبي لكنه لم يأت. انتظرته وحاولت الاتصال به إلا أنه لم يرد. بدأت المظاهرة عند الساعة الخامسة في حي عباس. كانت مدينة حيفا في ذلك اليوم تستقبل مئات المتظاهرين من خارجها قبيل الغروب. الشرطة تتواجد في كل مكان مدججة بمئات العناصر، وسياراتها تملأ الأحياء الفلسطينية في المدينة التي تسودها أجواء من التوتر والترقّب.

عندما بدأنا المسير، انضم إلينا العديد من أهالي الحي. طلاب المدارس شاركونا وكانوا كثر. كنا بالآلاف، وسمعنا صدى أصواتنا الهاتفة لغزّة بين البنايات. حاولت البحث عن أحمد بين الجموع، وأستبق المتظاهرين لأمشي المظاهرة كلّها بشكل عكسي باحثاً بين الوجوه، لكن عبثاً.

بدأت أقلق عليه بشكل جدي. أين يكون قد ذهب؟ هو وعدني بشكل قاطع أننا سنشارك معاً في المظاهرة. أنا أصرّيت أن نشارك وأقنعته بذلك. أحمد لم يكن مهتماً بالنشاط السياسي بخلافي أنا الذي انخرطت في السياسة بعد دخولي الجامعة. قلت له لا يمكننا أن نظل نشاهد الأخبار والصور الواردة من غزّة دون أن نشارك في الاحتجاجات. علينا أن نقوم بشيء ما. في النهاية القتل الذي كان يقترفه الجيش الإسرائيلي بالغزيين في تلك الحرب، مشاهد جثث الأطفال المتفحمة التي شاهدناها ذلك المساء، وليس أنا، هو ما جعله يوافق على الفكرة ويشارك معي في أول مظاهرة في حياته.

كان أحمد صديق الطفولة الذي لم يفارقني حتى تخرجنا من المدرسة الثانوية. حينها، ذهب كل منا في طريق. أنا بدأت الدراسة في الجامعة، وهو اختار العمل الحر. في الواقع لم يكن العمل بالنسبة لأحمد حرًا بالمرّة. كان يستيقظ في الخامسة صباحاً ليتوجه إلى مدينة تل أبيب للعمل في ورش البناء هناك.

في أول سنة لي في الجامعة وله في العمل بعد المدرسة، كنّا نلتقي في نهايات الأسبوع فقط، بدل كل يوم كما كنّا نفعل في السابق. اعتدنا أن نلتقي مع من تبقّى من الشلّة التي تفرّقت. نلعب البلايستشن أو أوراق الشدة أو نشاهد أفلاماً. لاحقاً بتنا نلتقي أنا وهو فقط في أغلب الوقت. سامي سافر إلى أوكرانيا لدراسة الطب. خليل إلى الأردن لدراسة الصيدلة. نضال إلى أمريكا للعمل عند أقاربه. بقي عنان وسليم اللذان يدرسان في جامعة بئر السبع وعودتهما للقرية باتت قليلة.

حاولت إقناع أحمد بعد التخرج بأن يأتي للدراسة معي في الجامعة. قال لي أنه يكره الدراسة والتعليم. يريد عملًا حرًا دون أن يتحكم فيه أحد. كان يخبرني بأنه يحلم بأن يكون له مطعمًا كبيرًا يديره في مدينة تل أبيب ويُقدّم فيه الأكل العربي ليدّر له المال الوفير. ولم يتوان أحمد عن حلمه، وقرر العمل بكد وتجميع رأس المال لتحقيق مشروع المطعم.

بعد مضي أكثر من نصف ساعة من انطلاق المظاهرة، تغير مسارها وتوجهت نحو شارع بن-غوريون في حي الألمانيّة. كانت قوات الشرطة تنتظرنا هناك. بدأ قمع المظاهرة بسرعة وفرقّت الشرطة المتظاهرين إلى مجموعات. انهالت قنابل الصوت والغاز المسيّل للدموع علينا وتدخلت قوّة من خيّالة الشرطة التي كانت تحاول أن ترهبنا وتضربنا. إلّا أنّه رغم كل هذا، أصر المتظاهرين في تحدي القمع وإكمال المسير لإغلاق الشارع عند دوار البهائيين. نجحنا في ذلك لبضعة دقائق، لتبدأ حينها حملة اعتقالات للمتظاهرين. حاول أحد عناصر قوات الأمن الخاصة شدّني تجاههم، إلا أنني هربت. لحق بي فركضت بكل ما أوتيت من سرعة في الهرب. لم يتمكن من إمساكي وابتعدت عن المظاهرة.

لا أعرف لماذا انتابني شعور أن أحمد متواجد في المظاهرة وأنا أنظر نحو الجموع من الشارع الأعلى المقابل. عدت لساحة المواجهات من طريق آخر ودخلت مجددًا بين المتظاهرين المتفرقين في مجموعات محاصرة من قبل الشرطة. حاولنا أكثر من مرة كسر الطوق حول كل مجموعة لنعود ونتوحد لكننا لم ننجح. بعدها بدأ بعض المتظاهرين بإلقاء زجاجات الماء على الشرطة وبعض الحجارة بعد أن اشتدّ القمع. نظرت سريعاً إلى مصدر من يلقي ذلك فوجدت مجموعة من الشباب الملثمين. نادى بعض المتظاهرين عليهم ليكفّوا عن ذلك وعدم منح الفرصة للشرطة بأن تصبح أعنف. لمحت أحمد بين الملثمين. تعرّفت عليه من جسمه العلوي العاري وكنتزته التي غطّت وجهه. أعرف هذا الجسد من أيام دوري كرة القدم في المدرسة، حين كان طموحي أن ألعب كرة القدم بمهارة مثله. حالما ننتهي من التمرين كان يخلع بلوزته ويلفها على رأسه المتعرق. بدا واضحًا أن جسده كبر عن السابق واشتدت عضلاته بعد سنة من العمل الشاق في ورشات البناء.

لم تمر أكثر من ثوان حتى هجمت قوات الشرطة على جميع المتظاهرين. ضربتهم بكل وحشية دون تفرقة. وبدأوا في اعتقال أي أحد يحاول صدهم. كنت في الصفوف الأمامية. حاولت منع أفراد الشرطة من التقدم. هم كانوا يدفعون بنا إلى الخلف ويردوننا عن الحي الألماني. وفي لحظة مباغتة وجدتهم يلقون بي أرضاً. أدركتُ لحظتها أنني أتعرض للاعتقال. وامتنعت عن مقاومتهم بعد أن تلقيت بضع ضربات على رأسي وجسدي. كبّلوا يدي للخلف بشرائط بلاستيكية متينة ثم أخذوني إلى سيارة الشرطة.

قبل أن يضعوني داخل السيارة حيث واصلوا ضربي، شاهدت شرطيين يجرّان أحمد أرضاً نحو سيارة الشرطة التي بجانبنا والدم ينزل من فمه. لقد تعرّض الجسد الأسمر الذي كان يلقي الحجارة قبل قليل تحت أشعّة شمس الغروب المنبعثة من وراء جبل الكرمل للضرب المبرح.

في التحقيق، أراد المحقق أن يجعلني اعترف أنني اعتديت على أفراد الشرطة. شتمني وهددني بطردي من الجامعة. "بتعرف إنّي بتلفون واحد ما بخليك تكمل تعليم". "إنت عارف إنك راح تقعد أقل شي سنتين بالحبس عنّا". "شو بدك بغزة! هدول حماس إذا إجوا وحكموكم ما بيخلوا ولا مسيحي بهاي البلاد. شوف شو حال المسيحية في غزة. إحنا اليهود عم نحميكم".

لم يكن أول اعتقال لي وأعرف أساليبهم جيدًا وما يمارسونه من مختلف أنواع الضغط النفسي للتعاون معهم ومنح المعلومات ضد المتظاهرين. رغم التعب والترهيب النفسي والجسدي رفضت الرد على أسئلته واستفزازاته. قلت لن أتحدث طالما لم ألتقِ بمحامٍ. أمر بتقديمي للمحكمة بعد استنفاذ محاولاته. فكرت بعشرات الشباب والصبايا الذين اعتقلوا معي في ذلك اليوم؛ خاصة في أحمد وكيف سيتصرف. نُقلنا إلى سجن "ناحشون" لمدّة يومين قبل عرضنا على المحكمة.

أفرجوا عنّي مع معظم المعتقلين في جلسة المحكمة الأولى. لم يكن للشرطة إثبات على أننا اعتدينا عليهم. بقي خمسة أشخاص لجلسة أخرى. تمكنت الشرطة من تقديم إثباتات ضدهم. أحمد كان من بينهم.

عندما كنت أنظر في عينيه خلال جلسة المحكمة، كان يزيح وجهه عني. ولا أعرف لماذا. هل لأنه ندمان على مشاركته في مظاهرة أنا أقنعته بالمشاركة بها؟ أم لأنه عندما جلبوني خلال التحقيق إلى غرفة كان يتواجد فيها، قلت "لا أعرفه ولا أعرف أي أحد. أريد محامي". أو ربما أنهم قد قالوا له كذباً كما قالوا لمن يعتقدون بوجود علاقة ما بينهم، أنني قدمت معلومات عنه للشرطة خلال التحقيق. فعلوا ذات الأمر مع أكثر من شخص وفق ما علمت لاحقاً، كما وأن أحمد اعترف بأنه رمى الحجارة تجاه الشرطة مع أن الأخيرة لم يكن لديها أي اثباتات. وجدوا في هاتفه النقال فيديوهات لأغاني للمقاومة الفلسطينية في غزة. هددوه بأنهم سيدخلونه للسجن لسنوات طويلة بتهمة تماثله مع تنظيم إرهابي بسبب الأغاني. قالوا له "اعترف على تهمة إلقاء الحجارة وضرب الشرطة ونسقط عنك تهمة التماثل مع تنظيم إرهابي". لم يعرف أحمد أن تلك كانت مصيدة له. اعترف أمام القاضي في المحكمة ما قاله في التحقيق. وصدر الحكم عليه بالسجن تسعة أشهر.

لم يكن ما حصل لأحمد سهلًا على عائلته. استغربوا من إقدامه على المشاركة في المظاهرة وذعروا جداً من سجنه. كانت عائلته تتحاشاني عندما التقيتهم يوم المحكمة. كنت أشعر أنهم يحملونني مسؤولية ما حصل دون أن يقولوا لي ذلك. ربما لأنني معروف في القرية بأنني ناشط سياسي، وهم لا يتدخلون في قضايا سياسية. اتصلت بهم بعد فترة لأطمئن على أحمد ولأزورهم، إلا أن والده أخبرني أنهم مشغولون هذه الفترة، ففهمت الرسالة.

كل يوم وعلى مدار الأشهر المقبلة، كانت صور أحمد وهو يلقي الحجارة بكل حماس تجاه الشرطة، وهو يُجّر ويُضرب، وهو في المحكمة يزيح نظره عني، لا تفارق مخيّلتي. لم أعد أعرف أحمد الذي عرفته منذ الطفولة إلا في هذه الصور. وكأن سنوات المدرسة وشقاوتها ومغامراتنا معاً، امّحت بعد هذه الحادثة.

لم يكن سهلاً أن أزيح بنظري عن أحمد كما هو فعل. لكن كان علي أن أستمر في التركيز على إنهاء دراستي الجامعية، وأخرج من صدمتي هذه. نسيت أحمد. عندما خرج من المعتقل كنت في رحلة خارج البلاد. أردت أن ألتقي به وأسلم عليه، فسألت عنه. قالوا لي أنه عاد للعمل في ورشات البناء في تل أبيب، ولم أره مذ حينها.

أنهيت دراستي الجامعية بعد ثلاث سنوات على تلك الحادثة. في يوم حفل التخرج وفي خضم انشغالي بالذهاب مع أصدقاء الجامعة للاحتفال بعد انتهاء مراسيم الحفل، صادفت أحمد في حرم الجامعة. تفاجأنا من رؤية بعضنا. سلمنا على بعضنا وبارك لي التخرج، قائلًا "ما بعرف إنك بعدك بتتعلم. فكرتك خلصت من زمان،" ثم أضاف مازحًا "أكيد شغل السياسة أخّرك بالتعليم". سألته ماذا يفعل هنا، فأخبرني أنه يعمل مع المتعهد الذي بنى مدرّج حفل التخرج وسيبدأون في تفكيكه بعد قليل. سألته عن تل أبيب فقال لي أنه تركها. لم يعد يحتمل طلبات المعلّم الاسرائيلي هناك وتصرفاته تجاه العمال الفلسطينيين. سألته عن المطعم؛ فقال لي أنه لم يتنازل عن حلمه في فتح مطعم للأكل العربي لكن ليس في تل أبيب.

غاب أحمد من أمامي وأنا أقف في وسط ساحة الجامعة الخارجيّة حيث نظّمنا عشرات النشاطات الطلابيّة والاحتجاجات خلال سنوات دراستي. بقيت واقفًا هناك لوحدي وجموع الطلاب المتخرّجين وأهاليهم يمرّون من الساحة أمامي. فجأة بدت وجوههم أشبه بوجوه المتظاهرين في مظاهرة حيفا قبل سنوات عندما مشيتُ المظاهرة بشكل معاكس وأنا أبحث عن أحمد. نظرت في وجوههم مطولًا باحثًا عن أحمد علّني أجده هذه المرّة.


هذه القصة القصيرة هي نتاج لإحدى ورشتي الكتابة، ورشة قصص أريحا القصيرة التي تمت في خيرف ٢٠١٨، وورشة قصص رام الله القصيرة التي تمت في صيف ٢٠١٩، بإشراف عدنية شبلي وبمبادرة من المؤسسة الثقافية لبنك الإعمار الألماني في فرانكفورت، وبالتعاون مع معهد جوته في رام الله.