فيصل درّاج: هنالك سياسات عربية لتمييع القضية الفلسطينية وكره الفلسطينيين

2020-10-17 00:00:00

فيصل درّاج: هنالك سياسات عربية لتمييع القضية الفلسطينية وكره الفلسطينيين
من موقع مجلة الهدف

إن الضعيف يحاكي القوي، والجاهل يحاكي المتعلم، والانتهازي يحاكي نظامه الانتهازي، والأخلاقي يحاكي الأخلاقي، والذليل وطنيا يحاكي الذليل وطنيا، وشعار الذل هو نوع من التربية اليومية لمحاربة الوعي الفلسطيني والعربي؛ فيما شعار الكرامة الوطنية هو شيء للدفاع عن القيمة الفلسطيني.

في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة العربية تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى وغير مسبوقة، خاصة بعد انطلاق ما عرف بقطار التطبيع العربي مع الكيان الاستعماري الاحتلالي الغاصب لأرض فلسطين، وهرولة بعض الأنظمة العربية للارتماء في حضن العدو الإسرائيلي، في ظل شيوع ما أصطلح على تسميته بـ"ثقافة الهزيمة"، ما أدى إلى تغيير تعريف العدو.

في هذا الوقت، عاد للواجهة سؤال الثقافة وخطابها الوطني، وضرورة تحريكه من حيزه الفكري النخبوي إلى سياقه السلوكي الممارس على الصعيد الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب بالضرورة، العمل على تحرير المصطلحات والمفاهيم وربطهما بما يمكن تسميته بالوعي الفاعل؛ من هنا جاءت ضرورة الحوار مع قامة فكرية وأدبية بحجم المفكر والناقد الفلسطيني المعروف الدكتور فيصل دراج، وهو من لم يتوقف يوماً عن تناول حال الثقافة العربية بشكل عام، والفلسطينية بأهمية خاصة؛ فِعلها وبؤسها من منظورين أساسيين هما الاغتراب والذاكرة. فكان معه هذا الحوار:

دكتور فيصل إن بدأنا معك من فكرة المصطلح ودلالاته والحديث هنا عن "ثقافة الهزيمة".

أعتقد أن الحديث عن ثقافة الهزيمة هو موضوع إعلامي سلطوي أكثر منه معطى عربي حقيقي، طبعا هناك السياق القائم، وهذا السياق القائم يتميز بأمرين: هرولة كثير من الأنظمة العربية إلى الاعتراف بإسرائيل مجانا، ولست أدري مجانا لماذا! الشيء الآخر أن هذا الاندفاع جاء بعد الهزيمة الساحقة للأسف للربيع العربي، بعد أن استطاعت الأنظمة العربية بالإضافة إلى إسرائيل وأميركا وجميع قوى الظلام في العالم على سحق الربيع العربي؛ أصبحت هذه الأنظمة تتصرف بثقة أكبر، بالنفس وبنوع من استضعاف الفلسطينيين ونوع من الوقاحة أيضا، وبالتالي ما يسمى ثقافة الهزيمة أعتقد هي شيء عابر، لأن لها علاقة بالسياق وليس معطى مفتوح، أو معطى شعبي مجتمعي إنما سياق مرتبط بالأنظمة حصريا.

بعكس ما تحدث عنه إدوارد سعيد حول الاستشراق، تحدث محمد عابد الجابري وغيره عن الاستغراب، وآخرون عن الأسرلة، وأنت عن بؤس الثقافة، هل تعتقد أن هذا البؤس الثقافي هو ما ساهم في وصول مصطلح "ثقافة الهزيمة" واستدخاله إلى الوعي العربي؟

أولا أنا أشرت إلى بؤس الثقافة الفلسطينية بمعنى نقدي وطني عندما كنا أقوياء، وكان عندنا قادة كبار، وكنا نخيف الآخرين، تحدثت عن بؤس الثقافة بمعنى الغيرة الوطنية وليس التوصيف السلبي، ما هو قائم حاليا ومنذ سنوات أعتقد هناك تدهور متصاعد للدور النقدي للثقافة العربية جاء عن طريق المال النفطي أولا، ومن خلال التضييق اليومي على المثقف العربي، وجاء أيضا من النزعات الظلامية؛ أدى كل هذا إلى انحسار نسبي للثقافة الوطنية التنويرية المدافعة ضمنا عن الحق الفلسطيني والشعب الفلسطيني، ولذلك أقول إنها ثقافة صنعتها السلطات؛ وعندما نتحدث عن بؤس الثقافة أو سلطة الثقافة أو تعاسة الثقافة، فأنا أشير دائما إلى السلطات السياسية، لأن الشعب العربي لم يتح له حتى الآن أن يتصرف كما يريد، وأن يعبر عن نفسه كما يريد؛ فعندما كان يستطيع أن يعبر عن نفسه نسبيا كما يشاء، جاءنا المفكر العظيم طه حسين، وجاءنا رئيف خوري، وقسطنطين زريق، وغسان كنفاني، أما الآن فنحن محاصرون، وليس من قبل إسرائيل للأسف وهي تحاصرنا باستمرار، ولكن محاصرون من قبل أنظمة بائسة وتعيسة ومعادية للقيم والأخلاق وبالتالي معادية لفلسطين أيضا.

أنت تبرئ المثقف بشكل أو بآخر بهذا المعنى؟

المثقف له دور عندما يكون هناك حراك سياسي شعبي واضح ومترجم عمليا، عندها يكون للمثقف دور، تكبير كلمة المثقف بدون مراجع موضوعية ليس له معنى، المثقف بالنهاية هو إنسان، يصبح فاعلا، عندما يكون هناك قوى اجتماعية فاعلة ويتراجع عندما تتراجع هذه القوى الاجتماعية، أما أن ننظر إلى المثقف كالصنم وكشيء جاهز وكشيء أخلاقي كامل فهذا نوع من السذاجة، المثقف الأكبر بالنسبة لي هو الشعب، الشعب بالمعنى المادي والقومي والثوري، هو المفكر الكبير انطلاقا من ثورة 36-39 بفلسطين وكان فيها الشاعر الكبير نوح إبراهيم، إلى الانتفاضة الفلسطينية العظيمة في 87 ، إلى كفاحنا المستمر في غزة وغير غزة؛ الثقافة هي نمط من الحياة، نمط من السلوك، نمط من الكرامة، نمط من الأخلاق، نمط من الدفاع عن الوطن والحرية والتاريخ، أما اختصارها إلى أفراد فأنا لا أتفق مع ذلك.

محمد عابد الجابري وفي شرح مفصل عن الهوية الثقافة والعولمة، طرح عشر أطروحات، الخامسة منها تحديدا مشيرا إلى أن العولمة شيء والعالمية شيء آخر؛ العالمية تفتح على العالم، مع الاحتفاظ بالاختلاف الثقافي وبالخلاف الإيديولوجي. أما العولمة فهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي؛ السؤال هنا: هل تفسير العرب لمفاهيم العولمة بشكل خاطئ، هو ما أتاح للآخر هذا الاختراق الثقافي، وبالتالي أشاع بيننا ما يمكن تسميته بثقافة الهزيمة؟

العرب لم يفتحوا شيئا يا سيدي، الأنظمة العربية هي مجموعة من المجازات السلطوية الناقصة، التي تدار من الخارج وتلبي مصالح خارجية، ولذلك انتهى الدور الكبير للمثقفين العرب على ما أعتقد عام 1967، والتي هي الهزيمة الأكبر في حياة العرب منذ قرون، ففي عام 1967، تراجع الوعي القومي، وتراجع الوعي الاشتراكي، وتراجع دور المثقفين، وتقدم كل ما هو مدافع عن الظلام، وبالتالي معادٍ للقضية الفلسطينية.

في سياق مواز، العولمة هي ما نعيشه الآن، وبالنهاية هي ثورة تقنية إعلامية، استخدمت من قبل قوى مسيطرة على العالم، وهذه العولمة المتحكمة بالعالم إلى اليوم هي التي جعلت رئيس الولايات المتحدة يعطي القدس لإسرائيل، وهي التي جعلت هذه الأنظمة الكرتونية تسير وراء الولايات المتحدة وإسرائيل، العالمية موجودة منذ دخل العرب إلى إسبانيا، ومنذ ترجموا التراث اليوناني، ومنذ أن كانت الدعوات الإسلامية موجودة في أفريقيا منذ عصر النهضة إلى آخره، وما هو موجود حاليا هو السيطرة أحادية القطب في أكثر أشكالها ظلاما وإظلاما وسوادا.

تحدثت دكتور قبلا عن المثقف الإيماني أو الرسولي، والمثقف النقدي المتمرد، مشيرا إلى نماذج كناجي العلي وغسان كنفاني، منوهاً إلى أن المثقف المنخرط في العمل الحزبي، يرى في السياسة عملاً ثقافياً، وفي الثقافة عملا سياسياً، سؤالي هنا: كيف يستقيم اشتغال المثقف في السياسة، فيما إحدى فنون الأخيرة، هي فن الممكن، ألا ترى أن هذا الطرح يتعارض مع فكرة النقد والتمرد؟

أنا أشير إلى ضرورة وجود كتلة شعبية فاعلة، فعندما أقول الثقافة هي سياسة، والسياسة هي ثقافة، ليس بمعنى شارد وتائه، ولكن مفترضا أن هناك كتلة شعبية فاعلة تقوم بتجسير العلاقة بين الثقافي والسياسي.

استوقفتني جملة مهمة لك تقول فيها: "على فرض أن هناك قوى إسلامية، فهي جزء من هذا المجتمع، ويحق لها أيضاً أن تشارك في الحكم"؛ هذه الجملة تدفعنا باتجاه سؤال مهم أيضا؛ أتعقد أن الغرب فهم هذه المعادلة بشكل عميق وجدي، فاستغل محاولات الأنظمة الاستبدادية التشكك في وجودها، ليدخل من هذه الفجوة باتجاه الدفع بهذه القوى إلى صدارة المشهد، وبالتالي ندخل في اشتباك داخلي يشوش الرؤية ويستبدل الأعداء ويغير من الأولويات، مما يخلقُ تخلفاً جديداً يعيقُ أي تقدم فكري أو سياسي محتمل؟

طبعا، هناك صناعة تزييف الوعي، كأن نقول بأن الفلسطينيين هم الذين يعطلون السلام في الشرق الأوسط، ثم استعمال الدين لأغراض سلطوية؛ أنا أميز ما بين الدين من حيث الإيمان ودعوى إلى الخير والجهاد والكفاح، وما بين الدين السلطوي الذي هو ضد الخير العام ومع كل ما ينصر السلطات الظالمة وبالتالي مع كل ما ينصر كل ما هو استعماري واستبدادي.

وذلك حينما نتحدث عن كلمة الدين، أميز ما بين الأيديولوجيا الدينية التي استعملها الغربي ضد العقل وضد الفلسطينيين وضد القومية، وما بين الدين من حيث هو نوع من الإيمان الخير، وأعتقد أن الدول الغربية عام 1967 حاولت أن تقيم تحالفا وطيدا مستمرا بين الأنظمة والحركات الدينية والظلامية، بهدف ضرب التنوير وضرب العقلانية وضرب القومية وبالتالي إضعاف القضية الفلسطينية.

دكتور فيصل قدمت العديد من الأفكار والمشاريع الثقافية، وكانت لك وقفات مهمة ومرجعية كما هي وقفة "ذاكرة المغلوبين" وأنت من اهتم بخطابين أساسيين، خطاب الذاكرة وخطاب الاغتراب، سؤالي هنا: هل من مسافة متصلة لخطابي الذاكرة والاغتراب، يمكنها أن تكون رافعة لتشكيل وعي ثقافي مقاوم ومشتبك، على الرغم من استمرارية شتات الفلسطيني ما بين الداخل المحتل واللجوء المستمر؟

أشكرك جداً على هذا السؤال؛ كتبت كتابي "ذاكرة المغلوبين" وأنا أهجس فقط بالشعب الفلسطيني، لم يكن في ذهني أي شيء آخر، وإنما فقط الشعب الفلسطيني على أساس من لا ذاكرة له لا تاريخ له؛ يتم توريث التاريخ وتطوير التاريخ انطلاقا من ذاكرة وطنية شعبية تتسع لكثير من المقولات. إلى الآن لا أميل لاستعمال كلمة الاغتراب لأنها كلمة تتجاوز الفلسطينيين بالمعنى الأكاديمي، الاغتراب الاقتصادي والاغتراب الحقوقي والاغتراب اللغوي والاغتراب السياسي، وكلها تطبق على الفلسطينيين وعلى غير الفلسطينيين. واستعملت كلمة المغلوبين كي لا أقول المغتربين، وكي أميز ما بين غربة الفلسطيني، والظلم البشع الواقع عليه واغتراب الإنسان العادي المقموع من المخابرات الخ.. وأعتقد أن غربة الإنسان الفلسطيني وهي غربة نوعية في القرن العشرين والظلم الذي وقع عليه سواء في وعد بلفور، والظلم الذي يقع عليه اليوم ووقع عليه في 48 في المخيمات وغير المخيمات، هذا الظلم خاص بالفلسطينيين، وله نوع من الغضب الفلسطيني والحرمان الفلسطيني والاضطهاد الفلسطيني، وأعتقد هذا التميز الفلسطيني للأسف على مستوى الظلم وغير الظلم، هو الذي ينتج الثقافة كفعل شعبي فلسطيني كما قلت في الـ 87 وفي ثورة 36،  لهذا أقول الثقافة هي الشعب ولا أقول إن الثقافة هي عمل مجموعة من المحترفين الأكاديميين سواء كانوا مع الحق أو ضد الحق، وهناك الكثير من الأكاديميين ضد الحق، ولذا، بالنسبة لي الثقافة الفلسطينية هي الثقافة الشعبية الديموقراطية بشكلها الأكثر ارتقاء عندما تكون مقاتلة، وحتى لا أبدو إيمانياً بشكل مطلق، الثقافة تكون ثقافة بالنسبة للفلسطينيين عندما يلازمها نوع من الإيمانية، عندما أقول أنا مثقف فلسطيني لا يعني أن أنتمي جغرافيا إلى فلسطين أو أحصد القراءة  بالانجليزي أو الفرنسي، ولكن أن يكون عندي إيمانية مطلقة بالحق الفلسطيني، لا يوجد شيء جديد من صفة المطلق إلا الدفاع عن الحق الفلسطيني، وأعتقد أنه ينبغي ترجمة ذلك ثقافيا فإلى الآن ترجمه الفلسطينيون بمقادير مختلفة توزعت على محمود درويش وغسان كنفاني ولكننا نحتاج إلى جهد متتابع كي نترجم هذا الكلام على مستوى النظر والكتابة.

ولكنك ميزت قبلا ما بين المثقف النقدي، وما أسميته بالمثقف الرسولي، بأنه من يشتغل ببداهة الخير؟

كلامك دقيق جدا، وأشكرك مرة أخرى على هذه الانتباهه؛ عندما قلت المثقف الإيماني كان يجب أن أضيف المثقف النقدي، لأن المثقف الإيماني هو أن تقبل الشيء اعتمادا على إيمان مطلق دون أن تقرأ المعطيات المشخصة الموجودة وأن ترتاح إلى كلمة الخير وهذا غالبا لا يفضي إلى شيء، هذا نوع من المنطق الديني البسيط الساذج، لهذا فأنا أقول الآن، الإيمانية وليس الإيماني؛ الإيماني النقدي وأفضل الإيمانية الثقافية الفلسطينية، بمعنى الدفاع المستمر عن الحق الفلسطيني دون النظر إلى السياق وإلى مفهوم النصر وإلى مفهوم الهزيمة، وأن نتعامل معه كحق يجب أن ندافع عنه، هذا يدعى فعل أيماني، وانطلاقا من هذا الفعل الإيماني يجب أن أطور ثقافة نقدية جماعية تليق بهذا الحق الفلسطيني.

اقترحت مصطلحاً جديداً ومهماً ألا وهو ما اسميته بـ "اليأس المقاتل"، حيث اليأس الذي يربك القول، والقتال الذي يعمل على ردع اليائس ويواجه اندفاعه؛ السؤال هنا أتعتقد أننا وصلنا هذه اللحظة، وبدأ الاشتباك، على الرغم من عديد المحاولات التي سعت ولم تصل، حيث مازالت في الطريق، وطريق هذه المنازلات طويل لا شك؟

أعتقد أن اليأس المقاتل، هو ميزة جميع المثقفين الكبار الذين يتميزون بالصدق ويتطلعون إلى انتصار الحقيقة وليس إلى انتصارهم الذاتي وغالبا ما يعيشون أكثر من هزيمة على المستوى الذاتي دون أن يغيروا أفكارهم، ونموذج ذلك طه حسين في الأربعينات والخمسينات والستينات، وأيضا نموذج مهدي عامل اللبناني وأعتقد أن محمود درويش وغسان كنفاني ينتمون إلى هذا النوع من اليأس المقاتل، الذي هو يأس بمعنى يئس مما هو قائم، ويقاتل حتى يستبدله بشيء مختلف عنه كليا سواء على مستوى الممارسة أو مستوى الكتابة والقراءة، وانطلاقا من اليأس المقاتل، وأنا أعتبر نفسي فلسطينياً مقاتلاً ولست يائسا، القتال هنا بلا ضمان، والصمود بلا ضمان، والإيمان بلا ضمان إلا الحقيقة، وعندما أقول سوف أقاتل لأنني سوف أنتصر فأعتقد أن هذه دعوة إلى القتال منقوصة، وعندما أقول أنا مع فلسطين لأنها قضية مقدسة فهذا أيضا كلام منقوص، أنا مع فلسطين بلا ضمان لأنها قضية حق، سواء انتصرت أو لم انتصر، فأنا لا أسأل عن ضمان، والدفاع عن فلسطين هو الدفاع عن الحقيقة والأخلاق والقيم والجماليات، وأعتقد أن الدخول في الدقائق والتفاصيل السياسية الصغيرة عن الوضع الفلسطيني الراهن هو عمليا ثقافة تيئيس ويأس، الانسان المثقف ينظر اليوم إلى ما هو جوهري، وما هو جوهري اليوم هو المؤامرة على الشعب الفلسطيني ولهذا ينبغي أن نكون مع القضية الفلسطينية دون الكثير من الأسئلة النافلة.

هناك الكتاب والباحثون، ومنهم الباحث مؤيد خلف، من يشير إلى أن العقل العربي المعاصر مأخوذ بفعل التدين التقليدي الذي ما زال يمضي بنسخته العنترية الماضوية، هل تعتقد أن هذا الفكر هو ما أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

أولا أنا لا أميل إلى كلمة العقل العربي، هناك الفكر العربي المليء بالنزوعات، أما أن نتكلم عن العقل العربي كمفرد، فهو قول لاهوتي واخترعه محمد عابد الجابري، فالأدق أن نتحدث عن اجتهادات الفكر العربي، ومع أنني أعرف كليا أن التاريخ العربي للأسف كان قائما على تحالف وطيد ما بين الفقهاء والسلطات، فإنني لا أؤمن على الاطلاق أن الدين وبشكله المتخلف هو سبب ما وصلنا إليه الآن، فما وصلنا اليه الآن هو بسبب السلطات المتتابعة، لأنه عندما تضع في التلفزيون العربي 400 ساعة في الأسبوع عن الدين ومشتقات الدين، ولا يتذكر أحد غسان كنفاني فهذا نوع من التجهيل، وعندما يسأل في الجامعة الأميركية في بيروت هل تعرفون طه حسين؟ فيجيب طالب واحد بالمئة، ذلك الاعمى الضرير، وعندما نجد مجموعة من الكاذبين والفساق والسفلة يتحدثون عن الدين كل الأسبوع هذا تأتي به السلطة، هناك أجهزة الدولة التعليمية والأيديولوجية والإعلامية، وإذا رجعنا إلى أجهزة الدولة العربية التعليمية لوجدنا أنها تقوم بتدريس كم من التاريخ ليس بتاريخ، وقصص دينية مفتعلة وفكر ديني مصنوع، وإذا ذهبنا إلى الاعلام الرسمي سوف نجده مكتنزا بكل ما هو متدين، وإذا ذهبنا إلى السلطات الرسمية فإنها تعاقب بكل العقاب خاصة بالستينات والسبعينات كل ما له علاقة بالتنوير والعقلانية والمادية، وتفسح المجال كل المجال للقوى الدينية المتخلفة، كما فعل السادات، وبالتالي صناعة الدين المتخلف هو صناعة سلطوية، وهو أمر لا يحتاج إلى كثير من التبرير، فالسلطات تصنع الإنسان الذليل، وتصنع الدين الكاذب، وتصنع تزييف الوعي، وهي التي تستضعف بعد ذلك الفلسطينيين؛ لم يتم استضعاف الفلسطينيين اليوم إلا بعد ثلاثين عاما من تدجين واضطهاد وضرب الشعب العربي. ولذلك عندما تقول أنا أدافع عن الحق لأنه حق والدفاع عن فلسطين هو شكل من الحق؛ معنى ذلك أنا لا أهتم بانتصار ولا أهتم بهزيمة وإنما أهتم بالدفاع عن فلسطين.

‏هناك أيضا الكاتب والباحث الفلسطيني رائد دحبور يقول: "يبقى تعريف مُصطلحُ التطبيع عائماً في ظلال فوضى ثقافية - أو ما يُمكننا التعبير عنه بتشوُّهِ النموذج المعرفي الذي يتشكل ويستند إلى جملة من العناصر والمكونات التي تشكل الهوية الثقافية للأمم والمجتمعات، وهذا النموذج هو أحد تجليات نظرية المعرفة" السؤال هنا: أتعتقد أن الإشكال في علاقة الوعي العربي بالمعرفة؟  

أعتقد أن الإشكال في ميزان القوى الأيديولوجي المعرفي، فعندما نتحدث عن كلمة التطبيع، فنحن عمليا نتحدث عن كلمة توحي أو تشير إلى إمكانية الاعتراف بإسرائيل، وبالتالي هي كلمة تميع الخطاب الوطني الفلسطيني، وأنا ضد هذه الكلمة كليا؛ فإذا كان الإسرائيلي قد سرق كل الأرض الفلسطينية وما يزال يسرقنا حتى اليوم فما هي ضرورة الكلام عن التطبيع، هذه ثقافة الهزيمة، أنا ضد هذه الكلمة كليا، مثلما أنا ضد مصطلح العقل العربي، فالعرب ليسوا واحداً، والفكر العربي ليس واحدا، وفلسطين ليست واحدة بالنسبة للجميع، وبالتالي كلمة التطبيع هي من الكلمات التي ساهمت في تمييع الخطاب الوطني المدافع عن فلسطين.

ولذلك أقول: إن الضعيف يحاكي القوي، والجاهل يحاكي المتعلم، والانتهازي يحاكي نظامه الانتهازي، والأخلاقي يحاكي الأخلاقي، والذليل وطنيا يحاكي الذليل وطنيا، وشعار الذل هو نوع من التربية اليومية لمحاربة الوعي الفلسطيني والعربي؛ فيما شعار الكرامة الوطنية هو شيء للدفاع عن القيمة الفلسطيني.

ولذلك نجد شخصاً كما فوكوياما تحدث بلغة فوقية، لربما تكون فوقية الغالب على الرغم من تراجعه فيما بعد؟

في البداية كان محقا، قوة الكلام من قوة المتكلم، فعندما أتحدث الآن كفلسطيني، أعتقد أن جزءاً من الناس ينظرون إلى كلامنا بنوع من الاستهتار، لأننا في الحالة الأضعف نظريا؛ ولذلك أقول إن قوة الكلام من قوة المتكلم، وعندما تحدث فوكوياما كان قد تكلم انطلاقا من سقوط التجربة الاشتراكية وانتصار السوق الرأسمالية، نعم تراجع ولكن ذلك لا يغير من علاقة القوى وميزان القوى بالكلام واستخدام الكلمات.

هذا يأخذنا تماما إلى فكرة الحديث عن تأثير البعدين الأيديولوجي والسياسي في صياغة الفرضيات؟

أنا أفضل استعمال كلمة الوعي الزائف لأن كلمة أيديولوجيا هي كلمة عامة، الأيديولوجيا الإسلامية، الأيديولوجيا الرأسمالية إلى آخره؛ فيما يتعلق بنا كفلسطينيين أفضّل كلمة الوعي الزائف حتى نميز بين الوعي الزائف والوعي الصحيح، والنقطة الأخرى أنه لا وجود سياسي لأيديولوجيا بدون سياسات أيديولوجية؛ تحدثنا قبل قليل عن ثقافة اليأس، وهي صناعة وهناك سياسات أيديولوجية عربية لتمييع القضية الفلسطينية، لكره الفلسطينيين، لإسقاط معنى القومية، لإسقاط معنى التاريخ العربي، لإسقاط صورة إسرائيل الاستعمارية؛ هذه السياسات يتم الاشتغال عليها علميا ولها خبراء ولها مجلات وإذاعات وتلفزيونات.

عندما يتحدث البعض ومنهم الكاتب الإسلامي "مصطفى إنشاصي" عن علاقة وثيقة بين الوعي والتاريخ، والوعي والثقافة؛ على اعتبار أن الوعي عادة ما يسبق التاريخ؛ هذا الوعي بقيمة الحرية هو الذي يصنع ثقافة الانتصار، وفقدانه يصنع ثقافة العبودية، أتوافق على هذه الفكرة؟

أوافق، ولكن بمعنى الوعي الفاعل، عندما يستطيع الوعي أن يحرك البشر ويحولهم إلى قوة فاعلة تغير ولا تتغير، عندها نقول علاقة الوعي بالتاريخ، إن استطاع الفلسطينيون، وهنا سوف أتكلم بشكل إيماني، أننا مستقبلا سوف نغير هذه الثقافة بشيء آخر، عندها نقيم علاقة بين الوعي والتاريخ، الوعي الفاعل وإنتاج كتلة اجتماعية فاعلة تحارب الزيف وتحارب التكسب والتبعية إلى آخره.

الكاتب والروائي المقدسي الكبير الأستاذ محمود شقير وفي مداخلة له تحدث عن الأسباب التي لم تمكن المتنورين العرب والفلسطينيين من خلق التأثير المطلوب في مجتمعاتهم، وجعلت هذه المجتمعات عرضة لهزائم متلاحقة، ولتراجعات مشينة حد التحالف مع العدو الصهيوني، علمًا بأنه أستبعد تلازم الهزيمة مع صفات ثابتة في العقل العربي؛ فالعقل العربي ليس مقولة متعالية على الواقع؛ وهو نتاج للواقع يتأثر به ويؤثر فيه، وهنا من باب تبادل الأفكار والآراء يطرح عليك سؤال: كيف يمكن استعادة الدور التنويري الفاعل للمثقف العربي؟ 

أولا تحياتي للصديق القديم محمود شقير؛ لنتفق من البداية أنني لست ممن يقدسون ويمجدون ويتعاملون بشكل لاهوتي مع المثقف، المثقف هو انسان مثل بقية البشر، فإن كان له دور حاليا، فهو ليس بمعنى نشر القراءة والكتابة، والحديث عن الأيديولوجيات، إلى آخره، وإنما على المثقف في زمن القراحة أن يدافع عن الجمال، وعلى المثقف في زمن التزوير أن يدافع عن الحقيقة، وعلى المثقف في زمن سقوط الأخلاق أن يدافع عن الأخلاق؛ فالثقافة في النهاية هي ممارسة أخلاقية لخدمة البشر وليست كلمات وكتب ونظريات... إلخ، الثقافية هي القيم والمثقف هو المدافع عن القيم، ولأن الأزمة، أزمة سياسية أيضا، والوضع اليوم هو وضع جليدي وصقيعي ويقتل الروح، أنا أدعو إلى قراءة الماضي من جديد، لنتطلع ماذا كانت تعني النقابات في الخمسينات، وماذا كان يعني المثقف في الخمسينات وطه حسين في الستينات، وماذا كان يعني لنا ناجي العلي في السبعينات؛ أعتقد أن التاريخ ليس هو الماضي فقط، وإنما هو جملة الدروس الإيجابية التي تشكلت فيه، وعندما نكون في أزمة يجب أن نسترجع الماضي نقديا ونطلق القيم التي انتصرت فيه.

مرة أخرى ونحن نتحدث مع مفكر مهم يستدرك الأستاذ شقير بالسؤال: كيف يمكن إنهاض كفاح الشعوب العربية ضد التبعية والانبطاح للهيمنة الأميركية والإسرائيلية، ومن أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمواطنة، ومن أجل نصرة القضية الفلسطينية؟!

هناك ما يدعى الطليعة، وهو شيء ممكن وشيء محتمل، وأعتقد أننا نُنهض الإنسان العربي إن استطعنا من خلال الدفاع عن حاجاته اليومية، وليس من خلال الخطاب النظري، الخطاب النظري له فاعلية في الأزمنة المرتاحة والأزمنة شبه الديموقراطية، أما في الأزمنة المخنوقة المحاصرة بالجوع والفقر والمرض فالدفاع عن الإنسان هو الدفاع عن حاجاته اليومية المشخصة وحقه في التعليم والعلم الصحيح وفي الطبابة؛ أعتقد هذا الحقل الاجتماعي ما يحتاجه الإنسان، ومن هنا ذكرت كلمة النقابات، يمكن حاليا تشكل مجموعة كبيرة من الجمعيات، ويمكن أن تقوم بالدور الذي كانت تقوم به النقابات في زمن مضى.

وماذا عنا نحن؛ كيف يمكن للفلسطينيين أن يسدوا الثغرات في وضعهم الداخلي ليصبحوا مركز جذب لنضال الشعوب العربية، وللنضال العالمي المناصر لعدالة القضية الفلسطينية؟!

أن يرمموا النقص الذي سقط على ظهورهم، أنا منذ فترة ما كنت حزين جدا حينما كنت أقرأ عن استئناف المفاوضات بين حماس ومنظمة التحرير وأنها لم تفض إلى شيء، كما لو كان هناك دولتين كبيرتين؛ هذا شيء متعب للروح، ينبغي أن نتوحد، إن كان هناك إحساس وطني صحيح فهو قائم في الوحدة والتضامن والربط بين الحاضر والماضي وفي إحياء الثقافة الفلسطينية ككل.

وماذا نفعل مع حال تشوش الرؤية واستبدال الأعداء وتبدل الأولويات التي ضربت المنطقة العربية بأكملها؟

هناك تبدل للأولويات انطلاقا من الوهم وليس انطلاقا من المعرفة، والهشاشة الفكرية والأخلاقية، فأنا في النهاية عربي وأدافع عن العروبة وعن القيم العربية ولست بحاجة إلى أي طرف خارجي أن يدافع عني، سواء جاء من إيران أو جاء من اميركا، والتجربة التاريخية علمتنا أن الولايات المتحدة وضعت ثقلها التاريخي منذ سبعة عقود في خدمة الدولة الصهيونية، فكيف أثق بها، حتى تدافع عني في وجه المشروع الصهيوني، فنحن نعيش على الوهم والشخصيات الفقيرة والأنظمة الضعيفة.

أستاذ العلوم السياسية الدكتور نايف جرّاد يسأل: ألا ترى بأن الهزيمة السياسية قد أثّرت على الواقع الموضوعي وبالتالي على البناء الفوقي، وأن هذا ما يبرر الحديث عن وجود هزيمة لدى قطاع المثقفين الذين تراجع دورهم التنويري والنقدي وبات جزء كبير منهم أدوات لسلطات الاستبداد وللحاكمية العالمية؟

طبعا، جزء من الهزيمة، أنا قلت أن هزيمة 67 هي الهزيمة الاعمق تأثيرا منذ أربعة عقود، وهي هزيمة ولود، لا تزال تتناسل حتى اليوم، ووجه تناسلها هو ما نرى الآن في الخليج؛ لولا هزيمة 67 التي عصفت بالعالم العربي ككل لما رأينا هذه المظاهر السلبية، أما بالنسبة للمثقف، فأعتقد أن الذين يقولون إن المثقف أصبح مرتزقا أو ارتزق، لأنهم لا يريدون أن يقبلوا فكرة أن للمثقف علاقة اجتماعية، مرتبطة بميزان القوى، إن ارتفع إلى الأعلى شارك، وإذا أصبح ضد قوى الخير انسحب. ينبغي عليهم ألا يميزوا ما بين المثقف العضوي والتقليدي، لأنه تمييز قديم، وانما بين المثقف المدافع عن الحقيقة والمثقف المتكسب بالمعرفة.

السؤال هذه المرة من الأسرى المحررين، فالكاتبة الأستاذة عايشة عودة تقول: الهزائم التي لحقت بالأمة العربية هي نتيجة لحالة غياب طويل لحضور فاعل لهذه الأمة، هذا الغياب أدى إلى حالة شديدة من الجمود، أو ربما يشبه التحوصل لدى بعض الكائنات حين تتعرض لظروف قاسية، ولذلك أقول مزيد من الخضات يعطي الأمل بقرب مرحلة النهوض الحقيقي"، السؤال: هل ترى أن الأمل قريب في ظل النظام العربي الراهن؟

الأنظمة نلخصها بكلمة واحدة، أنها أنظمة التبعية، وهي أنظمة حريصة على أن تؤمن مصالح الخارج، مؤمنة أن هذا الخارج سوف يؤمن لها ديمومة سلطوية طويلة، وبالتالي هي ليست أنظمة للداخل وإنما هي أنظمة للخارج، وهذه الأنظمة الكرتونية، أو الخائنة، هي التي تصنع ثقافة الهزيمة وغير الهزيمة، وأنا قلت بأنني لست مع مفهوم الضمان، لأنني لا أحب كلمتي لا التفاؤل ولا التشاؤم فهما بالنسبة لي لا تعنيان شيئا، أنا مع مفهوم الأمل على شرط أن يفهم كفضاء تاريخي مفتوح.

كلمة أخيرة تحب أن تقولها لمن ستوجهها؟

أحب أن أوجهها للأسرى الفلسطينيين الذين هم أكثر شجاعة ونبلا وثقافة مني، وأنا أتعلم منهم باستمرار، فكل تحياتي وتقديري للأسرى الفلسطينيين.