عام على رحيل صالح علماني... المترجم كروائي وسيط

2020-12-03 00:00:00

عام على رحيل صالح علماني... المترجم كروائي وسيط

هكذا أوجد صالح علماني شفرته الخاصة جدًا في الترجمة، عن طريق موازنة "وقع" المكتوب بالإسباني على القارئ بدلًا من البحث عن الترجمة الحرفية.. لا تهم الدقة وإنما ما يهم هو إيجاد معادل للوقع والتأثير الذي تحدثه الكلمة لدى متلقيها.

في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أقدم الشاب صالح علماني ذو الثلاثين عامًا على قرار صعب للغاية، ومزّق مخطوط أول رواية يشرع في كتابتها، لا أحد يعرف عنوان ذلك النص، ولا أعتقد أن هناك كثيرين اهتموا بمعرفة عنوان الرواية، لأن صالح علماني نفسه أيقن في تلك السنة أنه ليس روائيًا. لا. وإنما هو مترجم. و"مترجم مهم" كما وصف نفسه عندما قال: «أن تكون مترجمًا مهمًا خير من أن تكون روائيًا سيئًا».

كل القرّاء العرب والمهتمين بالآداب بشكل عام والأدب المكتوب بالإسبانية على وجه الخصوص، حققوا استفادة خيالية من قرار علماني، لأن قراره بالتحول إلى مترجم بعد الصدى الطيب الذي أحرزته ترجمته لـ «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» كان مجرد بداية لتدفق هادر من الترجمات التي قدّمها علماني للمكتبة العربية، ترجمات تتراوح بين 106 نصًا و 110، وعن ذلك قال علماني في أحد حواراته: «جهزت قائمة بإجمالي ترجماتي فوجدت أنها 106، غير أنني قمت بترجمة 4 كتب أخرى بعد ذلك»، وهذه الترجمات تتنوع بين روايات وقصص قصيرة وسير ذاتية ومذكرات وشعر وأدب الطفل والنصوص المفتوحة وأدب الرحلة والدراسات النقدية. وهي أرقام تناسب المجهودات المؤسسية أكثر من كونها نتاج جهود رجل واحد جعل من نفسه مؤسسة كاملة.

لكن كيف استطاع صالح علماني أن يصل إلى هذا المعدل المدهش؟ هذا الرقم الذي لا يطاوله أي مترجم آخر؟ الإجابة بسيطة، لقد أجبر علماني نفسه على العمل لـ 10 ساعات يوميًا، 10 ساعات من الترجمة، فعل ذلك منذ أول كتاب ترجمه في نهاية السبعينات، وحتى يوم رحيله في مثل اليوم، 3 ديسمبر 2019.. أي على مدار 40 عامًا من العمل الدؤوب.

السفير الذوّاق

سفارة... نعم، صالح علماني لعب دور السفارة، قنصل الأدب الإسباني لدى العرب. خاصة وأن علماني كان قنّاصًا بمعنى الكلمة، لم يكن ينشغل بمدى شهرة الكاتب الذي يريد أن يترجم أعماله، قدر انشغاله بجودة تلك الأعمال، وعليه فقد ترجم الكثير من أعمال الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والبيروفي ماريو برغاس يوسا قبيل حصول الأول على جائزة نوبل مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وقبل فوز يوسا بها في 2010.

وفي ظني، ربما سيحظى لاتينيون آخرون ممن كان علماني أول من قدّمهم للقار العربي، بجوائز قيمة وسيصل بعضهم لنوبل في الآداب، مثل التشيليان أنطونيو سكارميتا، وإيزابيل الليندي.

المترجم شريك الكاتب

يحتاج هذا الأمر إلى مترجم محترف، وأنا لست كذلك، لكنني سأجتهد لأجيب عن هذا السؤال وقد أستعين بتحليلات قدمها مترجمون محترفون: ما السر الذي يجعل ترجمات علماني أكثر حيوية وجمالًا من ترجمات عربية أخرى لنفس النصوص الإسبانية؟ ربما يرجع ذلك إلى روح الروائي التي امتلكها علماني، والتي أيقن في شبابه أنها ليست أفضل مكوّناته، ومن ثم اختار أن يضع جهده كله في الترجمة. صالح علماني لم يكن يتدخل في النص أبدًا، لكنه في المقابل لم يكن ينقل الترجمة كلمة بكلمة، لأن السياقات تختلف بين اللغات أولًا، وبين العائلات اللغوية ثانيًا. وصالح علماني أدرك ذلك. أدرك أن «الكولونيل لا يجد من يكاتبه» لها وقع مختلف تمامًا عن «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، فالجملة الأولى في اللغة العربية تبدو تقريرية وإخبارية بحسم وإيجاز، بينما في الجملة الثانية تحضر روح شعرية خفيفة، تستطيع بشكل ولو بسيط أن تحاكي اللمسة السحرية الموجودة في الأصل الإسباني El coronel no tiene quién le escriba . 

وقد فسر علماني سر تلك البصمة التي تبرز في غالبية ترجماته قائلًا: «بالفعل أثري كمترجم موجود في الأعمال التي ترجمتها، فالمترجم شريك للكاتب في العمل».

الروائي والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف، أورد في مقال له بعنوان: «الترجمة كمعركة: إستراتيجية صالح علماني» تحليلًا لتلك البصمة التي كانت حاضرة في ترجمات علماني، يقول عبد اللطيف: «في مقابل نص عربي مهندم وأنيق، كان علماني يضحّي أحيانًا بأسلوبية النص الأصلي، بانحيازه للمعنى وليس لدقّة العبارة، بالالتفات لإيقاع العبارة في اللغة العربية دون إيقاعها في النّص الأصلي. بالطبع لم يكن ذلك حادًا ولا صارمًا في كل الأحوال، خاصةً لو تحدّثنا عن مشروع ترجمة امتد أربعين عاماً متواصلة، وتنوّع بين عشرات المؤلفين على اختلاف أساليبهم من صعوبة لسهولة. لكن يمكن ملاحظة ذلك في تقارب الإيقاع اللغوي عند إيسابيل الليندي وماركيز ويوسا، في النص العربي، رغم اختلاف كل منهم عن الآخر في الإسبانية».

هكذا أوجد صالح علماني شفرته الخاصة جدًا في الترجمة، عن طريق موازنة "وقع" المكتوب بالإسباني على القارئ بدلًا من البحث عن الترجمة الحرفية.. لا تهم الدقة وإنما ما يهم هو إيجاد معادل للوقع والتأثير الذي تحدثه الكلمة لدى متلقيها.