في الروايات الثلاث رهن كامو شخصياته برسالة شاقة، حتى في روايته «الغريب» التي لا يرى بطلها نفسهُ حامل رسالة، سوى الانقياد إلى الموت، فإنّه يتمّسك بالحياة في النهاية، كما لو أنّ الرواية تنمو بمسارين متعاكسين واحدٌ لاهٍ وآخر متزمّت، سيرغب مورسو بأن يحضر إعدامه أكبر عدد من الجمهور، كي يعبّروا عن كراهيتهم له.
وجد سارتر في ألبير كامو (1913 – 1960) المثال الذي يجب أن يُحتذى لأنّه حمل في داخلهِ صراعات العصر كلّها. إنّ وصف سارتر للشاب الفرنسي الذي لقي نجاحاً مشهوداً خلال سنوات قليلة، جاءَ إشارةً إلى أدبه الذي كان تعبيراً عن أزمات يشهدها إنسان الأزمنة الحديثة، إذ كتب في عالم خارج من حربين عالميتين، الحروب واحدة من أساتذته، إلى جانب ولائه لأوروبا في المقام الأول، وهذا ما يفسر موقفه من تحرر الجزائر، ومن مقتل "العربي" في «الغريب»!
صنعت شهرة كامو روائياً روايتا «الغريب» و«الطاعون» ومن ثمّ «السقطة»، ويمكن وصف الروايات الثلاث أنّها نصوص مغلقة لعالم متآلفٍ واحد، إذ تقدم أمثلة تامة ومحكمة البناء عن نماذج بشرية صلدة. بالوقوف على مقاربة الروايات الثلاث يمكن تلخيص عالمه الروائي عبر إثارةٍ لسؤال يبحث من خلالهِ سلوك شخصية ما، ومن ثمّ يعتمدها، من أجل تفسير أسئلته على الملأ. فالسؤال في «الغريب»: أيمكن للإنسان أن يستمر بالحياة بمشاعر منفصلة لكن حقيقية؟! وفي «الطاعون»: هل في وسع الإنسان أن يبني الفضيلة بعيداً عن الله من غير أن يكون وحيداً؟! أما في «السقطة» فيأخذ السؤال شكلاً يعيد البشر إلى الجريمة، جواباً على سلوكهم الفطري باتجاه العدالة! إنّ تجارب كامو الفكرية تعيد تفسير الواقع تفسيراً يستنزف حلوله، فأدبه أشبه بانتزاع الأوهام التي قد نرى أنفسنا من خلالها، إنّه لا يضعنا أمام مرآة وإنّما يحطم المرآة، وفي تحطيمها؛ يدفع بعالمنا إلى الانهيار.
تشكو شخصيات كامو من حس الاغتراب، وقد اتخذ كولن ولسون من مورسو بطل «الغريب» مثالاً للّامنتمي. حيث يظهر المأزق البشري فردياً في «الغريب» فيما يقابله مأزق جماعي في «الطاعون» إن كان للفرد أن يستسلم لقدره في مسير طائع إلى الموت في «الغريب». فإنّ الجموع لا تمتلك ذلك الخيار، إنّهم يقاومون ويستمرون ويحاولون النجاة على نحو بطولي في «الطاعون». ويصل في «السقطة» إلى إنسان مزدوج يقصد من إهانة نفسهِ إهانة البشرية كلّها. إذا قارنا حضور الراهب في روايتي «الغريب» و«الطاعون» نجده حضوراً متقارباً، سَيُفقِد برود مورسو، أمام الموت، الراهبَ صوابه، ليعود مورسو ويتحرر من خدره مع اقتراب إعدامه، ويهجم على الراهب. كذلك سيخسر الراهب حياته أمام الطاعون فيما كان يفكر، إن كان الراهب يستطيع أن يستشير طبيباً؟
يواجه كامو الدين في الروايتين، مواجهة تدفع الرهبان إلى الإقرار بعجز الدين عن تفسير مسائل الحياة والموت. ليلقي على الأدب تلك المسؤولية الجسيمة -خصوصاً باقتراح كامو لمن يريد أن يصير فيلسوفاً أن يكتب روايات- حتى أنّ الراوي في «الطاعون» يزعم بوضوح أنّ "الوساوس تقوم مقام الدين". إنّ السجال الذي يخوضه في وجه الدين في كتابيه، يأخذ في «السقطة» شكل سجالٍ مع الإنسان الذي يحمل صليبهُ بنفسه، فالجميع هم أبناء الله، وهم مسؤولون! في «الطاعون» يعتبر الأصل في الإنسان هو الجرثومة، أن تنال حصتك من الوباء. ومن يعتقد بغير ذلك، من يعتقد أنّه معافى، فإنّهم يعانون، لربما تجيء هذه المعاناة من اعتقادهم بأخلاقيتهم ضدّ أخلاقيات الآخرين. لكن كامو ينظر إليهم نظرة شفقة، ويجد الراوي أنّ الموت فقط، يحررهم من معاناتهم. تنطبق صورة الحرية لدى كامو على صورة الموت، وفي «السقطة» فإنّ الموتى يحررون الأحياء أيضاً، إذ تخلّصوا من الالتزامات نحوهم، وكثيراً ما نلمح في أدبه نزعةً إلى فهم القيود التي تُفرض على البشر، في خطوة لتحريرهم. ما إن يُحتَجز الناس داخل أسوار وهران، بسبب الطاعون، حتى تُعرَف الحرية أنّها حرية الحبّ.
في الروايات الثلاث رهن كامو شخصياته برسالة شاقة، حتى في روايته «الغريب» التي لا يرى بطلها نفسهُ حامل رسالة، سوى الانقياد إلى الموت، فإنّه يتمّسك بالحياة في النهاية، كما لو أنّ الرواية تنمو بمسارين متعاكسين واحدٌ لاهٍ وآخر متزمّت، سيرغب مورسو بأن يحضر إعدامه أكبر عدد من الجمهور، كي يعبّروا عن كراهيتهم له. أليس هذا المحكوم بالإعدام، جراء انفصال أحاسيسهِ ورفضه الكذب، يدين ثقافة الزيف وقيم العصر المنافقة؟ ثمّ نجد الدكتور ريو في رواية «الطاعون» الذي ترك زوجته تموت بمرض السل، وقد بقي وحيداً والمدينة تحررت من الطاعون، ألا يمكن أن نقرأ في وحدتهِ، وقد صار أسير الطاعون، مصير أولئك الذي يكتسبون قيمتهم عبر أعمالهم، لأناس أنانيين، لهم حيواتهم! الأمر الذي يفضحه القاضي التائب جان في «السقطة» باعتباره الإنسان المضحي هو الإنسان الأناني، لأنّه عبر التضحية يريد أن يُنتخب، أن يُشار إليه بأنّه الإنسان المتفوق.
عبر النماذج الثلاثة، يشهد أدب كامو على وحدة الإنسان العصيبة، ولربما ساعدت نشأته الفقيرة في الجزائر على فهم أسباب الحب والتعاطف والسعي إلى السلام. فأدبه المتمرد ينزع الطبقات التي تراكمت فوق الحنان البشري. بين مورسو اللامنتمي، والدكتور ريو الذي اختار التضحية والقاضي التائب جان الذي انضم إلى معسكر الجريمة، يتوازن عالم كامو الروائي، وقد أجاب عبر النماذج الثلاث على أسئلة النفس واختباراتها الأخلاقية.