السياحة والاستعمار ومسيرة الفخر الإسرائيلية

2020-10-10 00:00:00

السياحة والاستعمار ومسيرة الفخر الإسرائيلية
Jean-Michel Basquiat - Untitled - 1982 - Acrylic and oilstick on linen - 193 x 239 cm

تنجح إسرائيل من خلال سياسات الغسيل الوردي في جذب عشرات آلاف السياح الأجانب المثليين/ الكويريين سنويًا الذين يأتون للمشاركة في مسيرة الفخر في مدينة تل أبيب. أصبحت مسيرة الفخر الإسرائيليّة هدفًا تستغله الحكومات والمؤسسات الإسرائيليّة ضمن سياسات الغسيل الوردي، الذي يتقاطع مع سياسات المثليّة المعياريّة والوطنيّة في الغرب، وهو أمر يندرج ضمن ظاهرة عالمية حيث ترتبط فيها السياحة بمرحلة ما بعد الاستعمار،

أصبحت دولة إسرائيل خلال العقد الأخير، وجهة سياحيّة عالميّة بارزة فيما بات يُعرف بالسياحة المثليّة/الكويريّة، حيث يزورها سنويًا عشرات آلاف السياح المثليين/ات ومزدوجي/ات الميول والعابرين/ات جنسيًا، وذلك في شهر حزيران من كل عام خلال مسيرة الفخر السنويّة في مدينة تل أبيب. حصل هذا التضخم الكبير في هذه السياحة جرّاء سياسات الغسيل الوردي الإسرائيليّة التي التقت فيها مصالح صناعة السياحة الإسرائيليّة الساعية للتّربح المادّي، مع أهداف الحكومات الإسرائيليّة السياسيّة الساعية إلى تغيير صورة إسرائيل -خصوصًا في الغرب- من صورة دولة احتلال أو منطقة حرب إلى صورة دولة عصريّة تصون الحقوق وتوفّر الحريّات.

غالبًا ما تناولت الكتابات والنقاشات حول الغسيل الوردي الإسرائيلي الجانب السياسي بوصفه أداة لتبييض صورة الاحتلال أو خطاب عنف تجاه الفلسطينيين، وقلّما جرى النظر للموضوع من زاوية السياحة وارتباطها بالاستعمار. لم يكن لمسيرة الفخر في تل أبيب الإمكانيّة لاستقطاب هذا الكم من السيّاح سنويًا لولا ارتباطها بظاهرة عالميّة وهي العلاقة القائمة بين صناعة السياحة المثليّة/الكويريّة في دول ما بعد الاستعمار، التي كرّست من حالة اللامساواة وأعادت خلق منطق استعماري جديد من خلال ممارسات السيّاح. هذه العلاقة متّصلة بتحولات داخل الرأسماليّة التي غيّرت من مبناها السابق القائم على الغيريّة الجنسيّة لتشمل هويّات جنسيّة كويريّة، الأمر الذي تلاقى مع هيمنة خطاب المثليّة الوطنيّة والمثليّة المعياريّة السائد في الدول الغربيّة مثل أوروبا والولايات المتحدة وكندا حيث يأتي الجمهور الأساسي من السيّاح إلى مسيرة الفخر في تل أبيب، وحيث يُوجه عادة خطاب الغسيل الوردي الساعي لتحقيق أهداف سياسيّة واقتصاديّة لصالح دولة إسرائيل.

السياحة والاستعمار

للتعمق أكثر في مسيرة الفخر الإسرائيليّة ولقراءتها من منظور أوسع، يتوجّب النظر في أمثلة سياحيّة من حول العالم في دول ما بعد الاستعمار. تسرد الكاتبة جاميكا كنكيد في كتابها الشهير "مكان صغير"، A Small Place، الذي يدمج بين المذكرّات والأدب، ويتناول وينتقد الاستعمار والدولة التي تنشأ ما بعد الاستعمار في بلدها "أنتغوا"، Antigua، وهي جزيرة صغيرة بين الأمريكيتين، تسرد عن غضبها الشخصي من الرجل الأبيض السائح الذي ما زالت تراه وتتعامل معه كمستعمر. 

يعكس هذا النص ومن على لسان كنكيد؛ بشاعة الاستعمار ومنطقه، فجزيرة "أنتغوا" كانت مُستعمرة بريطانيّة سابقًا ومحطة استراحة للسفن التي تجلب العبيد من أفريقيا إلى الولايات المتحدة. تتحدث كنكيد عن الرجل الأبيض الأمريكي/ الأوروبي الذي يأتي للجزيرة في مرحلة ما بعد الاستعمار كسائح وتقول إن هناك صناعة جديدة للاستعمار وهي السياحة التي لا يُمكن فصلها عن الاستعمار الأصلي. ففي الوقت الذي أتى فيه المستعمر في السابق باحثًا عن السكّر، يأتي اليوم باحثًا عن الشمس والبحر من خلال الرحلات السياحيّة. فبالنسبة لها السياحة اليوم وجه حديث لتاريخ استعماري، وتعتبر أن السائح وريثٌ لهذا التاريخ، لأنه لو لم يكن وريثاً لم يكن ليستطيعَ أن يكون سائحاً، وكون السائح يأتي بنفسيّة وتوجه أنه يريد يُطوّر البلد ويقوم بالمساهمة في تحضّره بكونه يصرف أمواله في هذه الجزيرة من خلال السياحة، فهو يستخدم نفس المنطق لمقولات الاستعمار القديم التي تقول إن الاستعمار جاء لتحسين ظروف البلد ومن أجل تحضّره.

ما تتحدث عنه كنكيد نراه ماثلًا في أمثلة أخرى حول العالم وليست حالة منفردة، ففي جزيرة جمهوريّة موريشيوس Mauritius الواقعة في المحيط الهندي والتي شهدت فترات استعمار هولنديّة وفرنسيّة ثم بريطانيّة، تجري فيها صناعة سياحيّة قائمة على إعادة صياغة المتخيّلات الاستعماريّة لجذب السيّاح. هذا ما تُناقشه الباحثة أوما كوثاري، Uma Kothari، من خلال فكرة تسخير المخيّلة الاستعماريّة لأجندة سياحيّة، من خلال دراسة أجرتها في الفنادق الفخمة في الجزيرة، المُصممة بأسلوب يُثير فكرة مزارع السكّر الاستعماريّة والتي تُعيد إنتاج الحضور الاستعماري في أيّامنا. تستهدف هذه الفنادق الطبقة الوسطى من دول الغرب الغنيّة لتوفّر رغبتهم بالترف والجو الاستوائي الدافئ و"الغريب"، Exotics. يتوفّر في هذه الفنادق القائمة على الشواطئ كل الخدمات الترفيهيّة من مسابح وملاعب ومطاعم وملاهي وحانات وانترنت وقنوات فضائيّة عالميّة، تعزِل النزلاء في الفنادق عن "العالم الخارجي".

وغالبًا ما يُنظر للسياحة الجماهيريّة على أنها تعبير عن الحداثة، فحالة تشكّل السياحة الشاطئيّة في البحر المتوسط في دول المغرب العربي ارتبطت بعوامل جيوسياسيّة فرضت تعبيرات ثقافيّة ومعماريّة من الحداثة غير مناسبة للسياقات المحليّة. ارتبطت عملية تطوير الشواطئ السياحيّة على سبيل المثال ضمن معايير غربيّة استوجبت فيها هذه العمليات، استبدال الخصائص والمفاهيم المحليّة للمكان. لم يجر تطوير السياحة في بلدان المتوسط بناءً على تاريخ ومفهوم السياحة في سياقه المحلي وبشكل لا يُناسبه، حتى أنه لم تجر عملية تطوير لأشكال السياحة المحليّة وتم التخلي عنها بحسب ما يقوله الباحث وليد حزبون عن دراسة مقارنة أجراها بين شواطئ تونس وإسبانيا. 

صناعة السياحة المثليّة حول العالم

يمكن معاينة العلاقة بين السياحة والاستعمار من خلال ظاهرة السياحة الجنسيّة المثليّة/الكويريّة، وهو ما تحدثت عنه الباحثة جسيكا ألكسندر، Jacqui Alexander، التي تناولت موضوع سياحة الرجل المثلي الأبيض، ويُقصد تحديدًا الأمريكي-الأوروبي من الطبقة الوسطى أو الغنيّة المتعلّم/المثقّف، إلى دول خارج المستعمرة الأم والتي كانت مُستعمرة سابقًا. تُفكك ألكسندر طبيعة هذه السياحة، التي يأتي فيها الرجل الأبيض عادة من خلال باخرة خاصّة للمثليين التي تجوب البحار وتقف في بعض المحطّات ببعض الدول بحثًا عن إقامة علاقات جنسيّة مع سكّان محليين حيث تُخلق تجاههم رغبة جنسيّة مختلفة في كونهم "مختلفين". وتشبّه هذه العمليّة بالاستعمار القديم الذي كان يأتي فيه الرجل الأبيض بحثًا عن أرض ومواد خام وعبيد والأهم من كل ذلك أسواق جديدة، خدمة لطبيعة النظام الرأسمالي القائم. تقوم بهذا التشبيه بناءً على كون طبيعة النظام الرأسماليّ الذي يبحث دومًا عن أسواق جديدة، الأمر الذي يدفع هذا النظام لاحتواء هويات جندريّة جديدة وخلق سوق لها، وهذه السياحة تأتي في هذا الإطار، ومن هنا لم يعد الرجل الأبيض مغايراً جنسيًا، بل أيضًا مثلي الجنس لديه فائض مالي يذهب للاسترخاء والراحة في عطلة. هذا الرأسمال المثلي والقدرة الشرائيّة من خلال رحلات السياحة وخلق رغبة وشهوة جنسيّة جديدة أسس لخارطة جنسانيّة، من خلال تصنيف الدول والمناطق الآمنة والجيدة لهذه السياحة، وتلك السيّئة وغير الآمنة. هذه الخارطة الجنسانيّة ليست إلا خارطة استعماريّة جديدة، يتم فيها تقسيم العالم حسب رغبات الرجل الأبيض وهو نفس المنطق الاستعماري القديم الذي كان يقوم بـ"استكشاف" العالم وتصنيفه من أجل مصالحه الرأسماليّة. 

كذلك تُناقش أليسيا سيمبسون، Alycia Simpson، آثار السياحة الكويريّة العالميّة، تحديدًا عندما يدخل المثلي الغربي الأبيض من الطبقة الوسطى من الولايات المتحدة إلى دولة كالبرازيل، وتسعى لإيجاد التأثير الذي تركه المثليون من الولايات المتحدة على الذكورة في مدينة ريو ديجانيرو، من خلال استحضار النظريّة الكويريّة الإمبرياليّة، Queer Imperialism، حيث يُصبح السائح مُستَعمِرًا والبرازيلي المحلّي مُستَعمَرًا. تبحث سيمبسون كرنفال ريو ديجانيرو حالة للدراسة حيث تُجرى عبر الصناعة السياحيّة من خلال الصور واللغة والإعلانات عمليّة بناء إثارة جنسيّة تجاه الذكور البرازيليين وإعادة إنتاج المُثل الغربيّة المُهيمنة. شكّل مهرجان ريو ديجانيرو تكريسًا لهياكل السلطة القائمة من خلال تبني نمط معين من الذكورة يجري استهلاكه عبر الصناعة السياحيّة الرأسماليّة النيوليبراليّة وخلق شهوانيّة جنسيّة نحو البرازيليين. 

كما أشار مارك باديللا، Mark Padilla، في كتابه "صناعة المتعة في الكاريبي"، Caribbean Pleasure Industry، الذي يتضمن بحثًا في مواضيع محليّة لها علاقة في سياسة النوع الاجتماعي والجنسانيّة في التاريخ الاستعماري وفي الازدهار الحالي للصناعة السياحية في جزر الكاريبي. يأخذ جمهورية الدومنيكيان كحالة دراسة للاقتصاد السياحي القائم على خلق حاجات كالراحة والمتعة والهروب من الحياة اليوميّة في الدول الغنيّة، من خلال استكشاف تفاوضات الهويّة، الانتماء والشهوة نحو نفس الجنس، وممارسات للطبقة العاملة والفقيرة من الرجال الدومنيكيان العاملون في الجنس كمهنة من خلال ممارسته مع رجال ونساء أجانب ومحليين من دون أن يعرفوا أنفسهم كمثليين أو ثنائيو الجنس. وتتعدد الأمثلة من دول أخرى لا مجال لذكرها جميعًا هنا.

المثلية المعياريّة والمثليّة الوطنيّة

ترتبط عمليّات صناعة السياحة المثليّة/الكويريّة بمفهومين مركزيّين في هذا السياق، وهما المثليّة المعياريّة، Homonormativity، والمثليّة الوطنيّة، Homonationalism، وهما مفهومان يعكسان نتاج نقاشات ودراسات نقديّة جرت داخل الحركات النسويّة والكويريّة. طفت داخل الحركة المثليّة تباينات واختلافات فكريّة جذريّة، تجلّت بالأساس بين التوجه العام لحركة المثليين التي تعمل على المساواة المواطنيّة منها قضايا تشريع الزواج والسماح للمثليين بالخدمة في الجيش كقضايا مركزيّة، وبين التيار النقدي لهذا التوجه المُهيمن على الحركة المثليّة من قبل الحركة اللانمطيّة المتأثرّة بالتنظير النسوي الكويري التي تؤمن بالتقاطعيّة وترفض تجزئة القمع وتُقيم روابط بين الطبقة والعرق والنوع الاجتماعي.

نشأ مفهوم المثليّة المعياريّة، Homonormativity، والذي يعني السياسة الجنسانيّة لليبراليّة الجديدة ويتمثل بالمعايير التي يجب أن يتبناها المثليّون في نضالهم أو مواقفهم، ووصفته ليزا داغان، Lisa Duggan، بالعقليّة المثليّة التي "لا تخوض المواجهة مع الافتراضات والمؤسسات المعياريّة على أساس معياريّة الغيريّة الجنسيّة، Heteronormativity، إنما تتمسك بها وتحافظ عليها". تأتي  مداخلة داغان حول فرض معياريّة مثليّة ضمن الإطار الشامل للمجتمع المعياري القائم على الغيريّة الجنسيّة، لتربط البُعد الطبقي في النقاش. فالمثليّة المعياريّة تعكس الطرق التي تحتاجها الطبقة الوسطى المثليّة من أجل احتلال مكانة آمنة داخل النظام النيوليبرالي. 

ويعتبر مصطلح الغيريّة الجنسيّة المعياريّة، Heteronormativity، اشتقاقًا من نقد الحركات المثليّة سابقًا لهيمنة توجه جنساني واحد على المجتمع في مؤسساته وتعاملاته على مدار عقود وهو التوجّه الغيري، فإن مصطلح المعياريّة المثليّة، Homonormativity، هو نقد من داخل الحركة الكويريّة على هيمنة نفس منطق الغيريّة المعياريّة على منطق الحركة المثليّة الغربيّة. أول من استعمل مصطلح الغيريّة المعياريّة كان مايكل وارنر، Michael Warner، من خلال الأعمال الأولى للنظريّة الكويريّة، إذ ناقش وارنر كيف أن المعياريّة الغيريّة تُعزز المؤسسات والسياسات الاجتماعيّة التي تفترض أن طبيعة الناس غيرييّة جنسيًا، وأن الجنس والنوع الاجتماعي هي أمور ثنائيّة ذكر/ أنثى، رجل/امرأة، واعتبر أن هذه الثقافة تعزز المناخ الذي يُميّز ضد مجتمع المثليين في قضايا مثل الزواج والعمل والضرائب. 

أما المثليّة الوطنيّة، Homonationalism، الذي استخدمته جاسبير بيورا، Jasbir K. Puar، لوصف العمليّات التي تكون فيها السُلطات وحركة المثليين مُتناسقة في نفس المواقف لتبرير العنصريّة والعداء للأجانب ورهاب الغيريّة الجنسيّة بشكل خاص تجاه المسلمين، حيث تتشكل مواقف سياسيّة تستعمل التنوع الجنسي وحقوق المثليين ضد المهاجرين والتي تتبناها بشكل متزايد الحركات اليمينيّة المتطرّفة والأمريكيين البيض. تُناقش بيورا في كتابها "التجمّعات الإرهابيّة: المثليّة الوطنيّة في الزمن الكويري"، Terrorist Assemblages Homonationalism in Queer Times، الصادر عام 2007، فكرة مركزيّة حول كيفية استغلال واستعمال حقوق المثليين بشكل جزئي وبشكل ووظيفي بطريقة تصب في نهاية المطاف بتعزيز التعصّب وتجاهل رهاب المثليّة ووجود فجوات كبيرة في عدم المساواة داخل المجتمعات الغربيّة عمومًا، وذلك عبر اعتماد حقوق المثليين كمعيار عام للمساواة ومن هذه الحقوق تشريع زواج المثليين، وذلك من أجل تقييم باقي الدول وشعوب العالم حسب هذا المعيار، الذي يتماهى مع مواقف شوفينيّة تجاه تلك الدول والشعوب التي لم تُشرّع زواج المثليين أو تتبنى حزمة الحقوق المكتسبة للمثليين في الغرب، وغالبًا مع تُربط تلك المواقف مع المسلمين. 

وبهذا نجد أن خطاب الغسيل الوردي الإسرائيلي القائم على كون مدينة تل أبيب هي "جنة المثليين" في الشرق الأوسط وفي كون إسرائيل دولة تصون حقوق الأقليّات وغيرها من ادّعاءات، تتقاطع بشكل مباشر مع خطاب المثليّة المعياريّة والمثليّة الوطنيّة، بحيث تصبح المشاركة في مسيرة الفخر في تل أبيب أمر يندرج ضمن معايير المثلية المعياريّة، ويُصبح الفلسطيني هو التهديد و "الإرهابي" بالنسبة لمعايير المثليّة الوطنيّة. 

السياحة والمشروع الاستعماري الإسرائيلي

غالبًا من يسيطر على قطاع السياحة يستطيع أن يسيطر على الصورة المتشكّلة عن المكان والمخيّلة، كون الصورة والمخيّلة في سياق السياحة يمكن اعتبارهما عامل جذب أساسي، إذ تجري تشكيل وإعادة تشكيل الصور عن مكان ما أو منطقة معيّنة ضمن علاقات القوّة في هذا المكان المرتبطة عادة بأيديولوجيا معيّنة. فالسيطرة على القطاع السياحي تعني السيطرة على الجولات السياحيّة ووكالات وشركات السياحة، الكتب السياحيّة والإعلانات.

لم يكن قطاع السياحة في إسرائيل مفصولًا عن طبيعة النظام الاستعماري للدولة الإسرائيليّة التي قامت على أنقاض الفلسطينيين عبر عمليّات التطهير العرقي المنظّمة بهدف احتلال فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود. فمنذ تأسيسها عام 1948، سعت إسرائيل كدولة استيطانيّة لاستغلال السياحة إلى جانب كونها مورد دخل اقتصادي، أداة للترويج للرواية الصهيونيّة. إذ لعبت السياحة أداة مركزيّة في تشكيل الصور والمناطق الجغرافيّة المتخيّلة المتعلّقة بكل من فلسطين وإسرائيل، ونتيجة لذلك، تم مسح الواقع الفلسطيني على نطاق واسع من قطاع السياحة التي تُسيطر عليه إسرائيل في فلسطين التاريخيّة. تلعب السياحة اليوم دورًا هامًا في الحالة الاستعماريّة المستمرة في فلسطين وحاسمة في إثبات نجاحات المؤسسة الصهيونيّة. هذه النجاحات بدأت قبل قيام دولة إسرائيل من خلال منظمات صهيونيّة عملت على خلق منصّات لتحويل الصورة العربيّة الفلسطينيّة لفلسطين إلى صورة يهوديّة، من خلال إنتاج الكتيّبات والخرائط والأدلّة. 

تعتبر السياحة الجماهيريّة في إسرائيل هدفًا اقتصاديًا وسياسيًا وأيدولوجيًا يقوم على ظلم الفلسطينيين وعملية محو وإخفاء للعنف الموجه ضدّهم. إسرائيل قامت بالسيطرة على الصناعة السياحيّة، وأقصت الفلسطينيين عن ذلك من خلال المصادر والمواقع والامكانيّات السياحيّة. كما يخفي البرنامج الإسرائيلي المُعد للسياح في أيّامنا الواقع والسرديّة الفلسطينيّة، ويُمنع زيارة مواقع وبلدات فلسطينيّة إلا لأهداف تخدم البروباغندا في بعض الأحيان.

أدركت إسرائيل الإمكانيّات السياحيّة الكبيرة التي تتمتع بها الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، واتبعت استراتيجيّة مزدوجة لاستغلالها العدواني، واستثمرت بشكل كبير في المشاريع السياحية الإسرائيليّة خارج الخط الأخضر. ومع الأسواق الناشئة في السياحة الرقميّة ومنصّات الحجز عبر الإنترنت، فإن المزيد من الشركات الإسرائيليّة ومتعددة الجنسيات تجني أرباحًا هائلة من السياحة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، مما يعزز من فرصة الاحتفاظ بالسيطرة الإسرائيليّة غير المشروعة للسكان والاقتصاد والأراضي الفلسطينية والسوريّة المحتلّة.

مسيرة الفخر الإسرائيلية

تعتبر مسيرة الفخر الإسرائيليّة السنويّة التي بدأت في تل أبيب وأصبحت تُنظّم لاحقًا في مدن أخرى، مسيرة سنويّة كرنفاليّة تُنظّم مع بداية الصيف من كل عام في شهر حزيران، تشمل العديد من الفعاليّات والأنشطة المرافقة للحدث بما يُعرف بـ "الظهور"، Occurrence، يُشارك في تنظيمها الجمهور ومؤسسات وجمعيّات مختلفة، مثل مؤتمرات صحفيّة ومهرجانات أفلام واحتفالات. وتحظى مسيرة الفخر في السنوات الأخيرة التي بات يُشارك فيها أكثر من 200 ألف شخص، دعمًا كبيرًا من بلديّة تل أبيب ووزارة السياحة الإسرائيليّة. 

في عام 1998 نُظمت أول مسيرة فخر رسميّة ومعترف بها بعد سنوات من عدم الاعتراف الرسمي بها، وذلك بسبب حدثين أديّا إلى ذلك الاعتراف: أولًا فوز المغنيّة الإسرائيليّة الترانسجندر شارون كوهن المعروفة باسم "دانا انترناشينال" بمسابقة "إيروفوزيون" الأوروبيّة، Eurovision،  ممثلة عن دولة إسرائيل، وثانيًا أحداث فيكوستوك، Wigstock، حيث قمعت الشرطة الإسرائيليّة احتفالًا للمثليين/ات في جادة الاستقلال في تل أبيب أحدث ضجّة في الإعلام واعتبر فيه أسلوب الشرطة حينها تعبيرًا عن رهاب المثليّة وكانت نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ مسيرة الفخر الإسرائيليّة ونشاط الحركة المثليّة/ الكويريّة الإسرائيليّة. ومذ حينها بدأت تُنظّم مسيرة فخر رسميّة ومعترف بها في تل أبيب وأصبحت تُعبّر عن أحد أبرز الأحداث المطالبة بالحقوق والمساواة لمجتمع المثليين/ات الإسرائيليين. حتى عام 2005، كانت المسيرة تُنظّم من قبل منظمة المثليين/ات مع ازدياد جماهيري بالمشاركة، وكانت تجمع المنظّمة تبرّعات واشتراكات لتمويل المسيرة من داعميها. لم تُنظّم المسيرة في عام 2006 لأن المنظّمة لم تتمكن من جمع التمويل الكافي للمسيرة. وفي أعقاب ذلك، تقرر أن تقوم بلدية تل أبيب بالمسيرة وقامت بذلك في عامي 2007 و2008 من ضمن ميزانيّة البلديّة المخصصة لـ"ميزانية غير متوقّعة"، ثم وفي عام 2009 أصبح هناك ميزانيّة ثابتة من الميزانيّة العامّة للبلدية تُخصص للمسيرة سنويًا حتى يومنا هذا.

بدأت المسيرة منذ عام 2008 تأخذ منحى أضخم ومنظّم بشكل أكبر، إذ افتتح في ذلك العام أول مركز في إسرائيل تابع لبلديّة تل أبيب يعنى بشؤون مجتمع المثليين/ات ويعمل على دمج هذا المجتمع في المؤسسات المختلفة في تل أبيب. وفي عام 2009 نُظم خلال المسيرة حفلات زواج من نفس الجنس لأول مرّة بشكل علني. في عام 2010 نُظّمت ثلاث مسيرات فخر (بسبب خلافات داخل حركة المثليين/ات) واحدة ضخمة من قبل البلدية بمشاركة عشرات الآلاف. وفي عام 2011 وصل حجم المشاركين في المسيرة قرابة 100 ألف، كما شارك ولأول مرّة ممثلين رسميين عن حركة المثليين/ات المتديّنة في إسرائيل. كما فازت مدينة تل أبيب في هذا العام بالمسابقة العالميّة لموقع، GayCities،  الذي ينشط في النشر عن أفضل المدن حول العالم لمجتمع المثليين/ات متفوقة على مدن مثل مدريد، لندن، تورنتو ونيويورك بتصويت وصل نسبة 43%.

وفي عام 2012، قُدِّر عدد المشاركين بين 100- 200 ألف وبدأت وزارة السياحة الإسرائيليّة تموّل، وشارك في هذا العام لأول مرّة الآلاف من السيّاح الأجانب. في عام 2013 بدأت المسيرة تأخذ صدى عالميًا بشكل أكبر، وبدأ سياسيّون إسرائيليون يشاركون فيها، كما بدأت سفن المتعة من دول أوروبيّة تشارك لأول مرّة جالبة عليها آلاف السيّاح المثليين/ات، وجرى في هذا العام إعلان زواج رجلين فرنسيين في المسيرة. استمر تنظيم المسيرة والنشاطات المرافقة لها في عامي 2014 و2015 مع ازدياد وتطور كبيرين في التنظيم والمشاركة. وفي عام 2014 شارك وفد لأول مرة من مركز المجتمع اليهودي في أمريكا الشماليّة JCC في المسيرة التي أصبحت تُنسق مع ناشطين في الحركة المثليّة الإسرائيليّة لتسويق المسيرة في الولايات المتحدة. 

في عام 2016، قررت وزارة السياحة الإسرائيليّة تخصيص مبلغ 11 مليون شيكل بهدف تشجيع ما يُسمى السياحة الفخورة، Pride Tourism - وهو مصطلح بات مستعملًا بشكل كبير في الخطاب الإعلامي في إسرائيل- من خلال حملات إعلاميّة وعلاقات عامّة في أوروبا ودول أخرى بهدف تسويق دولة إسرائيل كدولة ليبراليّة، ولدعوة مجتمع المثليين/ات لزيارة إسرائيل. بحسب وزير السياحة الإسرائيلي السابق "يريف لافين" فإن الخطّة الاستراتيجيّة المنسّقة مع بلديّة تل أبيب وخبراء مهنيين ستكون طويلة الأمد. ومن إحدى هذه الحملات التي عملت عليها وزارة السياحة، تمثّلت بتجنيد راقص عروض الدراج الإسرائيلي Drag Queen "أريه عوشريه" الذي يعيش في مدينة برلين، من خلال اختياره ممثلًا لدولة إسرائيل في المعرض الدولي للسياحة الذي عُقد في شهر آذار 2016 في برلين.

وفي عام 2016، أعلن عن افتتاح أول فندق فخور، Proud Hotel، في إسرائيل الذي يقع في مدينة تل أبيب باسم NYX الذي سيستضيف فعاليّات متعلّقة بمسيرة الفخر وبالتنسيق مع بلدية تل أبيب مثل استضافة المؤتمر الصحفي الرسمي للمسيرة سيحضره صحافيين من عدة دول حول العالم، بالإضافة إلى ندوات واحتفالات.

تناولت مجلّة "ذا ماركر"، The Marker، الاقتصاديّة التابعة لصحيفة هآرتس، تقريرًا حول المدخولات السياحيّة التي تستفيد منها إسرائيل خلال أسبوع الفخر عام 2017 توقعت فيه أرباحًا بقيمة 100 مليون شيكل (30 مليون دولار تقريبًا) من السائحين الأجانب الذين يأتون خصيصًا لهذا الأسبوع. وأشار التقرير إلى أن السياحة الفخورة في السنوات الأخيرة باتت تُدّر أرباحًا كبيرة وعامل جذب سياحي مما يُنعش الاقتصاد وعمل الفنادق والمطاعم والمقاهي والمحال الترفيهيّة في تل أبيب. وبحسب تقارير بلدية تل أبيب، فإن الكثير من السائحين هم سائحين عائدين أي شاركوا في السابق وعادوا وشاركوا مرّة أخرى. وبحسب البلديّة أيضًا، من المتوقّع أن يصرف كل سائح يوميًا بمعدل 270 دولار مع أن المعدّل العام لصرف السائح في إسرائيل هو 155 دولار. يقول "ينيف فيتسمان" عضو بلدية تل أبيب والذي يشرف على ملف تنظيم المسيرة "إن السائحين المثليين/ات المشاركين في المسيرة يتحوّلون بعد عودتهم إلى بلدانهم إلى سفراء لدولة إسرائيل الليبراليّة المتقدّمة". في عام 2019، أشارت تقديرات صحفية مشاركة ربع مليون شخص في المسيرة. في عام 2020 لم تُنظم المسيرة بسبب جائحة الكورونا واقتصرت على نشاطات صغيرة.

خلاصة

تنجح إسرائيل من خلال سياسات الغسيل الوردي في جذب عشرات آلاف السياح الأجانب المثليين/ الكويريين سنويًا الذين يأتون للمشاركة في مسيرة الفخر في مدينة تل أبيب. أصبحت مسيرة الفخر الإسرائيليّة هدفًا تستغله الحكومات والمؤسسات الإسرائيليّة ضمن سياسات الغسيل الوردي، الذي يتقاطع مع سياسات المثليّة المعياريّة والوطنيّة في الغرب، وهو أمر يندرج ضمن ظاهرة عالمية حيث ترتبط فيها السياحة بمرحلة ما بعد الاستعمار، وفي حالة فلسطين ترتبط بالاستعمار الذي ما زال قائمًا. 

  

مراجع

Alexander, M. J. (2005). Pedagogies of crossing: Meditations on feminism, sexual politics, memory, and the sacred. Durham: Duke University Press. 
Decena, C. U. (2010). Caribbean Pleasure Industry: Tourism, Sexuality, and AIDS in the Dominican Republic by Mark Padilla. American Ethnologist, 37(1), 167-168.
Duggan, Lisa. (2002). The New Homonormativity. In Russ Castronovo and Dana Nelson eds., Materializing Democracy: Toward a Revitalized Cultural Politics. Durham: Duke University Press.
Kincaid, Jamaica (1988). A Small Place. London: Macmillan.
Simpson, Alycia (2013). Flirting with Desire: An Analysis of Masculinity through Rio de Janeiro’s Carnaval as Influenced by Queer Tourism and Imperialism. GWAR 305(02). 
Puar, Jasbir K. (2007). Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times. Durham: Duke University Press.
Warner, M. (Ed.). (1993). Fear of a queer planet: Queer politics and social theory (Vol. 6). Minneapolis: University of Minnesota Press.