كلّها تفاصيلُ رَسَمَ عبرها سكارميتا شخصيةً فريدة، لا يمكن للقارئ إلا أن يقع في حبّها، إذ تمثل شعبها أبلغَ تمثيل. يجمعُ الفتى التشيليّ من حولهُ الأصدقاء ويصنع الحلفاء، ليعرض لنا نموذجاً فاتناً عن الرفقة والخلاص عبر الرأفةِ والنضال لأجل العدالة.
يقص الكاتب التشيليّ أنطونيو سكارميتا (1940) في روايتهِ «لم يحدث أيّ شيء» والتي تصدر قريباً عن دار ممدوح عدوان بترجمة عبد السلام باشا حكايةً عن اللجوء. سوى أنّ القصة تخفّف من آلامِ اللجوء، عبر سردٍ يَجمعُ الخِفّة إلى العُمق، والحنينَ إلى الآمالِ المُشرِقة.
إثر انقلاب بينوشيه الذي أطاح بالرئيس سلفادور أليندي (1973) تُغادر عائلةٌ تشيليّة إلى ألمانيا. تقص الرواية حكاية تلك العائلة بعد عبارات قليلة تصفُ قصفَ القصر الرئاسي، وفقدان الناس وظائفهم. ينتقل الحدثُ برمتهِ، إلى بلاد اللجوء، ثمّ بحضور "اللجوء" تَحضرُ مفردات الاغتراب عن الأمكنة والناس القُدامى. في البيئة الجديدة التي يُشكِّل التآلف معها صُلْبَ الحكاية؛ تنطوي اللغة والتجارب الجديدة على حسٍّ أصيلٍ بالمنفى.
الحسّ الذي يَعرضهُ الراوي، وهو طالبٌ في الثانوية، على نحو بالغ الحساسيّة. تبدو الرواية هدماً للفارق بين تفكيرين؛ الأول يحمل الماضي، وهو تفكير الآباء، والآخر يُضمِرُ المستقبَل، وهو تفكير الأبناء. يوظّف سكارميتا راويه، الذي ينتمي إلى العالمين، ليؤدي وظيفةً سرديّةً تضبط نزعات الأفراد في سياقٍ جماعي. ويشيعَ في الحكاية جَوّاً من الوئام، فتكون لحظات الاضطراب حِكراً على محاولات الاندماج، لا بين أبناء "الجالية" الواحدة. يظهرُ اللجوء بذلك، اختباراً لأبناء اللغة الأم في وجه لغة طارئة. يبقى اللاجئُ رهينَ شعورِ أنّه مُضطَر إلى تفسيرِ نفسهِ أمام الآخرين، بدءاً من شكل بلادهِ على الخارطة، وبالنسبة لتشيلي فهي تظهر مثل "شريطٍ من السباغيتي". يراها رفاقُ الفتى التشيليّ الجدد مجردُ خيطٍ رفيع. لكنها بالنسبة إليهِ، بَلادهُ، التي يمتنع عن سرد آلامهِا. فالفتى التشيليّ لا يُحِبّ أن يُسبَّبَ الحزن للناس، ولربما هو لا يودُّ أن تَظهرَ بِلادهُ حَزينةً في عيونهم. يظهرُ الفتى التشيليّ ساخراً فريداً، استخدمهُ الكاتب كي يَرفَعَ عن الحكاية مأساويتها، إنّه حسّاسٌ وعاطفي، يُفاجئ ذاتهُ ويفاجئُ قارئه. إذ يبدو أنّه يكتشف ذاتهُ أثناء نمو القصة، ولقد صنع بذلك فرادة النص، إذ لا فرادةَ في حكايات اللجوء... و"لم يحدث أيّ شيء" هو لقبُ الفتى التشيليّ، إذ اعتاد تكرار الجملة كلّما سقط أمامه مهاجم الفريق الآخر في لعبة كرة القدم. هكذا حتى صارَ لقباً ينطوي على نقيضهِ. فالفتى ببنائهِ، كنايةٌ عن روح تشيلي الساخرة.
يواجه الفتى التشيليّ ما يواجه أقرانهُ. لكن ينمو في داخلهِ شعورُ أنّه غريب؛ يُعجَبُ بفتيات ألمانيات ويشعرُ أنّه غير جديرٍ بهن، الأمر الذي يقودهُ إلى دخولِ عراكِ مع شبّان من جرّاء إحساسهِ بالنَقْص. يشتبك التشيليّ مع شاب ألماني ويضربهُ ضربةً محكمة بين فخذيه بعد معاكسة الألماني لفتاتهِ. عند هذه الحادثة تبدأ الحكاية بالنضوج، يجد التشيليّ نفسهُ بعيداً عن بلادهِ، والفتاة التي اعتقد أنّه أحبّها لا تريد أن تلتقي بهِ مرة ثانية إثر المشكلة التي أحدثها. كما أنّه ملاحق من مايكل شقيق الشاب الألماني كي يصفّي حساباً بينهما، بعدما أودى بشقيقِ مايكل إلى المستشفى. يتهدّد الفتى التشيليّ خوف من أن يَتَسبّب بترحيل عائلتهِ، وكان أول أفراد العائلة في تَعلّم اللغة الألمانية، وقد اعتمدوا عليهِ في شؤون التواصل والرّد على المكالمات الهاتفية.
في علاقة الفتى التشيليّ ووالدهِ، الذي عمل على تربية أولادهِ "بحبّ وحماس"، يتحلى سرد سكارميتا بطابعٍ عذب شقي، حميمٍ وقاسٍ. بدا أنّ تشيلي لا تُفارِقُ الأب، ومثله مثل أي تشيليّ آخر، ينتظر سقوط بينوشيه حتى يَستَّقل الطائرة الأولى عائداً إلى بلادهِ. ترصدُ الرواية هذه المجتمعات الناشئة في المنفى، والتي تنطوي على آلامها، وفي الوقت ذاتهِ، تكتنف سحر الحنين وآفته.
ما إن يرى الفتى التشيليّ (لم يحدث أيّ شيء) مايكل فوق الدراجة النارية، ينتظره كي يُقلّه إلى الخرابة التي سوف يتواجهون فيها، بعد تأجيل المواجهة عدة مرات، فالفتى التشيليّ لا يكره مايكل وليس غاضباً منهُ. ما إن يرى الدراجة النارية والشاب الضخم فوقها، حتى يخطرُ لهُ خاطرٌ يشي بهواجسهِ، لاجئاً، -خصوصاً مع تعزيز سكارميتا لفكرة أنّ التشيليّ إنسان جبان خارج وطنه، يخطر للفتى ما سَمِعَهُ عن الهنود أنّهم عندما رأوا الغزاة الإسبان على متون الخيول اعتقدوا الحيوان والإنسان وحشٌ واحد. بهذه الإشارة المؤلمة، يَنكشفُ عارُ اللجوء. لا سيما أنّ الكاتب ينجح أيما نجاح في بناء شخصية الفتى التشيليّ، على نحو شفيفٍ ساحرٍ مُحَطّم، فوعيهُ يمثّل وعيَ جماعتهِ، وضحكاتهُ هي هزؤهم. والمشاهد التي تصف هيئتهُ وهو خلف مايكل على الدراجة النارية يتمّسك بكتفهِ، إلى حين الوصول إلى الخرابة التي سوف يتشاجرون فيها. هيئتهُ، وهو يجلس خائفاً إلى جواره، بعدما اعتقد أنّه قد تمّكن من قتل مايكل، ليترّقب نجاتهُ وسط العاصفة. هيئتهُ، وهو خلف مايكل على الدراجة مجدداً وهما ذاهبان، بعد أنْ تعادلا، كي يحتفيا بنجاتهما ويأكلا البيتزا.
كلّها تفاصيلُ رَسَمَ عبرها سكارميتا شخصيةً فريدة، لا يمكن للقارئ إلا أن يقع في حبّها، إذ تمثل شعبها أبلغَ تمثيل. يجمعُ الفتى التشيليّ من حولهُ الأصدقاء ويصنع الحلفاء، ليعرض لنا نموذجاً فاتناً عن الرفقة والخلاص عبر الرأفةِ والنضال لأجل العدالة.