صلوات شكر مبتورة

2020-08-21 00:00:00

صلوات شكر مبتورة
Ali Omar Ermes - The Weighting of Form - 2008

تحتفظ الشاعرة النسوية اللطيفة بكبرياء رقيق، متخلخل وديع: تعرف أنه كبرياء قائم على أسس واهية في حياة لا نعرف ما تخفيه لنا في جعبتها، وتشكر الحياة (أو القدر، أو الرب: كلها مترادفات هنا) على أنها لم تحطم ذلك الكبرياء.

في قصيدة خفيفة بسيطة مباشرة، تشكر الشاعرة الروسية مارينا تسفيتاييفا الرب، على ما يستحق الحياة: 

"أشكرك، يا ربِّ،

على المحيط، وعلى اليابسة؛

وعلى الجسد الشهي

والروح الخالدة؛

وعلى الدم الحار

والمياه الباردة.

أشكرك على العشق-

وعلى الطقس، أشكرك أيضاً!"
 

كُتبت القصيدة والحرب الأهلية تعصف بالبلد. انحازت الشاعرة وزوجها الضابط إلى البيض، وكتبت فيهم شعراً جميلاً، فيما كانوا يرتكبون أسفل وأحط جرائم الحرب؛ كما كتبت قصائد شخصية حساسة، منها القصيدة التي تشكر فيها الله. لم تنل الشهرة التي تستحقها في حياتها، حياة بائسة كلياً، بين الفقر المدقع وترحال لا ينتهي. كما ارتكبت خطيئة ميتافيزيقية كبرى: آمنت بجدية بأن الشعر إلهي ماورائي، وعاشت له، فيما شؤونها الدنيوية تغرق بين مجازر البيض الذين تخلت عنهم لاحقاً وتعنت الشيوعيين الذين سمحوا لها بالعودة إلى البلد، ليذلوها بلا حدود. انتحرت في النهاية: لم ينقذها الرب من مخالب ستالين. 

بعد ما يقرب من قرن، كتبت الشاعرة البولندية آنا سوير تشكر القدر، وليس الرب. آنا أقل تجريداً، وأكثر مرحاً: نسوية صلبة، تحب الأمومة وتحتفي بها، وتخافها؛ تحب أبوها وأمها: كتبت فيهما قصائد نموذجية، عن رسام فاشل فقير، وأم معطاءة: مدهش وعميق كيف تلعب الثائرة النسوية على العواطف التقليدية للعائلة، بدون أن تتنازل لحظة عن تمردها الكبير، الهادئ، العميق. 

"شكراً، يا قدري
 

خشوع عظيم يملؤني،

طهارة عظيمة تملؤني، 

مارست الحب مع حبيبي 

كما لو أنني مارسته وأنا أموت

كما لو أنني مارسته وأنا أصلّي،

تنصبّ الدموع

على ذراعيّ وذراعيه.

لا أعرف إن كان هذا فرحاً

أم حزناً، لا أفهم

مشاعري، أنا أبكي، 

أنا أبكي، كما لو أنني

ميتة بالأصل، 

امتنان، أشكرك، يا قدري،

لست جديرة بكل ذلك، حياتي 

جميلة جداً."
 

الخاتمة كاثوليكية تقريباً: تشعر آنا بأنها لا تستحق كل ذلك: وكل ذلك، على العكس مما توحي به القصيدة، لم يكن سهلاً أو بسيطاً أو مشرقاً: عاشت طفولة فقيرة جداً، جاعت فيها كثيراً؛ وعملت ممرضة في الحرب العالمية الثانية في واحدة من أكثر المناطق اشتعالاً، ثم دخلت البلد في شيوعية فاشلة، بقيت فيها آنا صامتة عشرين سنة عقب كتابها الأول، قبل أن تكتب أكثر: احتفت بجسدها الذي يشيخ، بما يشبه الهوس الجنسي الساخر. لا شيء في هذه الحياة يستدعي كل هذا التواضع والضعة؛ لا اريد القول إنها تتكاذب: على العكس تماماً، الصدق، الذي يتجلى في المضمون، وفي الشكل المباشر القصير "المينيمال"، يكاد يكون أكثر ما يبقى في الروح بعد قراءة أشعارها. ولكنني أعتقد أن صلاة الشكر العلمانية هذه، مريبة مخاتلة: لماذا لا تستحق آنا بعض السعادة؟ 

الشاعرة البلغارية بلاجا ديميرتوفا تشكر الحياة: تتجه إليها بصلاة فيها تجريد فلسفي اشتُهرت به. تجريدها يربط الفلسفة والماورائيات بالحياة اليومية: ويبقى على الدوام قريباً من الأرض، من الناس العاديين، الذين يعيشون بين بين: كشكّ لا يموت ولا ينتصر. كتبت كثيراً لأمها المريضة التي فقدت ذاكرتها، وكتبت عن السرطان الذي عذّبها شخصياً، كتبت عن البحر كثيراً. أصبحت نائبة الرئيس بعد التحول الديمقراطي، لتصطدم بعالم قاس بشع، لا يشبه في شيء أحلام التحرر من كابوس الطغيان.

"صلاة مسائية
 

شكراً، أيها اليوم، على مُضيّك.

وشكراً، أيتها الهبات، على كونك لي. 

وعلى ظلال أشجار الشوك في الأعلى،

الآتية من الخشب وبراءة الأوراق،

على اللون الأزرق بكل أشكاله وتدرّجاته،

وغيوم مليئة بالبرق، تنتهي في المطر،

على الألم، وحب بلا شفاء،

على النفَس، والكلمات التي قد

تأخذ مكانه. وبشكل خاص

من بين الأشياء الكثيرة

أشكركِ على عدم إجباري

على شكركِ راكعةً على ركبتيّ.*
 

تحتفظ الشاعرة النسوية اللطيفة بكبرياء رقيق، متخلخل وديع: تعرف أنه كبرياء قائم على أسس واهية في حياة لا نعرف ما تخفيه لنا في جعبتها، وتشكر الحياة (أو القدر، أو الرب: كلها مترادفات هنا) على أنها لم تحطم ذلك الكبرياء.

لا أعرف هل الهبات هذه تستحق فعلاً أن نعيش لأجلها؛ ولكنني أعرف أن الهبات تتشابه في كل مكان: تردد أبريل ونهاية أيلول، وخوف الذكريات، والشهوة الجائعة والمتخمة وألوان الروح التي لا تُفهم، وكتب كثيرة قد لا أقرؤها ولكنها تعني أن هناك المزيد على الدوام، وصوت أمي الحزين البعيد يعايدني في الأضحى والفطر وميلادي، وبراءة أوراق الشجر، وقوارب تعبر البوسفور من "كاديكوي" إلى أوروبا، وجندول عبد الوهاب، وقبلة طفلي المتعبة الناعسة على خدي قبل النوم، وصداقات قديمة أراها تشحب يومياً في البُعد، والبطيخ، والمعري يخطو وئيداً على أديم الأجساد، وابتسامة أبي المتسامحة مع كل شيء عندما يستمتع بالبساطة المطلقة مع صباح فخري يشدو من تراث لا ينضب: "ويا بو الجَاكيت البنّي، كيف الصّحة طَمّني، وحاجة تغمزني بِعينَك، رمش عيونَك جنّني…"

وأعرف، جيداً، أن صلوات الشكر مخلصة دوماً، ولكنها تعني الشك بالهبات وبمانحيها؛ 

وأعرف أن الشكر واجب، ولا أستطيعه اليوم؛ 

وأعرف، كما يعرف الجميع، أن أصعب لحظات الحياة، هي تلك التي نبحث فيها عن أسباب للشكر، وللحياة. 

 

* القصيدة الأولى ترجمة إبراهيم استنبولي، القصيدتان الثانية والثالثة من ترجمتي.