امنحنا قليلاً من "راحة بالك" يا مانغويل!

2020-03-25 15:00:00

امنحنا قليلاً من

لنناكف مانغويل قليلاً، ونستفيد من سرعة الوصول إلى المعلومات التي توفرها الانترنت وننسخ ونلصق الاقتباس التالي الذي لم نتأكّد أنه لجيمس جويس: "الحياة أقصر من أن نقرأ كتاباً سيئاً"، مانغويل يختلف مع هذه الفكرة، الكتب الرديئة مهمة كي نتعلم منها ونقتبس منها لاحقاً مثالاً عن "كتاب رديء". 

عام 1957، في لقاء تلفزيوني مع الكاتب والطبيب الفرنسي المتعاون مع النازيّة لوي فيردينياند سيلين، سأل المذيع سيلين، إن كان يتوقع أن كتابه الأول "رحلة في أقاصي الليل-1932" سيحوله إلى كاتب إشكالي في فرنسا، فيجيب سيلين بأنه دخل عالم تأليف الكتب، دون رغبة بأن يصبح مشهوراً، أراد فقط أن يكسب بعض النقود الإضافيّة كي يشتري شقة صغيرة، فحياته كطبيب فقط أصبحت مستحيلة، وهو دوماً بوجه صعوبات ماديّة، يتضح منطق سيلين "المهنيّ" و"الأنانيّ" لاحقاً، حين نكتشف أنه قام بالتبليغ عن أحد الأطباء اليهود الأجانب، وذلك كي يأخذ منصبه في أحد المستوصفات، وهذا ما حصل، إذ تم ترحيل الطبيب لمعسكر الاعتقال إثر بلاغات سيلين المتتالية.

في كتابه "ذاكرة القراءة: مرثاة وعشرة استطرادات" الصادر عام 2018، عن دار الساقي بترجمة جولان حاجي، يُخبرنا الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل في واحدة من "استطراداته" عن صورة الكاتب المُتعب، الفقير، المعذب، اللاجتماعي وكاره الآخرين، ويرى أنها صورة توارثتها المخيّلة الثقافيّة واتفقت عليها دون أن تكون بالضرورة صحيحة.

لكن، لا بدّ من الإشارة إلى وجود شرط طبقيّ يخضع له الكتّاب يرتبط بمرحلة القراءة والكتابة، تلك الساعات الطويلة من الجهد "العدمي" و"المجاني" الذي قد ينتهي بـ"كتاب" أو قد لا ينتهي بشيء، ولا نتحدث هنا عن المتسرعين والمتصفحين والضائعين في صفحات الانترنيت، بل أولئك "القرّاء" حسب مانغويل، الذين فعلاً يحاولون أن يمتهنوا "القراءة"، لا الكتابة.

هذا الاختلاف الطبقيّ يظهر غامضاً في كتاب مانغويل الذي يفصح لنا فيه عن علاقته مع مكتبته الشخصية ذات الـ35 ألف كتاب، وكيفية توضيبه للكتب من أجل الانتقال من فرنسا إلى مانهاتن في الولايات المتحدة، إذ يخبرنا عن علاقته الماديّة مع الكتب/ أصدقائه وما يعيد إليه كل واحد منها من ذكريات، بعكس بورخيس، الذي لم يمتلك سوى بضعة مئات من الكتاب، كونه يعتمد على ذاكرته فيما يكتب، لا على ما يمتلكه من كتب.

نطرح هذه المفارقة لا غيرةً بل غبطةً، فمانغويل، المتأني كما يظهر في الكتاب، سيّد لزمنه ومشرّع لروتين القراءة الذي كانت نتيجته امتلاك مكتبة عملاقة وقراءات موسوعيّة، والاستطرادات العشرة في الكتاب تكشف لنا عن هيمنة مانغويل على زمنه الشخصي، كم هائل من الحكايات والسياقات المختلفة تتراكم ضمن كل استطراد لتكشف لنا عن علاقة مانغويل مع المكتبة ومع الكتابة نفسها، تشبيهات وحكايات قصيرة وحكم وآراء تدفعنا للحاق بكل واحدة منها وقراءة الكتاب الذي حوته، وربما هذا جزء من خدعة يوقعنا بها، إذ يعترف بداية أنه لا يمتلك منهجاً للكتابة عن المكتبات، بل تسوقه الأفكار والاقتباسات بعيداً عن البداية الصلبة المتماسكة، ويتداعى منهج الكتاب الواضح على حساب كل استطراد، وكأنه يقول لنا، إن أعجبك ما قرأت ابحث في مكتبة ما عن الكتاب الذي اقتبست منه هذه الحكاية.

لكن، الخدعة السابقة تنكشف أمامنا حين ننتهي من الكتاب، الذي هو أشبه بفروع شجرة تقودنا نحو جذور لا نهائيّة، فالمكتبة ضد النسيان، ومدرسة للمواطنة، المكتبة علامة عجز البشريّة عن إدراك الكمال، في ذات الوقت، هي مُحرّك استمرارها، وهنا تتضح تقنيّة مانغويل، التي تشبه ما يسمّى الـ"Copia"، فن الكتابة الذي أشتهر به إراسموس الروترادميّ، الذي يمكن وصفه بأنه تمرين إبداعي على إعادة كتابة نصوص مكتوبة مُسبقاً وتقديماً بشكل جديد، لخلق علاقات جديدة بينها وتكوينها بصورة مختلفة، هو فنّ المعلّمين وتمرين الطلاب، وأسلوب لتشكيل الموضوع بصورة جديدة بالاعتماد على تاريخه الأدبيّ والثقافيّ، هو فن الكتابة عن الكتابة.

أن تستطرد، يعني أن تمتلك الزمن الكافي لتترك العنان لأفكارك، وتبحث بعيداً مُحتفلاً بالطريق وما تخفيه الصفحات من اكتشافات، لكن هل سنتابع ونتقصى وراء كل اقتباس وحكاية ذكرها مانغويل؟ ربما. هل يبهرنا أسلوبه وبناءه لاقتباساته من عالم الكتب ؟ نعم. هل نشعر بالغيرة من عدد الكتب التي لديه؟ نعم، لكن راحة البال هي أكثر ما يثير الغيظ، لا تفكير بأجرة المنزل يتخلل حديثه عن مكتبته، لا ذِكر لمصاريف الشحن، لا إشارات واضحة إلى أسعار الكتب، بل استطرادات تثير الغيرة، سببها الوقت الكافي لقراءة معاجم وكتب ومكتبات بأكملها باتزان وهدوء.

لنناكف مانغويل قليلاً، ونستفيد من سرعة الوصول إلى المعلومات التي توفرها الانترنت وننسخ ونلصق الاقتباس التالي الذي لم نتأكّد أنه لجيمس جويس: "الحياة أقصر من أن نقرأ كتاباً سيئاً"، مانغويل يختلف مع هذه الفكرة، الكتب الرديئة مهمة كي نتعلم منها ونقتبس منها لاحقاً مثالاً عن "كتاب رديء". 

نحن "مُستهلكي" مئات الغيغابايتات من ملفات الـPDF، والمحكومين بـ"إيقاع العصر"، لا نكره الكتاب الورقي، لكن نفضل سهولة الوصول إلى ما نريد ببضعة لمسات، لأننا لا نمتلك وقتاً للاستطراد والبحث المضني، لا لأننا كسالى ولا لأننا مستهلكين، بل لأن امتهان "الكتابة" أو "القراءة" بشكل جدّي يعني أننا لن نمتلك أبداً ثمن منزل، سننتظر الجوائز والمنح ومزاجها السياسيّ كيّ "نتفرّغ"، أو ستبتلعنا دوّامة الصحافة الثقافيّة ومفاوضات ثمن "القطعة"، نحن نقرأ الكتب الرديئة في الكثير من الأحيان لا للاستطراد أو تعلم اجتناب أسلوبها، بل لإتمام عدد "القطع" التي يجب أن نكتبها كل شهر.

لا يمكن الاختلاف حول ما يقوله مانغويل، المستكشفين الغزاة حملوا مكاتبهم وتخيلاتهم إلى العالم الجديد ودمّروا تقاليده، الطغاة أحرقوا المكاتب ونفوا الشعراء والكتّاب، لكن، في ظل ديكتاتوريات وطنيّة لم تنهار بعد، العدالة والمواطنة قيم ما زالت بعيدة، لتكون المكتبة "مدرسة للمواطنة" والعيش المشترك، حياتنا اليوميّة المهددة لا يمكن أن تترك للفرد زمناً ليقرأً، أو حتى يكتب، القراء والكتاّب مهددون من قبل غيلان السلطة، مانغويل نفسه اختبر ذلك مع محاولة منعه من دخول تونس، هناك جغرافيات لا راحة للبال فيها، محكومة بشرط اقتصاديّ يهدد الاستطراد، ويحول الكتابة إلى عناء جسدّي. تخبرنا آنا غريغوريغنا زوجة فيودور دوستيوفسكي في مذكراتها -التي لا أمتلك نسخة ورقيّة عنها- أن زوجها الذي تصيبه نوبات صرع ويحب القمار، أملى عليها "المقامر" في 26 يوماً سداداً لديونه التي بقيت تلتهمه حتى موته.

لا نحاول الحديث عن آلام الكتاب، ولا تبنّي الصورة المتخيّلة التي تحدث عنها مانغويل، لكن نكتب ونقتبس و"نستهلك" غيرةً من الوقت، وراحة البال، والرغبة بـ"الاستطراد" التي يمتعنا بها مانغويل. أكتب من رغبة بمطابقة الصورة التي يظهر فيها هو، هادئاً، محاطاً بالكتب، يمتلك الوقت الكافي ليسرح بعيداً بحثاً عما كانت تحويه مكتبة الاسكندريّة من مخطوطات.