متاهة كامو: العلم وسؤال الموت

2020-01-23 14:00:00

متاهة كامو: العلم وسؤال الموت

لا أعتقد ذلك. في فلسفته، هناك الكثير من اللا-جدية، والحجج الضعيفة والمبالغات الأسلوبية، وتأثيرات نيتشه السيئة؛ ولكن، أيضاً، (وعلى العكس من معظم الوجوديين وفلاسفة القارة) الكثير من الصدق والتواضع واللمسة الإنسانية. في أعماله الأدبية، يكاد المرء يشم خوفه ويلمس ارتجافه، ويتمثّل حيرته بشكل عياني. 

في الصفحات الأولى من «أسطورة سيزيف»، يجزم ألبير كامو بأن سؤال الفلسفة الوحيد هو سؤال الانتحار. هذا ليس صحيحاً، بالطبع. معظم الفلاسفة لم يأخذوا السؤال بجدية. الأسئلة حول المعرفة البشرية وحدودها والأخلاق والجمال والحقيقة والواقع كانت أكثر أهمية على الدوام. صحيح أن بعض الفلاسفة فكروا في الانتحار وناقشوه جدياً: من شيشرون إلى شوبنهاور وهيوم، ثم هؤلاء الوجوديين؛ ولكنه لم يكن يوماً سؤال الفلسفة الوحيد، أو الأهم، أو الأكثر إثارةً. 

الغريب في الصفحات الأولى الساحرة من كتاب كامو الشهير الصغير ليس هذا الهوس بالموت. مثل هذا الهوس يصيب الناس لأسباب كثيرة، نفسية وجسدية واجتماعية وسياسية. الغريب جداً هو تعليقه على حياة غاليليو: يقول كامو إن القضية التي هُدد غاليليو بالتعذيب والقتل بسببها، أي دوران الأرض حول الشمس، لا تستحق الموت من أجلها. ثم لا يكتفي بذلك، بل يضيف، بتعجرف الفلاسفة المشهور، أنها ليست ذات أهمية، أيضاً. 

قد يتفق البعض مع الفرنسي الغاضب على أن الموت وتفرعاته، أي العدم والوجود والانتحار، أهم الأسئلة فلسفياً. ولكن، من الصعب أن يتفق عاقلٌ معه على لا-أهمية غاليليو. على العكس تماماً، يُعتبر غاليليو وإنجازه أحد أهم القمم الفلسفية في تاريخ البشرية. على سبيل المثال، ألكسندر كواريه، مؤرخ العلم الفرنسي/الروسي، يرى في الثورة العلمية أهم ثورة فلسفية ميتافيزيقية في التاريخ، وقد قادها عدة عباقرة، على رأسهم غاليليو وديكارت: دور غاليليو لم ينحصر في نظرية دوران الأرض حول الشمس (بالمناسبة، وعلى العكس مما هو شائع، لم يقدم غاليليو دليلاً قاطعاً على صحة هذه النظرية، التي نادى بها أتباع فيثاغورث قبل قرون كثيرة)، بل كان دوره أعمق بكثير: أدخل تعديلات جوهرية على فهمنا للفيزياء وللحركة، وللمادة، ولدور الرياضيات في العلم، ولمفهوم البحث العلمي، وللعلاقة بين السياسة والدين والعلم.

برتولد بريخت كتب مسرحية عن غاليليو، يلومه فيها على تراجعه أمام الكنيسة. يريد الماركسي ذو القلب المتحجر من شيخ في السبعين من عمره أن يتحدى سلطة قد تسلمه للنيران. كامو، على العكس، يتسامح مع ضعف غاليليو البشري الطبيعي بمحبة وابتسامة بهجة. في محاكمة غاليليو، أرى نفسي أقرب إلى كامو: لا أجد في مقتل الشيخ الجليل الساخر انتصاراً للعلم، ولا في تراجعه خسارة للتنوير. بريخت، كمعظم الثورجيين المتعصبين، لا يحوي قلبه مثقال ذرة من الرحمة: يعيد محاكمة غاليليو مسرحياً باسم التنوير والعلمانية، بحميّة دينية، بعد ثلاثة قرون على المحاكمة الفعلية التي أشرف عليها البابا شخصياً! 

القيم التي يُعلي بريخت، الثورجي الصادق، من أهميتها، هي قيم التنوير: البحث عن الحقيقة، ونشرها، والصراع مع الطغيان ومع السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية من أجلها. كامو نفسه واجه اشكالاً مختلفة من الطغيان، مدافعاً عن الحرية: على سبيل المثال، واجه الستالينية بشجاعة في الوقت الذي تردد فيه معظم اليساريين بجبن وانحطاط؛ ولكنه تردد في الانحياز إلى الجزائريين، متخذاً موقفاً محافظاً وسطياً، يقترب من اليمين الفاشي دون أن يتطابق معه، من ثورتهم. على أن كامو، كالكثير من الأدباء والمتفلسفين، يزكّي الجهل في الأمور العلمية، وهو أمر مؤسف حقيقة: مؤسف، ليس فقط بسبب موقع غاليليو الخاص في تاريخ الفلسفة، بل لأن غاليليو، والعلم، يوسعان من فهمنا للحياة ولسؤال الموت: السؤال الذي شغل كامو طيلة حياته القصيرة.

يمكننا شرح العلاقة بين الحياة والعلم ببساطة كما يلي: فضولنا البشري الطبيعي يدفعنا إلى طرح أسئلة حول وجودنا في الكون، وموقعنا منه، ومحاولة فك طلاسمه، والولوج إلى ما يمكن من أسراره. هذا الفضول والبحث عن إجابات يجعل حياتنا ممتلئة كربيع دائم. لا شيء يُفقر الحياة كالعيش في ظل الخرافات والأساطير، في عالم لا أسئلة فيه، ولا بحث ولا تجارب، ولا خلافات عقلية. 

موقف كامو، وأمثاله، من العلم، محزن ومحبط، لأنه يجرّدنا من بعض أجمل الأسئلة وأكثرها إثارة؛ بل، وبدون مبالغة، من بعض أسباب رغبتنا في الحياة.

يبدو لي أن وباء الدعوة إلى الجهل، الذي أصاب كامو، ينطلق من قضية محقة: رفض الادعاء الصلف بأن العلم سيجيب بشكل قاطع على لغز معنى الحياة. الدعوة إلى الجهل تخطئ الهدف، بالطبع، لأن العلم الحقّ لا يدّعي أنه سيجيب عن لغز الحياة. لذا، رفْض العلم لأنه يدعي الإجابة عن السؤال، قائم على مغالطة. هذا الاعتراف بأن العلم عاجز أمام بعض أهم الأسئلة، ولكنه يقدّم أجوبة -أحياناً- على أسئلة أخرى، سيسمح لنا بفهم مكمن الخطأ في فلسفة كامو.

في الواقع، أهم فلاسفة العقلانية شككوا بالعقل بعمق. المثال الأشهر ديفيد هيوم: يرى هيوم أننا عاجزون عن الإجابة على معظم الأسئلة النظرية التي تشكل جوهر وجودنا وحياتنا. بطريقة مماثلة ولكن مختلفة، فولتير وكنط وغيرهما يعترفون بالقصور البشري. لا يوجد عند هؤلاء العقلانيين محاولة للإجابة عن كل أسئلة الحياة والموت من خلال العلم والفلسفة. على العكس تماماً: الشك بقدرة العقل يحمله ويدافع عنه ويشرحه ويحتفي به خيرة الفلاسفة العقلانيين، بشكل أعمق وأوضح وأدق من كل الفلاسفة غير العلميين. التواضع هو ما يميز هؤلاء الفلاسفة العلميين: التواضع والشك، مترافقاً مع الإيمان العميق بالعقل والعلم. 

يتقاطع موقف الفلاسفة المتواضعين العلميين مع موقف كامو: كلاهما يعرف بأن العلم لا يجيب على سؤال الموت، وكلاهما يرفض الفلاسفة الذين يضعون العلم مقام الله العليم القدير؛ كلاهما يبحث عما يجعل لحياتنا معنى في الأدب والجمال والخير؛ ولكن، في حين لا يجد كامو أجوبة في العلم تساعد على الحياة، يوسّع العلميون من مساحات حياتنا الجافة السريعة الأليمة بعلمهم وبحثهم وتساؤلاتهم: الجهل، الذي يحتفي به كامو وغيره، يضيّق أسباب الحياة، ليجعل الموت السؤال الوحيد، في الحياة. العلم، الذي ناضل من أجله غاليليو طيلة حياته، عاجز تماماً أمام سؤال الموت، ولكنه يقدّم أسباباً كثيرة للاحتفاء بالحياة.

 إذن، هل من العبث قراءة كامو؟ 

لا أعتقد ذلك. في فلسفته، هناك الكثير من اللا-جدية، والحجج الضعيفة والمبالغات الأسلوبية، وتأثيرات نيتشه السيئة؛ ولكن، أيضاً، (وعلى العكس من معظم الوجوديين وفلاسفة القارة) الكثير من الصدق والتواضع واللمسة الإنسانية. في أعماله الأدبية، يكاد المرء يشم خوفه ويلمس ارتجافه، ويتمثّل حيرته بشكل عياني. 

لا يوجد إجابة على سؤال الموت (كامو يدرك ذلك جيداً، ويجعله همه الأول، بشجاعة وحماسة ومحبة). ولكن، بعض الاقتراحات قد تساعد على تشكيل معنى ملموس للحياة: المحاولة العلمية لتفسير العالم، والتفاؤل الذي حملته السنوات الأولى من الربيع العربي، ومحاربة الاحتباس الحراري، وسخرية أبي نواس، والقُبل الطويلة من القلب إلى القلب، وأعمال غويا، ورومانسية عبد الحليم حافظ المتذللة الدافئة في أغنية "توبة"، ونهايات الخريف وتردد أبريل، وتلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لسورة "عبس"، ووجبة "سوشي" طازجة وشهية، وابتسامة فاتن حمامة، وصراخ الأطفال الحماسي الخائف عندما يلامسون مياه البحر بأقدامهم العارية، وكونشرتو البيانو الثانية لشوبان، وشيبس "ديربي"، وبالطبع: قراءة ألبير كامو!