«رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء: آرثر رامبو- فرانز كافكا- فيرناندو بيسوا..» لفادي عزّام

2016-09-29 02:58:23

«رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء: آرثر رامبو- فرانز كافكا- فيرناندو بيسوا..» لفادي عزّام
عزّام عند قبر فرانز كافكا في براغ

صدر عن دار جداول للنشر في بيروت كتاب «رحلة الى قبور ثلاثة شعراء: آرثر رامبو- فرانز كافكا- فيرناندو بيسوا.. برفقة رياض الصالح الحسين» للكاتب والروائي السوري فادي عزّام. ويحوي الكتاب فصولاً عدّة ضمن ثلاثة أقسام، يسرد فيها عزّام زياراته إلى القبور الثلاثة.

وللحديث عن الكتاب سألنا صاحب «سرمدة» عن فكرته فقال بأنّها أتته من فكرة الحج، أحد أصدقائه أخبره بأنّه سيقوم بالحج عن روح صديق له قد توفى. "شعرت أنني أريد إعطاء رياض الصالح الحسين شيئاً غير تقليدي، فأنا مدين له بشكل شخصي"، يقول عزّام، "فرياض صديقي الذي لم يخذلني (كأدب)، كنت ألجأ إليه في أي وقت وأجده بانتظاري. قررت أن أكرس رحلة كاملة له أتحدث عنه وأروي له، أشاركه المدن البعيدة والتطوّف في شوارعها والحديث عنه للغرباء."

ويضيف "كانت الرحلة نوعاً من رد الديّن الثقافي للجمال والبساطة الآسرة التي منحنا إياها في دواوينه وكلماته. رياض كان طازجاً، وللحق كانت كلماته مأوى للسوريين مهما كانت مواقفهم من الثورة." وعن زمن إصدار الكتاب يقول "أنجزت رحلتي على مشارف الثورة وتعطل إصدار الكتاب بسبب تسارع الأحداث، ولكن منذ عام ونصف قررت أن أعود إليه وأصدره ليكون رياض حاضراً في هذا الوقت وشاهداً على ما يحصل."

وعن الرّبط بين موضوع الكتاب وبين الحالة السورية اليوم قال عزّام "اليوم قبور السوريين تنتشر في العالم أجمع وعلاقة السوريين مع الموت يومية. القبر أضحى مكاناً أليفاً لنصف عدد سكان سورية، هناك ما يمكن أن أسميه بلاغة القبر السوري. قبور في الأدغال قبور في قاع البحر، قبور في رحلات اللجوء. وهناك من يعتدي على شواهد القبور في الداخل ويطمسها، لم تنجُ حتى المقابر."

وعن قبر رياض في بلدة مارع قال "لم نستطع الوصول إليه لإتمام طقوس الرحلة ولكنه أصبح بالنسبة لي شاهقاً وشاهداً على «سورية الحزينة كعظمة في فم الكلب». ومن وحي نصوصه التي قرأتها مراراً تبلورت فكرتي، كان لدي قائمة من عشرين شخصية ظلت تتقلص حتى وجدت غايتي." وأضاف "أما القبر فهو الجامع المشترك والقاسم الذي يوزع حصصه بالتساوي على الجميع في النهاية."

وعن تصنيف الكتاب قال بأنّه "كتاب أدب الرحلة الحديثة. كتاب لرد الاعتبار للثقافة والشعر. هو رحلة للحج الأصغر، رحلة في الامتنان، محاولة لإيجاد معنى ما بين القبر والشعر وسورية… بعض القبور لا تتوقف عن الكلام. حتماً قبر رياض الصالح الحسين السوري هو أحدها وعلى العالم أن ينصت له بعد أن أصبح أطرشاً في سماع بلاغة الموت السوري من الأحياء علّ الأموات ينجحون.

وأنهى عزّام حديثه لنا متسائلاً "وربما كل ذلك كي أصل للنهائي الذي ختمت به بالكتاب ماذا يعني أن تكون سورّياً هذه الأيام؟"
 

تنشر رمّان فصلاً من الكتاب، من القسم الخاص بفرانز كافكا:

في مقبرة اليهود

المقابر أكثر شاعرية من صالات الأفراح. 

فادي عزام. 

لنذهب باكرا إلى المقبرة، اقترحت رفيقة قررت أن تزور معي المقبرة، وهي تنظر إلى الخريطة  إنها بعيدة في الدائرة السابعة من المدينة قريبة من الضواحي. 

من مالسترنكا . إلى جالفسبو سبع محطات في المترو يودي إلى ضواحي براغ، أبنية متشابهة من العهد السابق، والمساكن الشيوعية التي بنتها الدولة، أبنية مسبقة الصنع كريهة بشعة متشابهة وكأنها لا تخص براغ. 

 مائتا كراون ثمن باقة من الورد، حوالي 9 دولارات دخلنا في مهابة إلى المقبرة  اليهودية المظللة بأشجارعملاقة، على الباب مباشرة غرفة يتوسطها حارس المقبرة، رمقني بعينين قزّازتين، وقال: بإني لا أستطيع الدّخول حتى أرتدي القبعة اليهودية على رأسي يقصد تلك القلنسوة الزرقاء بنجمة سداسية، جعلت جسدي يقشعر. من المستحيل دخول المقبرة أو أي معبد أو مكان ديني يهودي بدونها، علي ستر فروة شعري بينما يمكن لرينا أن تدخل بشعر مفلوش ولا أحد يستوقفها، أرشدني إلى مكان وجود القلانيس الزرقاء بحزم،  أخذت القلنوسة من الصّندوق الكبير في جوار الباب.  ووقفت صامتا لا أعرف ماذا أفعل، ضاق تنفسي فجأة وشعرت أن علي الخروج من هذا المكان، وفعلا فعلت، اجتزت البوابة الكبيرة وصرت خارجا واقفا بذهول، وغضب ولا أعرف لماذا؟ 

أحمل القلنسوة بين يدي وأشعر أن هناك شيء غير عادل، لم يكن كافكا يوما متدينا يهوديا، وكان موقفه سلبياً تماما من الصهيونية وتثير لديه الغثيان.  ولكن قراءة كافكا المجيرة لمصلحة الصهيونية هي ببساطة تعني تصنيفه وقتله وصلبه. فهو القائل بوضوح لا يحمل أي ريب: ماذا يجمعني باليهود؟ أكاد لا أرى شيئاً يجمعني بنفسي.

سيكون كتاب  "كافكا - كاتب يهودي من وجهة نظر عربية": كتاب صدر بالألمانية للباحث عاطف بطرس، وفيه يتناول المؤلف تاريخ استقبال أدب أحد أشهر الكتاب في العالم، كما يشرح خلفيات النقاش العربي الحاد الذي اندلع حول "صهيونية كافكا" 

يسهب الكتاب في الأسباب التي جذبت أعمال فرانز كافكا المثقفين في المنطقة العربية منذ منتصف القرن العشرين. وكان أول من عرف القراء على أعماله باللغة العربية الدكتور طه حسين، وذلك في مقال صدر في منتصف الأربعينات، قارن فيه بين أجواء عالم كافكا والشاعر أبي العلاء المعري معتبراً أن كلا الأديبين عاشا عصراً من الاضطراب والأزمات والفساد، وأن كلاهما عاش متأرجحا بين اليأس والأمل.

طه حسين قرأ كافكا بوصفه كاتب كوني، متخلصا من قصر النظر الذي يسعى للتصنيف والقتل الشخصي، وبالتالي إعدام المنتج سلفا. 

ووجد طه حسين في أعمال كافكا حقائق موجعة لكن لا يمكن إنكارها والتي تتمثل في استحالة ربط الانسان بالرب وعدم فهم الذنب البشري، وعدم معرفة مغزى الحياة، فالتشاؤم يحمي الناس من الكبر والغطرسة.

نشر طه حسين في مايو 1933 في مجلة " نجم الشرق" مقالا بعنوان " الاحتقار" التي أجرى فيها سجالا مع أيدلوجية المذهب القومي الاشتراكي (النازي) المناهضة للفكر، ولقد نادى باحتجاجات دولية عقب حرق كتب الكتاب اليهود في برلين وقام طه حسين بدعوة من "يودا ماجنيس" رئيس الجامعة العبرية بزيارة القدس عام 1943- قبل قيام دولة الكيان -  وأظهر تعاطفًا كبيرًا لمصير اليهود الذين قام النازيون بمطاردتهم وقتلهم. 

ويهمل الأدب العربي وكتاب السيرة ما فعله عميد الأدب التنويري، طه حسين حقا. ولكن دون أدنى شك كان لهذا الموقف الأثر الأكبر بفتح الثقافة العربية على أدب فرانز كافكا. 

غير أن قصة ذات مستوى ضئيل من أدب كافكا أعتمدها البعض، لإدانته واعتباره كاتبا صهيونيا، هي " قصة  "بنو آوى وعرب" 

 قام بعض الكتاّب العرب بالمناداة  بحظر كتب كافكا وهناك كتاب عرب تمسكوا بكافكا بقوة بمنتجه ووصل  الأمر بأن يقوم نائب في البرلمان السوري عام 2004 بالمزاودة على التاريخ والأدب و المطالبة بمنع ترجمة كافكا من قبل وزارة الثقافة السورية ، ولم ينتهِ السجال وليس آخره ما كتبه  عاطف بطرس بالألمانية  ختم كتابه بالجملة الختامية من قصة كافكا "ورقة قديمة" هذا سوء فهم، سيؤدي بنا جميعا إلى الهلاك

برسائل كافكا إلى خطيبته سيرد فيها إفصاح عن بعض رغباته بالذهاب للعمل في فلسطين، ولكنه لم يفعلها وتورد لديه جملة متناقضة، يقول فيها

 "أنا معجب بالصهيونية، أنا مشمئز منها" وهي جملة توضح التناقض برأيه حول الصهيونية كحركة تحررية في أوروبا ، وحركة استعمارية في فلسطين. فهي كان لها خطابين مختلفين، واحد لنصرة اليهود في أوروبا  الذين تعرضوا حقا لأكبر مأزق وجودي عرفه التاريخ لشعب أو عرق أو دين ، والآخر كيف تحولت الصهيونية التحريرية إلى شبيه لمن تكافحه. بأفعال يندى لها جبين الإنسانية في فلسطين. 

كل هذا خطر ببالي وانا واقف أتأمل القلنسوة اليهودية.  وافكر بحجم الشرخ الحقيقي الذي صنعته الصهيونية، بين اليهود والعرب فعلا. كانت كل الزيارة مهددة، وكل هذا التعب صار على المحك .

 لا يمكن لي أن أضع هذه الخوذة على رأسي :  قلت لرفيقتي.  

التي حاولت إقناعي وقالت : إني أتفهم هذا تماما. ولكنها طقوس شكلية لا تعني شيئا، ألا تذكر يوم زيارتنا للجامع الأموي، جميع النساء يضعون حجاباً حتى الأوربيات على الرأس.  وانا وضعت الحجاب على رأسي احتراما للمكان ولا يعني هذا أني أتبنى أي موقف،أنه نوع من الاحترام لمعتقد إنساني وليس إلى حركة استعمارية أو شيء مختلف. 

كان رفضي حتميا، فصورة المستوطنين في فلسطين وهم يحملون رشاشات "العوزي" و يتقلّسونها هي ما يرتبط في وجداني بهذه القلنسوة.

هناك سوء فهم عميق تكرس وتجذر وشخصيا أنا لا استطيع البدء بالتفهم، تحت أي مسمى لست مؤهلا لا نفسيا ولا عقليا لذلك. أنا معادي للصهيونية إلى آخر يوم في حياتي، مثل معاداتي لكل ما هو فاشي، ونازي، وشمولي.  ليس لدي مشكلة مع اليهود، ولم يكن يوما في سوريا مشكلة مع اليهود، مشكلتي الحقيقية مع الاحتلال والاستعباد والاستعمار والكذب التاريخي. 

عقلي يعرف أن اليهودية بريئة من مجرميها كما الإسلام بريء من مجرميه كما المسيحية كما البوذية .. في الحقيقة  الله  نفسه بريء من كل  هذا؟

كان علينا أن نهدأ ونتوقف لنشرب بعضا من القهوة ونفكر ماذا يمكن أن نعمل؟ تذكرت فجأة الموسوعة اليهودية أني قرأت فكرة قد تكون هي الحل. 

كل ما في الأمر علي أن أضع قبعتي الرياضية على رأسي وربما يمكنني المرور. 

يعني المهم تغطية الرأس وليس مهما بقلسنوة زرقا عليها نجمة سداسية أم لا.. وفعلا أخرجت القبعة الرياضية من الحقيبة، ووضعتها على رأسي، ومشينا من جديد إلى المقبرة. دخلنا بهدوء، وبدون النظر إليه مررت بجانب الحارس لم يحرك ساكناً، كانت مقبرة عظيمة ذات مهابة لونها الأخضر من أغرب الألوان التي رأيتها في حياتي، قبورها عملاقة راسخة، نظيفة جميلة ومرتبة بعناية مدهشة، 

:المقبرة بتشهي الواحد يموت "

حتى وصلنا إلى القطاع رقم 21 رقم حظي،  بجوار السياج  كان قبر فرانز كافكا يجثم هناك تحت سطح من الحصى الأبيض. بجواره قبر أبيه ومقابله قبر صديقه ماكس الذي له الفضل بإبقاء جزء كبير من تراث كافكا حيا. لم ينفذ طلبه بإحراقه. 

ورائي جاء الحارس يسعى، ينظر إلينا بعينين مرتابتين، لم نأبه له، لم أكن على استعداد أن أفرط بقيمة تلك الثلاثين دقيقة التي بقيتها بجوار القبر.  وبينما انضم إلينا سائح آخر قادم من انكلترة كان يرتدي قبعة، تشاركنا معا تلك اللحظات العالية من الصمت، تقاسمنا التأمل والنظر إلى قاع القبر. وتبادلنا الابتسامات الودودة قبل ان يغادر بهدوء. 

بقيت لأتمم مراسم الزيارة، رتبت باقة الزهر واسندتها على كعب الشاهدة ثم  بدأت بالقراءة بصوت جهوري مسموع جعل الحارس يأتي مرة أخرى لينظر إلي "شزرا مزرا " ويتمتم بضع كلمات ويمضي.

لرجل مات

الخنجر في القلب

والابتسامة بين الشفتين

الرجل مات

الرجل يتنزه في قبره

ينظر إلى الأعلى

ينظر إلى الأسفل
ينظر حوله
لاشيء سوى التراب
لا شيء سوى القبضة اللامعة
للخنجر في صدره
يبتسم الرجل الميت
ويربت على قبضة الخنجر
الخنجر صديقه الوحيد
الخنجر
ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى

وضعت رسالة رياض في قلب القبر، بين حجرين ثابتين، وانتقيت 12 حصوة بيضاء أخذتها كتعويذة من المقام الجليل، سأقدم بعضها لمن يستحقُّ حبَّ كافكا حين أعود.في حضرة القبر والمقبرة كان علي أن أسند ظهري لشاهدة القبر وأرقش انطباعاتي عن عوالمه. وأكتب كيف أراه وأحسه وأقرأه.. وأقول للعالم على الأقل هذه قراءتي. أعكر صفو عزلته الأبدية فهو الذي قال: لا أعتزلُ الناس لأنني أريد أن أعيش بِسلام، بل لأنني أريد أن أموت بِسلام.

في لشبونة

تمثال رامبو في شارلفيل