قراءة في "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"... استنتاجات نظرية من تجارب عربية (٤/٤)

2020-09-21 00:00:00

قراءة في
الصورة في اليسار: ساحة التحربر في القاهرة.

وفي حديثهِ عن مصر وعن سبب الانقلاب على الرئيس المنتخب، يذكر الكاتب وجود عوامل عديدة، وكلها تتعلق بالنخب السياسية: 1- شرخ بين النخب السياسية وغياب التوافق وتحويل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي. 2- التعبئة الشعبية. 3- الصراع على السلطة والتركيز على التفرد في الحكم بدلًا من الالتزام ببناء النظام الديمقراطي. 4- ممارسة إخوانية متعالية على القوى السياسية الأخرى[32].

القسم الأول بعنوان: قراءة في "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"... جذور دراسات الانتقال في نظرية التحديث (١/٤)
القسم الثاني بعنوان: قراءة في "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"... دراسات الانتقال الديمقراطي (٢/٤)
القسم الثالث بعنوان: قراءة في "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"... العامل الخارجي وقضية الثقافة (٣/٤)
 

عمل د. عزمي بشارة في الأقسام الثلاثة الأولى على وضع إطار عام يؤدّي في النهاية إلى القسم الرابع، وهو الأهم من الناحية النظرية، والأهم في السياق العربي، وقد قُسِّم إلى أربعة أقسام تُناقش وتستخرج الاستنتاجات النظرية من التجارب العربية في الثورات والهبّات والمطالبات بالانتقال، وتجارب الانتقال في عددٍ من الدول العربيّة. يُفرد الكاتب هذا القسم تمامًا للمشكلة التي أوردها في مقدمة الكتاب، وهي ضعف التنظير لمسألة الانتقال الديموقراطي عربيًا بالانطلاق من المنطقة العربية وتجاربها الفريدّة والخاصّة، دون تعميمات مفروضة من الخارج إلا بما يتناسب مع الحالات. 

الفصل والوصل بين الإصلاح والثورة والثورات الإصلاحية

عندما يسمع المرء كلمة ثَورة، فيتمارى إلى ذهنه العديد من الأمور، منها ناس في الشارع وشهداء وانقلاب في نظام الحكم، قتل لرموز النظام القديم، قلب لشكل الحياة، الثورة الفرنسية، الثورة الإسلامية وإلخ. ينطلق بشارة في القسم من الأخير من الكتاب مُستخدمًا هذا الفصل في التفريق و«الفصل» بين المُفاهيم التي سيستخدمها في الفصول القادمة. يُعرّف بشارة الثورة في الكتاب على أنها «أقرب إلى ما تفهمه أغلبية الناس. وهو الانتفاضة الشعبية المستمرة فترة طويلة نسبيًا (بمعنى أنها ليست حدثًا طارئًا أو فعلًا احتجاجيًا واحدًا)، والتي تطالب بتغيير نظام حكم بآخر، حتى لو لم يتغير نمط الإنتاج»[1] أو أنها «تحركًا شعبيًا واسعًا لتغيير نظام الحكم من خارج البنية الدستورية القائمة»[2].

يُشير الكاتب إلى أن دراسات الانتقال لم تتغير بعد دراسة التحولات في المنطقة العربية، وكان يوجد تركيز من الباحثين على علاقة الدين إما بالنفي أو بالتأكيد، حيث ينقل بشارة موقف خوان لينز وألفريد ستيبان في إمكانية التعايش بين الدين والديمقراطية من خلال «التسامحين التوأمين»[3][4] والمبني على «التمايز المؤسسي بين الدين والدولة والتسامح مع الدين في المجال العام[5].

يقول لينز وستيبان بوجود شروط للرسوخ وهي سيادة الدولة لتكون قادرة على السيطرة على أراضيها وتوفر بيروقراطية فاعلة وسيادة حكم القانون ووجود مجتمع سياسي من الأحزاب والقوى السياسية ومجتمع مدني حيويّ ومستقل، وبعد الثورات العربية، أضاف الكاتبان ثلاثة شروط جديدة، وهي أن العلمانية ليست أساسية للانتقال الديمقراطي وأن أغلب الأنظمة العربية التي شهدت ثورات هي أنظمة سلطانية وأنه يتوجب إيجاد تصنيف جديد للأنظمة منطلقة من التجربة نفسها، مثل «السلطوية الديمقراطيّة» كإشارة إلى نظام حكم محمد مرسي[6]، وهو ما يرد عليه بشارة بإمكانية وجود نظام سلطوي هجين أو ديمقراطي هجين، لكن «لا وجود لنظام سلطوي ديمقراطي»[7].

يستمر بعدها بشارة في شرح طبيعة بعض الأنظمة العربية مع التركيز على بعض النماذج لتبيين خصوصيتها وخصوصية البحث فيها، مؤكدًا أولًا على أن دراسات الانتقال لن تتحول إلى نظرية مكتملة لتفسير جميع الحالات إلا بعد أن تصير جميع دول العالم ديمقراطيّة، أي بعد غياب إمكانية وجود أي تجربة أخرى للاستنتاج منها[8].

وأيضًا يكمل بعدها بأن المنطقة العربية وخلافًا لكل الموضوعات التي درستها مشروعات الانتقال الديمقراطي، فإن الاستبداد فيها لم يُتخلص منه  عبر إصلاح تدريجي متخلل بانتفاضات شعبية تعمق من هذه الإصلاحات، بل إن الانتفاضات فيها كانت شعبية وعفوية وشكّلت ردًا على عنفوان الأنظمة الاستبدادية وبطشها، وتحولت دون تخطيط إلى ثورات إصلاحية، أي أنها هذه الحراكات تصرفت مثل الثورات ورفضت سياسات الاحتواء وطالبت بتغيير النظام دون طرح بديلٍ أو تقديم قيادة جديدة جاهزة، وهنا يعتبر بشارة هذه الثورات الإصلاحية لحظة عربية وابتكار عربي[9].

يُفرّق بشارة بين ثلاثة مُصطلحات: الثورة والإصلاح والانقلاب العسكريّ. ويعتبر أيضًا أن التمييز بينها وبين الانتقال الديمقراطي مُهمًّا، فشروط انطلاق أية ثورة أو نجاحها ليست شروط الانتقال الديمقراطي، والرابط بينهما هو تأثير نمط الاستبداد والتخلص منه، طبيعة القوى الثورية في مسار الانتقال[10] . ويؤكد أيضًا على أن أي حراكٍ شعبي واسع يصل إلى المطالبة «المثابرة لتغيير النظام من خرج البنية الدستورية القائمة هو ثورة، سواء أدّى إلى ديمقراطية أم لا، وسواء نجح في إسقاط نظام الحكم أم لا»[11].

يسأل بشارة في كتاب المسألة العربية عن سبب غياب أي انشقاق أو فقدان لزمام السيطرة في الأنظمة العربية عندما بدأت فيها الإصلاحات من أعلى مثل باقي الدول الأخرى، ويجيب باختصار بأن «عوائق بناء الأمة هي ذاتها عوائق الديمقراطيّة» [12]، ويلخّصها في الآتي: 1- عدم حل إشكالية العلاقة بين القومية والدولة الأمة. 2- فشل الدولة في دمج الشعب على أساس المواطنة. 3- التقسيمات الاستعمارية وعشوائية الحدود (يمكن الإشارة إلى بقايا الأنظمة الاستعمارية أيضًا). 4- وجود حركات سياسية تنمي ولاءات فوق وطنية. 5- رهان الأنظمة الحاكمة على ولاءات تحت وطنية للنظام الحاكم. 6- خلط الأنظمة بين الولاء لها والولاء للدولة. 7- دور الاقتصادات الريعية[13].

يُشير الكاتب مرات عدّة لضرورة الربط بين استثناء المنطقة العربية بما له علاقة بالدين أو الشعوب، «فما يشهده العالم العربي ليس مواجهة "الإسلاميين والديمقراطيين" بل هو صدام وتواطؤ بين صور متنوعة من الأنظمة الشعبوية»[14]، وفي هذا الإطار يتناول بشارة طرح شميتر عن الاستثناء العربي: 1- الطبيعة الريعية للدولة. 2- منع إقامة مؤسسات وحركات. 3- غياب انبعاث المجتمع المدني ( مع حصوله في الجزائر مع الإسلاميين)، ويوضح شميتر عدم وجود علاقة بين ضعف المجتمع المدني والعامل الإسلامي، وإنما له علاقة بطبيعة جهاز الدولة وقدرته على التحكم في مصادر الثروة وتوزيع الدخل[15].

ينتقد الكاتب بشدّة دارسي نظرية الانتقال الذين يحاولون تطبيق النظريات الخارجية على المنطقة العربية بافتراض أن الأنظمة السلطوية كانت تمر بعملية انتقال منذ عقود، وبدأت هذه العملية بالإصلاحات قبل انتفاضات 2011[16] مشيرًا إلى أنّ إصلاحات القرن الماضي فيما عدا الجزائر في الدول العربية كانت إصلاحات تكتيكية لاحتواء الأزمات الداخلية أو لمسايرة الأوضاع الدولية[17]، وأوضح ان كثير من هذه الإصلاحات تراجعت عنها بعض الدول مثل البحرين.

لا يعتبر بشارة الإصلاحات في الثمانينات وما قبلها خصوصًا في مصر وتونس أنها دشنّت مرحلة انتقالية، وحتى إن كانت، فهي ليست الانتقال كما هو مفهوم في دراسات الانتقال، بمعنى أنها تؤدي إلى الديمقراطية، وإنما كانت تعديلات في إطار النظام السلطوي، وبالتالي فإن الثورات الإصلاحية ليست جزءًا من تلك المرحلة أو امتداد لها، بل إنها جاءت من خارج ديناميتها، معلنة الرفض للواقع الاجتماعي والسياسي السلطويّ، ولم يحصل الأمر متدرجًا، وإنما مرة واحدة، وطلب قطع العملية القائمة وطرد مغادرة النظام السلطوي عمومًا[18]. 

عن السلطوية وبناء الدولة في بلدان الثورات العربية

تحدث الكاتب في القسم الثاني من الكتاب قبلًا عن أثر نوع النظام السلطويّ في بناء الدولة وأنماط الانتقال، وهنا، يُفرد فصلًا كاملًا للحديث مرة أخرى عن عنف الدول السلطوية والشرعية واستقرارها. يتناول الكاتب في هذا الفصل البلدان التي نشبت فيها ثورات 2010-2011، ويفصل بين تجارب الدول العربية التي وصلت إلى الانتقال الديمقراطي (مصر وتونس) والدول الثلاث الأخرى التي تحولت فيها الثورات إلى حروب أهلية (ليبيا واليمن وسورية)، ولا يكون الفصل بين هذين النموذجين فقط، وإنما بين مصر وتونس أيضًا، ويشدد في البداية على «قوة الدولة العربية بشكل عام من زاوية قدرتها على جمع الضرائب مقارنة بالدول المتطورة [...] لتبيين الفارق بين قوة النظام وقوة الدولة  إذن قد تأتي سطوة النظام السلطوي على خلفية ضعف الدولة»[19].

يُذكر أن أغلب الدول العربية جاء التحديث فيها على النمط الأتاتوركيّ، أي من أعلى ضد مُلّاك الأرض ورأس المال الأجنبيّ. كان هدف الأنظمة الراديكالية والمحافظة تقوية أجهزة الدولة القمعية وفرض السيادة على الأرض والسكان. تطلب ذلك في بعض الدول إيجاد مجتمعات محلية متنوعة لفرض السلطوية، وتفاقمت السلطوية حين صار بالإمكان تمويل الأجهزة بأموال النفط (لا حاجة للضرائب). وهنا يظهر الفرق بين الدول المركزية والدول الريعية من ناحية وجود بنى وسيطة بين الدولة والمواطن. يُشير بشارة ومن خلال التجربة أن الأنظمة الملكية المحافظة تبدي مرونة أكثر في الإصلاح واحتوائه من دون أن تؤدي هذه المرونة إلى الديمقراطية، وبالتالي تكون أقل عرضة لثورات التغيير، على العكس من الأنظمة السلطوية الراديكالية والتي لا يمكن أن يحدث فيها تغيير إلا من الخارج أو عبر الثورة[20].

يوضّح بشارة بالجداول إلى أن قوة الدولة ونجاعتها تظهر في قدرتها على جباية الضرائب المباشرة، لأن الضرائب غير المباشرة تكون جبايتها أسهل وأقل عدلًا لأنها تكون من المواطن نفسه عبر ضريبة القيمة المضافة وعدد من الضرائب الأخرى. يدفع المواطن الفقير الضريبة على السلع بالمقدار نفسه الذي يدفعه المواطن الغني[21]. يُشير الكاتب إلى أن الدول العربية التي تتصدر قائمة الضرائب المباشرة، هي مصر وتونس، وذلك لأنها الأقوى من حيث البنية المؤسسية وشرعية الدولة[22].

يناقش الكاتب في هذا السياق فرضية نزيه الأيوبي في كتابه «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط» والتي تقول إن الدولة العربية وعلى الرغم من امتلاكها بيروقراطيات ضخمة، إلا أنها ضعيفة في قضايا جوهرية مثل جباية الضرائب والانتصار في الحروب والهيمنة الأيديولوجية على المجتمع [23]. ينتقد بشارة هذه الفرضية لأن الدولة العربية مع الزمن بنت لنفسها قاعدة اجتماعية عبر الوظائف والقطاع العام والتجنيد وحتى من ولاءات العشائر والقبائل، وقد ظهر هذا في الثورات، حيث لم تتسبب في انهيار، بقدر ما أظهرت الشروخ العميقة في الأنظمة. ويوضّح أيضًا في معرض نقدهِ لمحمد جابر الأنصاري، بأنه ليست كل دولة ديكتاتورية دولة ضعيفة، وهو ما ظهر في مصر، بل هي دولة قومية بأجهزتها والمصالح المرتبطة بها [24]. وبالتالي لا يمكن لأي حركة شعبية مواجهتها دون التساوم والتفاوض معها وتغييرها بالتدريج.

تنبع أهمية الحديث عن النظام ومركباته هنا، لأن كثير من مركبات الأنظمة السلطوية تكون موزعة إما حول الرئيس نفسه، أو العائلة أو الحزب الحاكم مثلًا، مثل الأجهزة الأمنية من المخابرات والجيش. تكون هذه الأجهزة بعيدة وخارجة عن سلطة الدستور والبرلمانات المنتخبة، بمعنى أنّ عملية التفاوض والتساوم في أثناء مرحلة الانتقال لا تكون عبر الانتخابات فقط، وإنما مع تلك الأجهزة، لأنها تكون خارج سلطتها.  يكمل بشارة الحديث بعدها طبقة رجال الأعمال، وعدم تغييبهم أو تجاهلهم في عملية الانتقال، لأن هذا يشعرهم بالتهديد ويدفعهم إلى التآلف مع بنى النظام القديم لإجهاض الانتقال الديمقراطي قبل أن يبدأ[25]. 

الجيش وتماسك النظام السلطويّ مع ملاحظة عن تشيلي ومصر 

يبدأ هذا الفصل من الكتاب بمناقشة تماسك الأنظمة السلطوية وقدرة أجهزتها على القمع والعنف، فيذكر الكاتب ما قالته ثيدا سكوكبول في أن قوة الدولة وتماسكها وفعالية جهازها القمعي لا يحسم نجاح ثورة أو فشلها فحسب ، بل قد يكون مقرّرًا بشأن حدوثها من عدمهِ[26]، وهذا ما لا يتفق معه بشارة إطلاقًا، وهذا لأن تفجر الثورات العفوية يخرج عن نطاق تحكم الدولة، أما التعامل معها فيتوقف على تماسك جهاز القمع فيها[27]. ويناقش الكاتب مقولة «العنف لا ينفع» موضحاً بأن العنف ينفع النظام إذا مُورس على نحو مثابر ومنهجيّ مع غياب المعوقات المحلية والدولية[28]. وبالتالي، تحاول الأنظمة السلطوية أحيانًا إظهار أقصى درجات العنف لدمغ ذكرى مقيتة في عقول المواطنين تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل التفكير في الثورة، وهو ما حصل في سُوريا، إذ لم يُرِد النظام إظهار الرحمة أو التهاون كي لا يبدو ضعيفًا، ولجأ مباشرة إلى العنف، ولكن خطته لم يكن ليكتب لها النجاح لولا 1- التجاهل العالمي لجرائم الحرب المرتبكة، وهنا نشير إلى الديمقراطيات الغربية لم يكن لتعرف نتيجة التحول الديمقراطي، وبالتالي الخوف على حدود إسرائيل، فاتخذت سياسة الانكفاء خوفًا من التنظيمات المتحاربة هناك، وخوفًا من لا يقينية غير محمودة. 2- وجود معارضة سياسية من دون برنامج ديمقراطي. 3- عدم تبلور إرادة الدولة المؤيدة للتغير في سوريا. 4- صعود الخطاب الطائفي[29].

يناقش الكتاب بعدها أهمية دور الجيش في الثورة والانتقال الديمقراطي، وهو ما وضعه شرطًا  لإنجاح عملية الانتقال: حيادية الجيش الكاملة في مثل هذه الحالات أو دعمه الكلي أو الجزئي للانتقال[30]، فيقول إن الجيش حين لم يحمِ النظامين المصري والتونسيّ في اللحظة الحاسمة، أدّى إلى تنحي بن علي ومبارك. ويتطرق الكاتب إلى أن سلوك المؤسسة العسكرية يتعلق بعوامل مثل: قرار النخبة الحاكمة والخوف من أن يودي الإصلاح بالنظام كله، بما في ذلك المؤسسة العسكرية[31]. فعندما يرى الجيش أن مصيره مرتبط في النظام (مثل سوريا والصين)، فإنه يتقدم للدفاع عنه، ولكن حين يرى مصلحته بإسقاط النظام أو الرئيس (في حالة مصر ورفض التوريث للابن)، فإنه يتنحى جانبًا أو يساهم في الأمر.

وفي حديثهِ عن مصر وعن سبب الانقلاب على الرئيس المنتخب، يذكر الكاتب وجود عوامل عديدة، وكلها تتعلق بالنخب السياسية: 1- شرخ بين النخب السياسية وغياب التوافق وتحويل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي. 2- التعبئة الشعبية. 3- الصراع على السلطة والتركيز على التفرد في الحكم بدلًا من الالتزام ببناء النظام الديمقراطي. 4- ممارسة إخوانية متعالية على القوى السياسية الأخرى[32].

باختصار وفي مقاربة بين ما حصل في مصر وتشيلي، يضع عزمي بشارة يده على التشابه بين الحالتين من ناحية تحويل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي والتعبئة الشعبية، وكيف أن جميع الأطراف حين فشلت في التوصل إلى إجماعٍ أو توافق أو ائتلافٍ سلمي فيما بينها ولجوئها إلى الجيش (بصفته الحيادية)، قد أعطت الشرعية دون أن تدري لانقلاب عسكريّ لتعبئة الفراغ الموجود. «جرت معظم الانقلابات العسكرية بعد الانشقاقات في النخبة المدنية وعدم القدرة على إدارة التوافق أو إجماع أو قبل حكم الأغلبية بين النخب المدنية العربية[33]. ويحاج بشارة في أن كل تاريخ الانقلابات العسكرية العربية، لا يكون الانقلاب دون استدعاء سياسي له من حزب أو أكثر[34]. 

التعلم من الفَرق: تجربتا مصر وتونس

يضع في الفصل الأخير من الكتاب تفسيرًا للفرق بين نتائج الانتقال في مصر وتونس، وكيف أن هذا الفرق قد يصلح  في التأسيس النظري لبعض قواعد الانتقال عربيًا. يشرح د. عزمي بشارة في بداية الفصل فشل نظرية التحديث وأسبابها البنيوية في تفسير الفرق من خلال مجموعة من الجداول التي تبين أن مؤشرات التحديث بين البلدين ضئيلة [35] ويوضح الكاتب أن العوامل المسببة للفرق بين التجربتين تتمثل في الآتي: 1- دور الجيش ومدى تسييسه. 2- الثقافة السياسية عند النخب الحاكمة والمعارضة. 3- التفاوت في الوزن الاستراتيجي بين البلدين[36].

يوضح بشارة إلى الجيش المصري وعلى الرغم من أنه اتخذ موقفًا رافضًا لقمع الحراك الثوري مثل الجيش في تونس، إلا أن لم ينحز الشعب، بل انحازَ إلى المؤسسة العسكرية لأنه وعلى خلاف الجيش التونسي، «عرف أدوارًا أمنية وسياسية سابقة، واحتفظ بطموحات سياسية كما يبدو [37] وكما أن الجيش في حالة تونس انسحب وعاد إلى ثكناته بعد تنحي بن علي، لم يقم الجيش المصري بالأمر نفسه، بل خرج عن طاعة مُبارك، وتسلم هو مقاليد الحكم في المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي. بعدها، اضطر الجيش في مصر إلى تسليم السلطة للمدنيين لتحديد مواعيد الانتخابات. ولكن وعندما فشلت النخب السياسية في التوصل إلى الإجماع أو التسوية السلمية فيما بينها، ومحاولتها لخطب ود الجيش، أدّى هذا إلى القيادة العسكرية للاعتقاد بأنها الوحيد القادرة ضمان الاستقرار في البلاد[38].

يعلل بشارة الإشكالية الأساسية المتعلقة بالحوار والمساومة والاتفاق بين النخب في مصر بالآتي: 1- ضعف الثقافة الديمقراطية للنخب. 2- تأثير أسلوب تغيير النظام على سلوك النخب، خصوصًا لو كانت ضعيفة التجربة السياسية أو أنها لم تتحل بثقافة ديمقراطية. 3- الوقوع في فخ الشعبوية، وخصوصًا عندما ترفض الأطراف المنتخبة تقديم التنازلات بعد فوزها لاعتقادها أنه وبمجرد حصولها على أغلبية ضئيلة، يمكنها التصرف كما لو أنها في ديمقراطية راسخة[39]  (وهو الفشل في عقد الائتلافات والتسويات والمساومات مع البنى القائمة).

وفي إشارة إلى أهمية التفاوت الجيوستراتيجي بين مصر وتونس، وهو ما تحدث عنه بشارة في فصل «العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي»، فإن وزن تونس أقل من وزن مصر من ناحية التأثير في المنطقة والاهتمام العالمي والإقليمي، وهو ما وفّر على تونس تدخل قوى معادية للديمقراطية لعرقلة عملية الانتقال[40].

في نهاية الفصل، يعدد بشارة بعض الاستنتاجات النظرية: 1- لا ينجح الانتقال الديمقراطي إذا عارضه الجيش أو إذا كان لدى الجيش طموحات في الحكم. 2- ضرورة التزام القوى السياسية الرئيسة بالإجراءات الديمقراطية. 3- لا يمكن حكم دولة في مرحلة الانتقال بأغلبية ضئيلة بوجود معارضة قوية ومؤسسات نظام قديم تعارض الانتقال. 4- كلما زاد الوزن الجيوستراتيجي، زاد وزن العوامل الإقليمية والخارجية، خصوصًا لو كانت معادية للديمقراطي، فهذا يعني زيادة التأثير السلبي للعامل الخارجي[41].

 

هوامش

[1]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطية وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 449.
[2]  عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، 34.
[3] Juan J. Linz & Alfred Stepan, «Democratization Theory and the ‘Arab Spring’,» Journal of Democracy, vol. 24, no. 2 (2013), p. 17, accessed on 9/3/2020, at: https://bit.ly/2JkLsZ2
[4]  تترجم أحيانًا إلى التسامح المزدوج (Twin Tolerations).
[5] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطية وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 441-442.
[6]  المصدر السابق نفسه، 442.
[7]  المصدر السابق نفسه.
[8]  المصدر السابق نفسه، 443.
[9]  المصدر السابق نفسه، 446.
[10]  المصدر السابق نفسه، 450.
[11] المصدر السابق نفسه، 451.
[12]  المصدر السابق نفسه، 455.
[13]  المصدر السابق نفسه، 455-456.
[14]  المصدر السابق نفسه، 457.
[15]  المصدر السابق نفسه، 460-461.
[16]  المصدر السابق نفسه، 464.
[17] المصدر السابق نفسه، 469.
[18] المصدر السابق نفسه، 470-471.
[19]  المصدر السابق نفسه، 479-480.
[20]  المصدر السابق نفسه، 480-481.
[21]  المصدر السابق نفسه، 482-485.
[22] المصدر السابق نفسه، 486.
[23]  نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسين، مراجعة فالح عبد الجبار (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2010).
[24] المصدر السابق نفسه، 496.
[25] المصدر السابق نفسه، 502.
[26] Theda Skocpol, States and Social Revolutions: A Comparative Analysis of France, Russia and China (Cambridge: Cambridge University Press, 1979), p. 31.
[27] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطية وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)،510-511.
[28]  المصدر السابق نفسه، 511.
[29]  المصدر السابق نفسه، 512.
[30]  المصدر السابق نفسه، 514.
[31]  المصدر السابق نفسه، 513.
[32]  المصدر السابق نفسه، 520-521.
[33]  المصدر السابق نفسه، 526.
[34]   المصدر السبق نفسه، 527.
[35]  المصدر السابق نفسه، 530.
[36]  المصدر السابق نفسه، 535.
[37]  المصدر السابق نفسه، 535-536.
[38]  المصدر السابق نفسه، 537.
[39]  المصدر السابق نفسه، 538.
[40]  المصدر السابق نفسه، 548.
[41]  المصدر السابق نفسه، 550.