لماذا لم "نرَ" صوفي وهي تَرُد صفعة الحاكم الأبيض؟

2020-06-15 15:00:00

لماذا لم

 ففي هذا التصريح تكمن كل الحقيقة البشعة التي تناساها الغاصب الأبيض وأغلق أذنيه قصداً حتى لا يسمعها. وكأن هذا التصريح رد الصفعة "العادل" التي لم يسمح لنا سبيلبرغ رؤيته ليستردّ للأمريكي الأسود خيط من العدالة التي سُلِبَ منها ويشعل لهيب شرارة الثورة في قلب كل إنسان حر. 

"اللون البنفسجي" (1985) للمخرج الأمريكي ستيفين سبيلبرغ هو فيلم مقتبس من رواية الكاتبة الأمريكية السوداء أليس ووكر. يروي الفيلم حياة إمرأة سوداء عانت من الهيمنة والعنف الذكوري من أبيها في بداية القرن العشرين في أرياف ولاية جورجيا الأمريكية وسط خلفية هيمنة أخرى أكبر وهي هيمنة المجتمع الأبيض على المجتمع الأسود في أمريكا واستعباده. إنتُقِدَ الفيلم كثيراً لكونه يقدم صور نمطية عن المجتمع الأسود في أمريكا، من بينها صورة الرجل الأسود المتوحش والمُعنّف وصورة المرأة السوداء الصلبة والمسترجلة أو المرأة المهووسة بالجنس أو الأم الحاكمة والمسيطرة. 

مشهد صفعة "الحاكم الأبيض"

عاد إلى ذاكرتي هذا الأسبوع إبان ثورة الأمريكان السود على مقتل المواطن جورج فلويد، مشهد محدد من هذا الفيلم لم أنسه طوال السنين وهو مشهد صفعة "الحاكم الأبيض". تقدم في هذا المشهد الأم صوفي صورة المرأة "الماتريارك" (Matriarch Black) وهي أحد الصور النمطية للمرأة السوداء والتي يتم تصوير المرأة من خلالها  بالأم الحاكمة والمعيلة للأسرة السوداء. ترتبط صورة المرأة ضمن هذا التصنيف بالصورة السلبية حيث تظهر من خلالها الأم كإمرأة مخيفة، ضخمة البنية الجسدية، دائمة الغضب، وتتمتع بسيطرة محكمة. 

يظهر في هذا المشهد إذلال وسطوة المجتمع الأبيض للإنسان الأسود وتكريس إستعباده له وذلك من خلال طلب السيدة ميلي البيضاء -زوجة رئيس البلدية- من صوفي بأن تكون "خادمتها". في هذا المشهد، نرى السيدة ميلي تدنو من أحد أبناء صوفي وتُغدِقه بالقبلات التوددية ومن ثم تُثني على نظافته وكأنها تستعجب من رؤية طفل أسود نظيف. تقترب ميلي من الأم صوفي وتطلب منها بأن تصبح "خادمتها"، لكن سرعان ما أن تفرّسَتها صوفي بنظرات حادة رافضة بشكل قطعي. يبلغ المشهد ذروته عندما يستهجن رئيس البلدية هذا الرفض ويقوم بصفع السيدة صوفي على وجهها صفعة حادة، لكن أكثر ما اغتاظني في هذا المشهد أن في اللحظة التي أقدمت صوفي على أن تَرُد له الصفعة، مرّت شاحنة من جانب المكان وغطّت على مشهد صفعتها.

لماذا لم "نَرَ" صوفي  وهي ترد صفعة الحاكم الأبيض؟ 

تَسللَ هذا السؤال إلى ذهني لبعض اللحظات لكنني صرفته بسرعة ووضعته في سلّة الملاحظات التي تنتج عن التحليل الزائد لأن رد الصفعة قد حصل ويكفينا كمشاهدين أن نعلم بذلك دون أن نراه، لكن مع تبلور فهمي للغة السينما، أدركت أن البصريات هي الكتاب المقدس للغة السينمائية وأن ما من قصد بريء في السينما وما من "سقط سهوا" في اللغة البصرية وأن هذا التغاضي مقصود.  

ما يعزز ذلك أن جُل ما نراه في المشهد التالي هو الأذى الذي ألحقته صوفي من خلال وقوع رئيس البلدية على الأرض إثر الصفعة ومن ثم  إظهار صوفي كالمجنونة، حيث يحيط بها الرجال البيض بدائرة من أصابع الإتهام ونظرات التجريم، حتى يقول لها أحدهم "من تعتقدين نفسك لتفعلي كذلك؟". بالتالي، يسمح لنا المخرج أن نرى أثر تبعات رد صوفي وليس فعل الرد نفسه، يسمح لنا بإظهارها "بالمجرمة" ويبرئ الأبيض في لحظات، يسمح لنا برؤية صراخ "الشريرة" و"المخربة" السوداء التي رفضت أمر حاكمها الأبيض، لكنه يَحرِم المشاهد من رؤية رد الفعل الطبيعي للصفعة الأصلية وتفريغ الغضب الناجم عن إهانة كرامتها، وكأنه مشهد لا يقوى الرجل الأبيض على احتماله: أن يرى نفسه وهو يُصفَع وأن يكون في موقع أضعف من الإنسان الأسود حتى لو للحظة.

لماذا لا يقبل الأمريكي الأبيض رؤية التظاهر الغاضب؟  

أتذكر صوفي في هذه الأيام وأنا أتابع ثورة المجتمع الأمريكي الأسود ففي الوقت الذي أَجمَعَ به العالم على جريمة مقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد، إستهجن العديد من المواطنين البيض غضب الشارع والمظاهرات العنيفة للثوار السود، كما طالبوا المتظاهرين الإحتجاج بسلام وأطلقوا على أحداث الثورة وصف "أعمال الشغب" وكأنهم لا يريدون الاعتراف بأحقية الأمريكي الأسود في الثورة على الظلم والعنصرية المتأصلة في شرايين المؤسسة الأمريكية. 

تماما مثل المخرج الأبيض سبيلبرغ، لا يدع الكثيرون من المجتمع الأمريكي الأبيض للأمور بأن تأخذ سيرورتها الطبيعية حتى تبلغ ذروتها وتحقق مطالبها، ولا يرون في القتل سبباً كافياً ليزعج سطوة مظاهر النظام النيوليبرالي وليعرقل استمرارية عمل المحلات التجارية بشكل طبيعي. إلا أن للغضب شعائره كما للحب والفرح والحزن فإذا رأيت إنسان يُقتَل بأمّ عينيك، هل تغضب بسلام على هذه الجريمة أم تحرق كل ما ترى أمامك وتتعهد للثورة على الظلم لترد جزء ولو قليلا من العدالة المسلوبة؟

يركز الأمريكي الأبيض على مظاهر عنف الثورة من حرق وسرقة المحلات التجارية وتكسير النوافذ لكنه ينسى المحرّك الرئيسي لهذه المظاهر وربما ينسى أيضاً أن في الأصل هو كان المسبب الرئيسي في بلورة الأمور لتصل إلى هنا. هذا التلاعب النفسي من الحاكم يُظهِر الضحية بأبشع صورها ويتغافل عن أن الأمريكي الأبيض هو من تسبب بها أصلاً في محاولة لقلب أصابع الإتهام وعكس الأدوار ليلعب هو دور الضحية البريء ويصوّر الأسود بالمجرم العنيف.  

يصعب على الأمريكي الأبيض تفهم شعور الغضب ربما لأنه لم يختبر معنى الظلم فلطالما لعب دور الغاصب المُستَعمِر الذي ينهب خيرات الشعوب الأصلانية بدء من شعوب أمريكا الأصلية وإستمراراً مع السود الأفارقة الذي استعبدهم لسنين طويلة. لا يسعني هنا إلا أن أستحضر كلمات الناشطة الأمريكية السوداء تاميكا مالوري في خطابها الأخير والتي ما زال رنينها يصدح في أذني:

"لا تحدثونا عن السرقة. أنتم السارقون. أمريكا سرقت الشعب الأسود وسرقت الأمريكيين الأصلانيين منذ قدومها إلى هنا. السرقة هي ما تفعلون. لقد تعلمنا السرقة منكم وتعلمنا العنف منكم."

 ففي هذا التصريح تكمن كل الحقيقة البشعة التي تناساها الغاصب الأبيض وأغلق أذنيه قصداً حتى لا يسمعها. وكأن هذا التصريح رد الصفعة "العادل" التي لم يسمح لنا سبيلبرغ رؤيته ليستردّ للأمريكي الأسود خيط من العدالة التي سُلِبَ منها ويشعل لهيب شرارة الثورة في قلب كل إنسان حر.