كنس الروح

2020-08-29 12:00:00

كنس الروح
Surface/Depth - The Decorative after Miriam Schapiro

دستويفسكي جعل البصلة كناية عن النزر اليسير المطلوب لنيل الخلاص في الآخرة، أما البصلة لدى عماد أبو صالح فإنها تتيح التوصل إلى لحظة تنوير فلسفية أقر فيها أن جوهر الوجود هو الفراغ. هذه الحقيقة التي توصل اليها بعد ان كنس روحه الواعية العارفة، ودخل في مجاهيل المعرفة اللاوعية. تماما كمقولة برتراند راسل "العلم هو ما تعرف، أما الفلسفة فإنها ما لا تعرف".

"العلم هو ما تعرف، أما الفلسفة فإنها ما لا تعرف"

برتراند راسل

 

يقول برتراند راسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية":

"تتميز الحركة الرومانسية، بوجه عام، باستبدال معيار المنفعة بالمعيار الجمالي. الدودة نافعة لكنها ليست جميلة، النمر جميل لكنه غير نافع. لذلك نرى داروين (الذي لم يكن رومانسيا) قد بجّل الدودة، بينما امتدح بليك النمر."

وقد استوقفتني هذه الفقرة لكونها تلخّص فكرة وردت في قصيدة للشاعر المصري عماد أبو صالح، بعنوان "مديح الفراغ" (من ديوان "كان نائما حين قامت الثورة"، 2015):

لا أحتاج أشعارا

ولا لوحات

لا كتب فلسفة

ولا تاريخ

 

أريد أن أبقى خفيفا

خاويا 

أو 

-على الأصح-

جاهلا

 

أكنس روحي.

 

لا معرفة في المكتبات

هي

-حيث لا يتوقع أحد-

في غرفة تغذية البطون لا العقول

أين تحديدا؟

في المطابخ

 

أحضن بصلة بحنان

بين كفيّ

أقربها من فمي وأكلمها:

"يا صديقة الخدم

يا حرّة نفسك

يا أجمل من وردة

 

ثوبك البني الفقير

ينقذك من العرض

-مقطوعة الرقبة-

في الفاترينات

من رميك وسط الجثث

في المقابر

من أن ترسمي ابتسامة

على شفاه المرضى

وتلفظي آخر أنفاسك

في جلوكوز المزهريات

من شهادة الزور

على قصص الحب

بين عشاق كاذبين

 

انت لست مجرد ثمرة

يا أختي

أنت قديسة عائلة الخضروات

من يذبحك 

تمتلئ عيناه بالدموع

 

الناس لا يطيقون رائحتك

لأنها كريهة كالحقيقة"

 

أطبخ وأتأمل

كل بصلة حكمة

كل طبخة درس

 

تقشير البصل

-طبقة وراء طبقة-

يكشف جوهر الوجود: الفراغ

في هذه القصيدة ينحو الشاعر منحاه المعتاد، والذي يتميز بالاصطفاف بجانب البسيط والمهمش. يبدأها بالإعلان:

لا أحتاج أشعارا/ولا لوحات/ لا  كتب فلسفة/ ولا تاريخ/ أريد أن أبقى خفيفا/ خاويا/ أو/ -على الأصح-/جاهلا/ أكنس روحي

القصيدة مبنية بترتيب وفق ثلاث مراحل من مراحل الإبداع الأربع والتي هي 1. الإعداد (preperation) 2. الحضانة (incubation) 3. التنوير (illumination) (والرابعة الناقصة هي التحقُّق verification). فالأبيات أعلاه تدخل في مرحلة الإعداد ، فالشاعر يعدّ نفسه بترك وعيه والدخول إلى مجاهيل اللاوعي. حيث يكرر الـ لا طوال الوقت، وفي هذه العملية استسلام للا وعي وتركه يفعل فعله. ويسمي هذه العملية "كنس الروح".

ويكمل:

لا معرفة في المكتبات/ هي / -حيث لا يتوقع أحد-/ في غرفة تغذية البطون لا العقول/ أين تحديدا؟/ في المطابخ

ويستمر في الدخول إلى اللا وعي عبر تكرار الـ لا. ونراه هنا يمهد للوصول إلى المرحلة التالية، فيمسك بطرف الخيط، حيث يقرر أن المعرفة الحقيقية "في غرفة تغذية البطون لا العقول". هذا الربط ما بين البطن والمعرفة شائع عبر عبارة العقل الباطن، كما أنه شائع مجازا في اللغة العربية حيث نقول "بطون الكتب". بل وأحد أئمة الشيعة، ويدعى محمد الباقر، سمي كذلك لكونه "يبقر العلم بقرا"، بمعنى أنه نهم في القراءة والتبحر في العلوم. وفعل بَقَر مرتبط بالبطن، فبقر البطن تعني شقه.

وكدليل على أهمية المطابخ -ذلك العالم السفلي والمهمش مقارنة بعالم الثقافة رفيع المرتبة- يورد الشاعر مقارنة بين الوردة والبصلة. ويدخل بهذا إلى المرحلة الثانية، أي الحضانة. الطريف أنه يدخلها بعبارة "أحضن بصلة بحنان". وبناء على المقارنة تخرج الوردة مهزومة ويدها السفلى، فهي "مقطوعة الرقبة في الفاترينات"، تنتشر بين الجثث، وتلفظ أنفاسها عندما تُهدى للمرضى، كما أنها شاهد زور على قصص حب كاذبة. أما البصلة فتتفوق عليها بكونها صديقة للخدم، وحرة نفسها بل وأجمل من الوردة. وهي ليست ضحية سلبية كالوردة "فمن يذبحها تمتلئ عيناه بالدموع". وهكذا يصطدم الشاعر بالحركة الرومانسية عبر تغليب المنفعي على الجمالي، وذلك راجع لرغبته الثابتة في التمسك بالهامشي وجعله أساسا يُبنى عليه.

ويختم الشاعر القصيدة بقوله:

أطبخ وأتأمل/ كل بصلة حكمة/ كل طبخة درس

تقشير البصلة /-طبقة وراء طبقة-/يكشف جوهر الوجود: الفراغ

وبهذه الأبيات يكاد يصل إلى نهاية مرحلة الحضانة. ويختمها بمرحلة التنوير (حادثتها الأشهر هي صيحة أرخميدس: "يوريكا، وجدتها")- جوهر الوجود: الفراغ. وتأتي هذه النهاية طبيعية في مسار التقشف والاكتفاء بالقليل الذي تنحوه القصيدة، حيث يتلاشى هذا القليل رويدا رويدا إلى أن يصبح لا شيء (فراغا)، ويخرج من الصورة تماما.

يسمي الشاعر البصلة "قديسة عائلة الخضراوات"، ونجده ليس ببعيد عن دوستويفسكي الذي أفرد فصلا بعنوان "البصلة" في روايته "الإخوة كارامازوف" جاء فيها (ترجمة إدوار أبو حمرا):

"أتسمع يا إليوشا، انني كنت أتباهى وأنا أقول لراكتين أنني أعطيت بصلة؟ إنها قصة جميلة كنت أسمعها وأنا طفلة من الطباخة التي ما زالت معي: كان هنالك في القديم فلاحة شريرة. ماتت ولم تترك عملا صالحا عنها. قبض عليها الشياطين وألقوها في بحيرة النار. فقام ملاكها الحارس وراح يفكر بعمل جيد قامت به ليخبر الله، فقال الملاك: اقتلعت مرة بصلة من حديقتها وأعطتها لمتسولة عجوز. فقال الله: خذ تلك البصلة واجعلها تتمسك بها وهي في النار ودعها تشدّ بها، فإن استطعت بذلك إخراجها من النار فلتأت عندها إلى الجنة، أما إذا انقطعت البصلة فستبقى المرأة حيث هي. وانطلق الملاك إلى المرأة ومدّ إليها البصلة طالبا منها التمسك بها وهو يشدّ بها. وكاد أن ينتهي الملاك بعمله بنجاح، ولكن الخطاة في البحيرة رأوا ما يجري فأمسكوا بالمرأة لتسحبهم معها. لكنها كانت امرأة شريرة وذكية وراحت تدفعهم عنها صارخة: إنهم يسحبونني لا أنتم وهذه بصلتي وليست لكم. وانقطعت البصلة فورا. وسقطت المرأة في البحيرة وما زالت تشتعل حتى اليوم. فبكى الملاك الحارس وذهب".

دستويفسكي جعل البصلة كناية عن النزر اليسير المطلوب لنيل الخلاص في الآخرة، أما البصلة لدى عماد أبو صالح فإنها تتيح التوصل إلى لحظة تنوير فلسفية أقر فيها أن جوهر الوجود هو الفراغ. هذه الحقيقة التي توصل اليها بعد ان كنس روحه الواعية العارفة، ودخل في مجاهيل المعرفة اللاوعية. تماما كمقولة برتراند راسل "العلم هو ما تعرف، أما الفلسفة فإنها ما لا تعرف".