عن كاتبٍ منعزل... يخرج فجأة إلى العلن!

2020-06-13 00:00:00

عن كاتبٍ منعزل... يخرج فجأة إلى العلن!

هذا الكاتب الذي يعمل جاهداً على حماية حياته الشخصية، وخصوصيتها وحميميّتها وأسرارها، لم يكترث أولاً في فضح سرّ صديقه، وثانياً لم يفكّر بالآثار النفسية التي قد يسببها للمرأة "الأم"، والمرأة "الإبنة". 

انتهت عزلة الكاتب، وابتعاده عن الحياة العامة. والذي حاول الروائي والشاعر السوري سليم بركات جاهداً رسم صورة مثالية لها. انتهت منذ بداية هذا العام، عندما وصل للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، و"خرج مع الخارجين". وصولاً للمقالة الكاشفة للسرّ، المقصود منها على ما يبدو إثارة الجدل حول "أبوَّة" محمود درويش. وفي هاتين العمليتين، انتهى الغموض، وهالة "القداسة" التي يرسمها مريدوه حوله، ولم تعد صورة /شخصية الكاتب "الغامض"، مبهرة للكتبة الناشئين، أما نتاجه الأدبي، فالزمن كفيل في الحكم عليه، وإنصافه

مُذ قرأت مقالة سليم بركات «محمود درويش وأنا»، المنشور في صحيفة «القدس العربي» في  6 من الشهر الجاري، والذي قال فيه إن محمود لديه ابنة من امرأة متزوجة، حتى لاح في خيالي على الفور هذا المشهد: سيدةٌ تبلغُ من العمر الخمسين أو الستين، ولديها إبنة ربما تجاوزت الثلاثين من عمرها اليوم. لا نعرف إن كانت هذه الابنة تعيش حياة طبيعية، ولا تعرف شيئًا عن هذا "السرّ"؛ أي أنها إبنة شاعر فلسطيني مشهور اسمه محمود درويش، أو أن أمها أخبرتها بذلك، وفي حال أخبرتها؛ لا ندري كيف تعاملت نفسياً وعاطفياً مع فكرة أب رفض الاعتراف بها وتخلى عنها.  

ربما الزمن فعل فعلته بالتخفيف من وطأة ما حدث، وانشغلت الأم والإبنة بمشاغل الحياة التي لا تنتهي. أو أن الأم تجازوتْ بالفعل ما حدث، وحاولتْ نسيانه، وانفتحت على حياة جديدة. إذ أن الشاعر المشهور قد مات، وربما اطمأنت أكثر حين مات، لربما مات هذا السرّ معه. 

لكن يأتي الشاعر والروائي الصديق سليم بركات، ليكتب مقالاً، المقصود منه؛ الاحتفاء بصداقته مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش. لكنه خَتمَ مقالته بإفشاء سرّ "أبوَّة" صديقه، من باب "أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات". 

إذاً لنتخيل معاً، لا بل لنضع أنفسنا، مكان "المرأة /الأم"، السيدة التي في حال كانت على قيد الحياة، فستكون في سن متقدمة. تجاوزت آلام وأخطاء وجراح الماضي. مسترخية على أريكة في صالة بيتها، تتصفح الفيسبوك، وإذ تقع عيناها على رابط مقالة سليم بركات «محمود درويش وأنا»، وقد شاركه أحد الأشخاص من قائمة أصدقائها، وتعليق فوق الرابط: "سليم بركات يُفشي سرَّ أبوَّة محمود درويش!". لا أستطيع تخيل ردّة فعل هذه السيدة، ولا ردّة فعل ابنتها في حال كانت على علم بما حدث في "الماضي"!

في حوار مع سليم بركات على موقع «ضفة ثالثة» في العام الماضي، أجراه الشاعر العراقي وليد هرمز (الحوار جزء من حوار طويل مع سليم بركات صدر مؤخراً في كتاب تحت عنوان «سليم بركات .. لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة») يسأل وليد هرمز سليم بركات، إن كان مازال يخشى "التعامل مع مبتكرات العصر كالكومبيوتر، الذي أسميته بـ "النشيد الخُرافي"، وكذلك الهاتف النقال، "الموبايل"» ليجيبه الأخير في الفقرة التي يخص بها موضوع التواصل الاجتماعي بقوله: «أما الهاتف، الذي كان أداةَ تواصلٍ للضرورات، أو لبعض الثرثرات العذبة أحياناً، فقد بات وسيلةَ غزوٍ واقتحام، ونهبٍ أيضاً: دلَّالون ببضائعهم السمعية. متطفلون. أصوات غير مرغوب فيها. بدَّلتُ رقمَ الهاتف الأرضيِّ برقمٍ سرِّيٍّ لا يعرفه إلاَّ خمسة (...) لكن الرسائل المكتوبة بخط اليد، أو الآلة، باتت، في أيامنا هذه، تُزَجُّ من فورها في معتقلات الـ Facebook. انتهت الحميمية. انتهت المُسارراتُ، والتناجي. كل شيء للنشر بات منكوباً بمواقع التواصل الهذياني».

هذا الكاتب الذي يعمل جاهداً على حماية حياته الشخصية، وخصوصيتها وحميميّتها وأسرارها، لم يكترث أولاً في فضح سرّ صديقه، وثانياً لم يفكّر بالآثار النفسية التي قد يسببها للمرأة "الأم"، والمرأة "الإبنة". 

ضربة واحدة نالت من ثلاثة أشخاص، شخص ميت، لكنه شخصية عامة، ولا يمكن التنبؤ بتأثيرها على الشخصيتين الأخيرتين، المجهولتين. 

عندما أعدت قراءة مقال سليم بركات للمرة الثانية والثالثة، وصلت لفكرة أنه لربما إفشاء السرّ هذا مقصود، لكنه بالمقابل لا يحمل شراً مقصوداً، إنما بالتأكيد يضمر مشكلة ما أو سذاجة ما، دفعته لكشف سرّ صديقه، أو هي رغبة غير معلنة من جهة محمود درويش بأن يفشي صديقه سره بعد مماته؟! إذ أنه وفي الجزء الثاني من الحوار (على موقع ضفة ثالثة أيضاً) يقول سليم بركات في إجابته عن أحد أسئلة وليد هرمز «فقدتُ محمود درويش. كان "من حولي" أبداً، لا يكفُّ عن عروض سخائه. كان "منزله" يجاور منزلي أنَّى انتقلتُ. كان ينقله حيث أحلُّ. أرى غُرف بيته، وجدرانه، في صوته على الهاتف اتصالاتٍ لا تنقطع. جُرِحْتُ إذ رحل. لم أستمع إلى الموسيقى، التي تصاحبني عادة في العمل مساءً، طوال سنتين». أي أن احتمالية أن يضمر سليم بركات كراهية ما، ومباشرة لصديقه مستبعدة. لعلَّ  سليم بركات يريد أن يقول للجميع عبر إفشاء هذا السر، إن علاقة صداقة قوية تربطه بمحمود درويش، لدرجة أن لديه عن صديقه سرٌّ لا يعرفه سواه. 

 يتصرف سليم بركات مع صديقه محمود درويش، تصرفاً اعتدناه في هذه النوعية من الصداقات. تنشئ صداقةً بين اثنين، ورغم حبهما لبعضهما البعض، وبعد أن تمر هذه الصداقة بفترة زمنية معينة، يأتي صديق ما ويذكرك بحدث ما من الماضي لا تريد أن تتذكره، أو قراراً اتخذته سابقاً وتراجعت عنه، والآخر –إن كان على قيد الحياة– يستغرب من تصرف صديقه الذي يفتح ماضيه الأسود، كمن يفتح قضية ما داخل قاعة محكمة. هذه النوعية من الأصدقاء لا تنشغل بماضيها بقدر ما تنشغل بماضي أصدقائها أو أشخاص من حولها. ونتساءل هل هذا الصديق يحبنا بالفعل أم يكرهنا!

المأزق الذي أقحم فيه سليم بركات نفسه، هو أنه أباح بسرٍ/معلومة ناقصة، أي أنه وحسب كلامه في المقال، لا يعرف من هي هذه "المرأة المتزوجة"، إذ لم يخبره محمود درويش ما جنسية هذه المرأة، وأين تعيش، وما اسمها... فلو كان سليم بركات أفشى سر صديقه، انتصاراً للضحية "الابنة" مثلاً، عليه أن يكون شاهداً في المحاكم -في حال ظهرت ابنة محمود درويش المفترضة- حين تطالب الإبنة بحق بنوتها من محمود درويش، الإبنة وأمها التي لم يرها سليم بركات في حياته. ألم يقل "لكانَ أنبَأَني من تكون المرأةُ لو كنتُ أعرفها"!