الفلسطيني يعلن انتصاره، أخيرًا (عودة إلى الصّوفي الأخير صالح علماني)

2020-12-03 01:00:00

الفلسطيني يعلن انتصاره، أخيرًا (عودة إلى الصّوفي الأخير صالح علماني)

لم يكن علماني "ثروة وطنيّة يجب تأميمها" كما يقول درويش، بل كانَ الطفل القادم من منافي الوطن، إلى منافي وطنٍ آخر، واستقرّ في منافي وطنٍ بديل اسمه الأدب. وفي هذا الوطن البديل، ظلّ الصوفيّ اللاجىء، الذي سكنَ خياله، منفصلا عن الواقع لحظة عمله، تتملّكه العصبية والقلق، ترافقه القهوة والسجائر أيامًا متواصلة، دون حاجة ملحّة للطعام. 

"وقوفُ الماء يُفسده"... الإمام الشافعي

 

لا تُدرَكُ عملية الخلق والإبداع، إلا بربطها بالحركة والسّفر، والإقامة الدائمة في نعمة الغربة والاغتراب. فسُكونُ الجسد واستقراره في أرضٍ واحدة يبقيه وحيدًا على حاله ويُفسِد ذهن العالِم إن طلب العلم، مُبطلاً الإحساس بالزّمن وبدوران الأرضِ في أهلها. قدرُ الإنسان الرحلة، والإقامة الجبريّة في السّفر، في الحركة، في ضجيج المتاهات والارتحالات التي يدخلها حتى في خياله، إذا استحالت رحلة الجسد إلى أصقاع الأرض. ولا عجبَ أن شدّدت العرب على السّفر والرحلة والاغتراب، الذي فيه يتجدد المرءُ، كما يقول أبو تمام، وعلى فراق السهم عن قوسه ليصيب السّهم كما يقول الإمام الشافعي. ولعلّ السّمة الكبرى التي تميّز بها المتصوّفة، هي سفرهم الدائم وغرقهم في الاغتراب من أجل الوصول. وكلما أوغل المرء في الاغتراب، تعددت مسالك الوصول.

بهذا المعنى، وجدَ المتصوّفة انتماءَهم، وبهذا المعنى أيضًا وجدَ المترجمُ ضالّته خارج حدود الأوطان، خارج فلسطين، وسوريا، خارج مخيّم اللاجئين، وخارجَ مسمّيات المكان، ليصيرَ صالح علماني، المترجِم الأكثر شهرةً، الأكثر نتاجًا، والأكثرَ تقديرًا في عالم الترجمة عموما، وفي عالم نقل أدب أمريكا اللاتينية إلى العربيّة خاصةً. علماني، مترجمًا، هو النّموذج الأكثر وضوحًا لمفهوم الصوفيّ المغترب، حتى داخل مشروعه الترجميّ الذي انتمى إليه، مهاجرًا إليهِ، مقيمًا فيه، ثمّ ناقلاً يقفُ على خطّ التّماس الرفيع بين عالمَين. ما يربو على مائة كتاب مترجم من أدب أمريكا اللاتينيّة:  ماركيز، يوسا، غاليانو، الليندي، ساراماغو، سكارميتا، أستورياس، بوكاشيو، بورخيس وغيرهم، ولا عجبَ أن يتنقّل علماني بين كتّاب أمريكا اللاتينيّة، دون أن تقتصرَ تجربته على أديبٍ دون آخر، وفي هذا الانتقال، حقّق انجاز التعدد والهجرات من ذات إلى أخرى ومن مشروع إلى آخر، فكلّ منهم ترك بصمته ولغته وعالمه ومناخاته على قرائه، ليأتي العلماني مهاجرًا إلى هذه العوالم مستوطنًا فيها ثمّ ناقلا لها كما لو كانت عالمًا واحدًا كبيرًا يسبحُ فيه المترجم وحده حتّى لتخالها كلّها تعودُ إلى صوتٍ واحد روى كلّ هذا، صوت انشطر إلى أًصوات (أنوات) صغيرة حضرت داخل هويّته، ولسان تبلبل في الألسنة الأخرى، وهو بهذا كانَ يترجمُ بذاته، بلَحمه، ليصنعَ الآخرَ مرّتين، مرّةً في تغريبه عن أصله، ومرةً في منحه لسانًا آخر وحياةً أخرى في أرض أخرى.

أهيَ ألفةُ الغريب مع النصّ؟ أم غربة المهاجر فيها ما أضفى عليها بالعربيّة سحرًا خاصًا، أم هو انتقاء المفردات في سطور الترجمة ما حسمَ أمرَ مناخها؟ أم أنّ الغربات المتعددة في طبقات نفسيّة المترجم، هي ما يشدّنا إلى غوايةٍ بقراءتها. 

الهجرة والنزوح والاغتراب، منها ما جاءَ قسرًا  في سيرة علماني وقبل مجيئه الرسمي الى العالَم: من قرية علما شمال شرق صفد إلى بلدة ترشيحا ومن ترشيحا الفلسطينية إلى مخيّم العائدين في سوريا لاجئًا، ومنها ما ارتبطَ بخيار الإقامة في البلاد الغريبة، في لهجاتها، وفي آدابها المجهولة ليموت أيضًا فيها، كلّها تنتِجُ طبقات ملوّنة وتأويليّة لمفهوم الشتات الفلسطينيّ، إذ لا يقتصر الشتات هنا على البعد الجغرافيّ عن المكان، بقَدر ما هو انسلاخ "اللحم" عن "عظمه"، أو انفصال الروح عن أصلها. لعل الإقامة داخل المجهولِ كانت شكلا من أشكال الاغتراب الاختياريّ عند المترجم الفلسطينيّ، وهو الاغتراب أو حتى المنفى طوعًا في قلب الكلمات وسحرها، احتلال ناعمٌ أليفٌ يعوّض عن غربةِ الجغرافيا المضاعفة- الهجرة داخل النصوص والنزوح إلى فضائها والاغتراب في لهجاتها، كلها عوالم موازية لعوالم حقيقيّة عاشها الترجمان الفلسطيني السوري.

يؤكّد علماني عبر مشروعه هذا، عبر لغته الموحّدة، عبر صوته الذي تأكّد حضوره بتعريب الأدب العريض الغائب، يؤكّد انتصار الفلسطينيّ على منفاه، وعلى تجدده في اغترابه. الحركة، الارتحال، الرحيل، النزوح، الإقامة في الجغرافيات المغايرة، في أصوات الآخرين، هي قدر الترجمان، وقدر المبدع الفلسطينيّ الذي له حصّة مضاعفة فيها، كما لو أنها المهمّة الواجب عليه تنفيذها: أن يتواشجَ مع الآخرين ويخلق نفسه منها وفيها وعبرها، ومنها وفيها وعبرها تتجدد هذه الهوية وينتصرُ فيها على لجوئه، خيالاً. 

كانَ صالح علماني، لمَن يتابعُ رصف الجمل وأداء الترجمة وانتقاء المفردة وفكّ عقد النصوص، وتجاوز معضلات المعاجم في تحديد المعنى، يخلقُ ويكتبُ رواياتٍ جديدة، من أماكن مجهولة، ويضفي عليها سحر صوتٍ جديد، وهو بهذا خلطَ سحر الواقع في منبعه إلى سحر اللغة في مصبّها. وفي هذا المزيج، كانَ وسيطًا خلقَ نصًا جديدًا أقامَ في برزخٍ انتفى فيه الأصل عن أصله وتحاور مع الآخر في علاقة مفتوحة لا نهايةَ لها، وهو ما يجعل هذه الترجمات والأعمال التي قدّمها لنا، أعمالاً خالدة متجددة في برزخها، فيها شرارة التعدد وسحر الديمومة في اللغة التي ينتقيها لماركيز ويوسا وغاليانو وغيرهم، حيث ثمّة بناءٌ لغوي على بناء آخر، بناءٌ يوحّد لهجات الأدب اللاتينيّ في قالب العربيّة، موسّعًا حدود السؤال حول الترجمة بصفتها درجة ثانية من التأليف، وإقامة بديلة في الحيّز الأنيق لجرح اللسان.

قد تكون هذه الإقامة في المساحة الحديّة الفاصلة بين عالمين، فرصةً لنسألَ عن الفلسطينيّ المتعدّد، المنتشر، اللانهائي، الذي حوّل الكلام-الأدب-الكتابة- أصوات الآخرين، إلى وطنٍ مكتمل المعالم، له معماريّة عاموديّة اللغة أفقيّة المعنى. على الرّغم من هويّته الفلسطينيّة التي دأب على تأكيدها، إلاّ أنّ علماني عاشَ الهويات البعيدة، واجترحَ الهويّة الفلسطينيّة المغتربة المظللة بعُرش الآخرين وأقامَ بها أبدًا. قدر الفلسطينيّ اللجوء المنافي، وهي المنافي التي ينتصرُ فيها لهويّته ويعيدُ تعريف الوطن- المكان، فالوطن الحقيقيّ هو المجاز الذي يقطنه المبدع، إنه المكان الحقيقيّ متعدد المنافي خارج حدود المكان الماديّ. وهو الانتصار الدافىء على المكان ومعضلاته. 

"عشتُ لاجئًا طيلةَ عمري، ولا أريد أن أموت لاجئًا في تراب الغرباء هذا، أرجوكم أعيدوا جسدي إلى سوريا، لا تدفنوني بعيدًا عن أرضها". هكذا يودع علماني أهله وهو يموت في تلك الأرض المجهولة التي عرّف العرب بأدبها. بقيَ فيها الصّوفي الغريب، اللاجىء الذي جمعهم في ساحة منزله وهو الذي أدركَ أنه اللاجىء أبدًا في منازل الآخرين. هذا الذي مرّ تاريخًا في النزوح واللجوء من فلسطين إلى سوريا ومن سوريا -حيث وُلِد- إلى إسبانيا -حيث فارق الحياة- وفي كلّ مرحلة كانت نكبات النزوح من مسار إلى آخر حاضرة حضور الشمس.

بمعزل عن أيّ موقف سياسيّ له، كان علماني فلسطيني الأصل، سوريّ المولد، إسبانيّ الثقافة، لاجئ الروح، صوفيّ النّهج. لا أحد يمكنه أن ينكر عليه هوياته الحزينة السعيدة، تلك الهويات التي جعلت منه الواحد المتعدد، وذلك الذي قدّم فيه صاحب "حفلة التيس" شهادته في المترجم الراحل الذي بفضله صار كتاب أمريكا اللاتينيين أسماء معروفة في الشرق وأدبهم  يُقرأ هناك. 

لم يكن علماني "ثروة وطنيّة يجب تأميمها" كما يقول درويش، بل كانَ الطفل القادم من منافي الوطن، إلى منافي وطنٍ آخر، واستقرّ في منافي وطنٍ بديل اسمه الأدب. وفي هذا الوطن البديل، ظلّ الصوفيّ اللاجىء، الذي سكنَ خياله، منفصلا عن الواقع لحظة عمله، تتملّكه العصبية والقلق، ترافقه القهوة والسجائر أيامًا متواصلة، دون حاجة ملحّة للطعام. 

من فردوسٍ مفقود تبدأ لحظة الإبداع، لحظة الوعي القاتل، وتنطلق رحلة أوديسيّة بحثًا عن فردوس آخر، يختلطُ فيها لسان المبدع بألسنة الآخرين، حيواتهم، أفكارهم، لهجاتهم، يتبدّد ويوزّع لحمه في الجهات المختلفة، يعيشُ عنف الترجمة وقسوتها، أبعد من حكاية بابل، أبعد من حكاية أوديسيوس، أقرب من حكاية الفلسطينيّ الذي لا ينتصر على  واقعه إلا بحركة لا تتوقف، بتوسيع أفق الشتات والولوج عميقا في تيه اللجوء ليعودَ في نهاية المطاف من رحلة العناء، إلى وطن الخيال وابتكار أوطان بديلة داخل سحر الكلمات.