وطن قومي لليهود... في ليبيا (سيرينيكا)

2020-04-06 16:00:00

وطن قومي لليهود... في ليبيا (سيرينيكا)
Agora and Temple of Demeter, part of the World Heritage Site at Shahhat in Libya, ancient Cyrene.

فشل مشروع توطين اليهود في شرق ليبيا وأوقفت المنظمة الإقليمية اليهودية جهودها في ذلك الاتجاه في ضوء تأكيد تقرير البعثة الاستكشافية على أن المشكلة الكبرى في استيطان المنطقة تكمن في ندرة المياه. أضيف الى ذلك تعقد الظروف السياسية ومنها الانقلاب التركي على السلطان عبد الحميد، وسيطرة ضباط تركيا الفتاة، وبروز خيارات أخرى مُحتملة للاستكشاف والتوطين اليهودي في أفريقيا وغيرها. 

في عام 1909 نشرت المنظمة الاقليمية اليهودية Jewish Territorial Organization تقريرا موسعاً كتبه فريق بعثتها الاستكشافية لمنطقة شرق ليبيا (وتحديداً منطقة بُرقه) يحمل العنوان التالي: "عمل البعثة التي أرسلتها المنظمة الاقليمية اليهودية تحت رعاية الحاكم العام لطرابلس لإختبار الأراضي المقترحة لهدف الاستيطان اليهودي في سيرينيكا (وهو الاسم الإغريقي القديم لمنطقة شرق ليبيا)". ديباجة الغلاف الخارجي أبرزت أن هدف المنظمة الإقليمية اليهودية "هو الحصول على أرض ما على أساس الحكم الذاتي لليهود الذين لا يستطيعون او لا يريدون البقاء في البلدان التي يقيمون فيها حاليا" – والمقصود بشكل خاص يهود أوروبا الشرقية وروسيا. كاتب التقرير هو البروفسور جون وولتر غريغوري، وهو جغرافي ومُستكشف بريطاني كرس خدماته في سبيل مشروعات الاستعمار البريطانية وإحتلالاتها في أفريقيا وآسيا، وهو أيضاً من ترأس البعثة الاستكشافية التي أرسلتها نفس المنظمة إلى أنغولا سنة 1912 لذات الغرض.

 يتكون التقرير من 52 صفحة من القطع الكبير (والخط الصغير) إضافة إلى 9 صفحات هي المقدمة التي كتبها إسرائيل زانغويل، رئيس المنظمة الإقليمية اليهودية، ومعها في الصفحات الاولى خارطة لمنطقة شمال شرق ليبيا وأخرى لشمال إفريقيا عموما وموقع ليبيا منها، إضافة إلى موقع الأرض المقترحة في الجغرافية الاقليمية العامة. والمنطقة التي مسحها التقرير وأطلق عليها اسم "سيرينيكا" شملت الأراضي الشاسعة من شرق ليبيا المشاطئة للبحر المتوسط وتضم بنغازي وطبرق ودرنه وبرقة ومحيطاتها. وعلى وجه الدقة يُعرف التقرير سيرينيكا بأنها "المنطقة الواقعة في الشمال الأفريقي بين مصر وسيرت. وتضم المساحة بين البحر المتوسط والخط الواصل بين بومبا في الشرق، والزاوية الجنوبية الشرقية لخليج سيرت جنوب بنغازي". 

تضمن التقرير عدة أجزاء شملت تفصيلات مثيرة ودقيقة عن كل الجوانب التي اعتقدت البعثة الاستكشافية انها ضرورية للاستيطان اليهودي، إضافة إلى المقدمة التاريخية والسياسية المطولة التي كتبها زانغويل. توفر قراءة هذه الاجزاء فكرة غنية عن التفاصيل الدقيقة بل والمُذهلة التي قامت بها البعثة ثم أوردتها في التقرير، ويصعب تلخيصها في مقالة قصيرة، وربما إيراد "محتويات" التقرير يضع القارئ في صورة تلك التفصيلات وطبيعة المهمة التي قامت بها تلك البعثة وعملها وشمولية دراستها وتضمنت هذه المحتويات العناوين التالية: "خريطة لمسار البعثة الاستكشافية"، "خريطة سيرينيكا"، "مقدمة تاريخية وسياسية"، "تقرير عام كتبه جون غريغوري"، "تقرير زراعي كتبه الخبير جون تروتر" مع 17 صورة فوتوغرافية توضيحية، "تقرير عن المياه والهندسة، كتبه الخبير ريغنالد ميدلتون وآخرون"، "تقرير طبي وعن الصحة العامة، كتبه الدكتور م. د. ايدير"، ملحق بعنوان "اليهود واليهودية في سيرينيكا القديمة"، كتبه البروفسور ناحوم شلاوتز، من جامعة السوربون في باريس". 

شرق ليبيا في التفكير الاستيطاني اليهودي

يحتوي التقرير على أفكار وتضمينات مهمة ليس فقط لجهة تركيز الاهتمام على منطقة شرق ليبيا، بل وايضا لغايات التعمق في فهم آليات العقلية الاستعمارية الصهيونية والغربية معا في تلك المرحلة، ونظرتهما للبلدان المُستهدفة بالاستعمار وكذلك لشعوبها وسكانها الأصليين. ومقدمة التقرير التي كتبها زانغويل يمكن اعتبارها من أهم ما ورد فيه، حيث يشرح زانغويل مراحل الاهتمام الاستعماري الغربي واليهودي في منطقة شرق ليبيا، ويذكر في البداية كيف أن المنطقة ظلت أرضا مجهولة ومغلقة في وجه الاستكشافات الاستعمارية إلى أن اهتمت بها منظمته. ويشير الى تقرير كتبه السناتور الايطالي جياكومو دي مارتينو عن شرق ليبيا سنة 1907، أشار فيه إلى أهمية المنطقة للاستعمار الأوروبي، ويقول فيه: "سيرينيكا (شرق ليبيا) تقع على حدود أوروبا على البحر، حيث مهد الفن المتحضر، قريبة من أوروبا وتعيش في حالة من البربرية التامة. (وسبب ذلك) هو حسد تركيا التي فضلت ... عزل المنطقة عن العالم، حيث لا يستطيع المرء الترحال في سيرينيكا من دون إذن". كما أشار دي مارتينو إلى رحلات استكشافية سابقة قام بها رحالة طليان لمنطقة شرق ليبيا سنة 1881. 

يُسجل زانغويل توافق الآراء حول روعة المنطقة ومناخها وخصوبة تربتها وخضرتها، ويركز على "ماضيها اليهودي المشرق"، وكيف وقعت تحت سيطرة الإغريق وازدهرت خلال حكمهم إلى درجة نافست فيها قرطاجة تجاريا ونافست مصر من ناحية خصوبة الأراضي. ثم كيف وقعت المنطقة في طي الإهمال والنسيان، ويقتبس خلاصات الرحالة الطليان السابقين بأن "... العرب والاتراك دمروا كل شيء"، لكن بالإمكان إعادتها إلى ماضيها المزدهر عبر إيجاد العمالة والعلم الحديث"! يستنتج زانغويل من هذه التقييمات "أنه إذا كانت سيرينيكا توفر فرصة مغرية للاستعمار بشكل عام، فإنها بدت منطقة ممنوحة من السماء للاستعمار اليهودي على وجه الخصوص". ويتابع الإشارة إلى تقارير عدة بعثات استكشافية للمنطقة اجمعت على وصفها ب "منطقة للاستعمار المستقبلي". والتأمل في هذه التقارير وخطابها ولغتها ومضامينها، يدلل وبشكل جلي على تجذر النظرة الاستعمارية وحليفتها اليهودية الاستعمارية التي اعتبرت أن سكان البلاد الاصليين لا يستحقونها، وأن الأولى احتلالها والسيطرة عليها من قبل الكولونياليين الأوروبيين وحلفائهم اليهود لإحيائها وبعثها من جديد. 

يقتبس زانغويل من رحالة استعماريين آخرين قولهم: "إن موقع سيرينيكا يوفر افضلية التواصل القريب بين المستوطنين والثقافات الاوروبية من ناحية ومع اليهودية الاوروبية من ناحية ثانية. وقربها من أوروبا يجعل الامدادات للدفاع عنها متوفرة في حال اندلاع اي عنف. انه من الصعب فعلا ايجاد ارض اخرى تمتلك افضليات الموقع والمناخ والقرب من روسيا ورومانيا، أهم مناطق الاضطهاد والهجرة، وكذلك وقوعها على المتوسط، وقربها من فلسطين المركز العاطفي الكبير، وينعدم فيها ايضا التنافس بين الأديان الثلاثة الكبرى والغيرة بين الطوائف. وهي أفضل بكثير من فلسطين من ناحية قلة عدد السكان، ذلك أنه حتى المراكز القريبة منها مثل طرابلس بمساحتها البالغة ٤٠٠,٠٠٠ ميل مربع ليس فيها سوى مليون من السكان ... وعليه فإن سيادة النفوذ اليهودي يمكن أن تُضمن عن طريق المحافظة على سيل ثابت من الهجرة". وثمة بعد استراتيجي آخر يشير إليه زانغويل تمثل في اهتمام بريطانيا تحديداً في المشروع بسبب الموقع الحساس للمنطقة بالنسبة لمستقبل النفوذ البريطاني ومستعمراته. فالموقع الذي توفره سيرينيكا بالغ الأهمية إذ تحاذي حدود مصر الواقعة تحت النفوذ البريطاني، وثمة امكانية مستقبلية لبناء خط سكة حديد يصل المنطقة مع السويس، بما يقلص من الرحلة بين لندن وبومباي بأربع وعشرين ساعة لتصبح ثلاثين ساعة فقط.

يُفصل زانغويل في الجهود التي شرعت بها منظمته الإقليمية لتحقيق أحلام دي مارتينو في سيرينيكا، ويقول بأن مراسلاتٍ كانت قد بدأت سنة 1907 بين المنظمة عبر جهود احد اعضائها البارزين، د. ناحوم شلوتز، وحاكم طرابلس التركي المارشال رجب باشا، الذي يصفه زانغويل بالانفتاح على المشروع اليهودي والقدرة السياسية والاستنارة، والذي شغل في نفس الوقت منصب قائد القوات التركية في كل أفريقيا. والموقف اللين من قبل السلطات العثمانية، ورجب باشا تحديدا، إزاء فكرة توطين اليهود في شرق ليبيا، يثير الانتباه ويستحق التوقف عنده. وبإعمال قدر كبير من حسن النية وموضعة ذلك الموقف في سياقه التاريخي يمكن رده إلى خشية إستانبول بشكل عام من الاطماع الإيطالية في ليبيا، سواء في منطقة طرابلس او الشمال الليبي برمته وصولا إلى الشرق الساحلي. ويبدو ان ثمة قناعة ما سادت في أوساط الحكم العثماني آنذاك بأن وجود اليهود بشكل او بآخر قد يعيق أو يُساهم في إحباط تلك الاطماع. هذا بالإضافة إلى ان مثل هذه المعاملة "الليبرالية" مع اليهود تأتي ضمن سياق فهم تاريخ السياسة والممارسة العثمانية في الأمصار المختلفة الواقعة تحت سيطرتها ومن ضمنها ليبيا إزاء مسألة اليهود والأقليات الدينية في المناطق الخاضعة للسلطنة. وعلى العموم فإن القراءة المُعمقة في تفاصيل وحيثيات الحوارات والاجتماعات والمراسلات تُوحي بأن الطرفين، المنظمة اليهودية والسلطات العثمانية، كانا يُمارسان قدرا كبيرا من التخادع وجس النبض واستكشاف النوايا الحقيقية للطرف الآخر. 

احتقار أهل شرق ليبيا والعنصرية تجاههم

يتوقف زانغويل عند ملاحظات البروفسور جون غريغوري في التقرير وتقديراته لاحتمالات وحجم العداء الذي قد ينشأ وسط سكان المنطقة، وفي هذه الوقفه يُسطر وبلا حياء نظرته العنصرية الاستعلائية ضد السكان الأصليين، ناسخاً اسوأ ما أنتجته العنصرية الاستعمارية الاوروبية. فهؤلاء السكان في سيرينيكا، والذي قدر التقرير عددهم ب ثلاثين الفاً، سوف يشكلون نفس العائق التاريخي الذي واجهته كل محاولات استيطان الاراضي التي تتسم بقلة عدد السكان الأصليين وبكونهم في الغالب بدو متنقلين. وفي العادة "فإن مثل هؤلاء البدو سرعان ما يختفون مع قدوم الحضارة، إذ يبحثون عن أراض جديدة للصيد تكون افضل وأكثر بعدا، وعليه فإن بدو سيرينيكا سوف يجدون في الجنوب مساحات واسعة للترحال اليها. أما حق ملكية الارض الذي يدعيه البدوي بسبب تمتعه بالتنقل فوقها فهو حق لم يُعترف به ابدا في التاريخ". ثم يقترح زانغويل إمكانية إنشاء فرق عسكرية يهودية للدفاع عن المشروع الاستيطاني، ويقول "ليس هناك أي سبب يحول دون ان يجهز اليهود الروس كتيبة من اللاجئين تكون وظيفتها الدفاع الذاتي، اعتماداً على خبرة الألوف ممن شاركوا منهم في الحرب ولا زالوا يحملون ندوبها، وعادوا من جبهات القتال حيث المعسكرات المتجمدة في منشوريا". 

تفاصيل مُذهلة في دراسة المنطقة

مكثت البعثة الاستكشافية عدة أسابيع في شرق ليبيا بعد أن وصلتها في يوليو 1909. ومسحت مناطق شاسعة في محيط برقة ودرنه وبنغازي، وعبر غريغوري في التقرير عن استغرابه لوجود عرب مستقرين وزراعيين، خاصة مع ندرة المياه في المنطقة، واشار الى ان المنطقة الخصبة الأنسب للاستيطان اليهودي هي القطاع الواقع إلى شمال الهضبة العالية الواقعة بين بنغازي ودرنه. يفصل التقرير في الحديث عن الثروات المعدنية في سيرينيكا وطبيعتها الجيولوجية ويشير إلى وجود الفوسفات، والى الطبيعة الصخرية للأرض، وكذلك الى وجود طبقات الحجر الجيري في تكوين أرض المنطقة. ثم يشير إلى أن اكثر ما خيب الآمال في الرحلة الاستكشافية هو ندرة المياه، والذي لا يعود بالضرورة للتبخر بقدر ما يعود الى طبيعة التربة المسامية وامتصاص طبقة الحجر الجيري لمياه الأمطار. ويورد غريغوري ان معدلات سقوط الأمطار في المنطقة تتراوح بين 350 إلى 500 ملم، وهو قريب من معدل الأمطار التي تسقط في اسبانيا وهنغاريا وجنوب روسيا. اما التربة فإن غريغوري يصفها بأنها خصبة وحمراء وغنية، وقابلة لزراعة محاصيل عديدة، وبأنها تنتمي بحسب ما قال خبير التربة وعضو البعثة، المستر تروتر، الى الصنف الأفضل من وجهة نظر الخبراء الزراعيين. ولكن، وهنا نلاحظ الدقة في الإختبارات، فإنه وبعد اخذ 13 عينة منها وفحصها ظهر أنها تعاني من قلة النيتروجين! ثم يفصل غريغوري وبالاستناد الى الفحوصات الجيولوجية لفريقه في نوعيات الأرض التي تم زيارتها، ويقسمها إلى صخرية، ومنحدرات، واراض زراعية وغابات، وهضاب، وأراض رملية، موزعا بالاميال المربعة نصيب كل قسم منها. ويُضمن هنا صوراً مقطعية للأرض توضح طبقاتها المختلفة وتفصيل مكونات كل طبقة. 

فشل مشروع توطين اليهود في شرق ليبيا وأوقفت المنظمة الإقليمية اليهودية جهودها في ذلك الاتجاه في ضوء تأكيد تقرير البعثة الاستكشافية على أن المشكلة الكبرى في استيطان المنطقة تكمن في ندرة المياه. أضيف الى ذلك تعقد الظروف السياسية ومنها الانقلاب التركي على السلطان عبد الحميد، وسيطرة ضباط تركيا الفتاة، وبروز خيارات أخرى مُحتملة للاستكشاف والتوطين اليهودي في أفريقيا وغيرها.