«غدي الأزرق»... فضيلة الكتابة الآن! 

2020-01-13 12:00:00

«غدي الأزرق»... فضيلة الكتابة الآن! 

عبر هذه الأسلوب الذي اعتمدته الكاتبة، بدت كتابتها كتابة بسيطة، أي إنّها تصنع شخصية ثمّ تكتب نقيضها، واستمرت في البناء وتوالد الشخصيات من بعضها البعض حتى صنعت رواية تُجرّب احتواء جميع الطباع والاختلافات. وبهذا فإنّها، بمعنى ما، أرادت أن تكون مع الجميع، إنّه نص يُساند الإنسان ويسعى إلى تحررهِ،

لربما انطوت كلّ كتابة سورية في السنوات الماضية على جهد حثيث لمحاولة الفهم؛ ما الذي حدث؟ أو تداعياً، ما الذي أدّى إلى تشريد الملايين ومقتل مئات الآلاف وتحطيم المدن. وقد أخذت الرواية السورية على عاتقها، على نحو أكثر وضوحاً من باقي الفنون، محاولة تفكيك الواقع وفهمه وإعادة تركيبهِ، وفقاً لقراءة الرواة المختلفين، أو تصوّراتهم الفردية للحدث برمتهِ.

تُدرَج رواية الكاتبة السورية ريما بالي «غدي الأزرق» الصادرة عن "دار الآداب" ضمن محاولات السرد السوري اللحقاق بما مضى، توثيقه ومحاكمته أو البناء عليهِ لغدٍ مظلم. إلا أنّ الكاتبة تأتي بمقاربة مختلفة، قد تكون غريبة ومفتعلة، عن توأمين إحداهما تحتضر والأخرى تنازع، ثمّ ترمي إلينا قراءة ما ترمز إليهِ، في نص متسارع، تتضافر فيه الرموز وتتهافت داخلهُ مشاعر الكراهية والحب، ومشاغل التسامح والهروب ومواجهة النفس والآخر. 

تستخدم الكاتبة شخصيات قليلة في بناء عالمها، هما التوأم المصاب بالإيدز في مركز العلاج في فرنسا، والراوية ندى وزوجها نبيل، ويمكن إلى حد ما إضافة توءم ثالث إلى الشخصيات المتقابلة التي بنت الحكاية، وهما كلّ من غدي، ابن ندى المتوفى في سورية، وبوريس عشيقها في فرنسا. إذاً اعتمدت بالي على ثلاث شخصيات وحسب، لكلّ واحدة من هذه الشخصيات جانبان، جانب يُقبِل على الحياة وآخر يرفضها أو يعتكف عنها. بهذا نرى غدي يندفع إلى الموت وبوريس ينكبّ على الحياة. ونرى مارتا تغامر وتسعى لتغيير حياتها والتحرر من مستغلها فيما نجد إيفا مستكينة ومشغولة بالتآمر على أختها حتى النهاية. بينما يقف كلّ من نبيل وندى على ضفتين متباعدتين، وقد استخدمتهما الكاتبة للتعبير عن اتجاهين لا يلتقيان في بلدها، الوصولي الانتهازي، والمترفع الذي قرر المغادرة على أن يشهد المأتم بحضور صانعيه القتلة.

عبر هذه الأسلوب الذي اعتمدته الكاتبة، بدت كتابتها كتابة بسيطة، أي إنّها تصنع شخصية ثمّ تكتب نقيضها، واستمرت في البناء وتوالد الشخصيات من بعضها البعض حتى صنعت رواية تُجرّب احتواء جميع الطباع والاختلافات. وبهذا فإنّها، بمعنى ما، أرادت أن تكون مع الجميع، إنّه نص يُساند الإنسان ويسعى إلى تحررهِ، بالقدر الذي أرادت له الكاتبة أن يكون مرآة تعرضُ النقيض. أي، ماذا لو عشتُ حياتي على نحو آخر؟ ماذا لو ندمت على ما فعلت بدلاً من الندم على ما لم أفعل.

في السياق ذاته تُقرأ علاقة الأجيال في النص، بين غدي ووالدهِ نبيل، إذ اختار الابن تقديم حياته من أجل الآخرين، ما إن تطوع في منظمة الهلال الأحمر السوري ومن ثمّ خسر حياته في واحدة من الغارات السورية. فيما صار والده وزيراً للصناعة ونعى ابنهُ فداءً للوطن وقائده. كذلك يدفع بوريس ندى إلى الانتباه لسعادتها والذهاب في درب اللذة، لذة المغامرة والجسد، خصوصاً بعد انفصالها عن زوجها الذي بقي صامتاً أمام فقدان ابنه قبل أن يتاجر بدمهِ. الأمر الذي دفع ندى إلى الانفصال عن توأمها المفترض بعد أربعين عاماً قضوها سوياً منذ أن كانوا أطفالاً. لتهرب إلى فرنسا وهناك ستعمل زوجة الوزير في مركز لعلاج الإيدز، حيث تلتقي بالأختين، وتقص لنا رواية تضمّنتها رواية «غدي الأزرق» واحتشدت الروايتان بالمقولات ذاتها. إذ كانت الأختان اللتان تنتميان إلى عائلة فقيرة من الريف الإسباني ضحية شاب ثري غريب الطباع استغلهما جنسياً وفتك بمصائرهما، بعد أن زرع الشقاق بينهما.

تقدم بالي عبر قصة الأختين، حكاية شريرة تمثل صلب الغرائز والحاجة والفقر. كأنّما أرادت أن تخبرنا عن قسوة العالم، لا في الحروب التي يقضي فيها الناس وحسب، وإنّما في استغلال أناس لأناسٍ آخرين. فيما تَحتّم على الجميع أن يتحرر ويسعى للخلاص. مثلما استعادت ندى اسمها بعدما كانت "امرأة نبيل" ومثلما كانت مارتا تسعى إلى النجاة بحملها، فيما تكيد شقيقتها لها. لتأتي ندى بعد سنوات طويلة من بلد آخر، تستمع إلى إيفا وتحررها من آثامها، عبر طاقة الحكاية، بأن نروى أوجاعنا لآخرين. تلجأ بالي إلى حبكة أزلية في الفنون، عندما يتصارع الخير مع الشر. ومن هنا، بالضبط، نشأت حاجتها إلى الأبطال في السرد، ونراها تتابع طيف المناضلة الفرنسية جان دارك، من المدرسة في حلب إلى فرنسا. فالناس في النهاية يحتاجون إلى الرمز، الذي لا يتحقق، ويصير رمزاً، سوى بموتهِ. 

ينطوي النص على مقولة كان غدي الذي صوّر ما شاهد مثالها، وكانت أمل التي ماتت تحت التعذيب مثالها وصاحبتها: "إذا لم نحك ونكتب هذا الآن، فلأي سبب، إذاً، اخترعت الكلمات، واخترعت الكتابة؟". وقد ألزمت الكاتبة نفسها بواحدة من فضائل الكتابة الآن، وهي الانتصار للضحايا، فوراء الحكايات الكثيرة التي راحت تنسجها كانت تقف امرأة متألمة، تبحث عن قصة تشبه قصة شعبها الذي "مزقته الحرب". إنّنا نقرأ في المصير الفردي مصيراً عاماً، وفي السعي الفردي للنجاة سعياً عاماً، وقبل ذلك في الثورة الذاتية ثورة عامةً، يصنعها وعي الأفراد الجديد، ويأخذ الأدب دور الذاكرة.