أبو العلاء: سجونٌ، حصونٌ، غصونٌ، وسحائب

2020-12-11 14:00:00

أبو العلاء: سجونٌ، حصونٌ، غصونٌ، وسحائب
.decapitated statue in Ma`arrat al-Nu`man

مات المعري، ولم يترك خلفه تلامذة: لا يوجد مدرسة تتبع المعري. على العكس، انهار الشعر العربي بعده، وتحول بالتدريج إلى مجموعة مملة من البديع والتشابيه المكررة والمواضيع الهامشية تماماً. 

غدوتُ مريض العقل والدين فالقني
لتسمعَ أنباءَ الأمور الصحائح

فلا تأكلنْ ما أخرج الماء ظالماً
ولا تبغِ قوتاً من غريض الذبائح

ولا بيض أُمّاتٍ، أرادت صريحه
لأطفالها، دون الغواني الصرائح

ولا تفجعنّ الطيرَ، وهي غوافل،
بما وضعتْ، فالظلم شرّ القبائح

ودع ضرب النحل، الذي بكرت له،
كواسبَ من أزهار نبتٍ فوائح

لا أعرف نباتيين في تراثنا، باستثناء شيخ المعرة وصادق هدايت فقط. في الحالتين، الرفق بالحيوان كان بعيداً عن كل إيمان ديني، ومترابطاً مع عقلانية دنيوية عميقة. كتب الرجلان في الحيوان بعض أجمل أعمالهما وأكثرها تأثيراً في القلب. 

الامتناع عن تناول اللحوم ومنتجات الحيوان أثار سخط العامة والخاصة على أبي العلاء. لسبب ما، رأى الناس في ذلك خروجاً عن الدين، وتشبهاً بالهنود: كانوا يعرفون جيداً أن هذه العادة منتشرة في الشرق، وكانوا يلومون المعري، الذي لم يذكر الهند يوماً إلا بسوء كي يسخر من معتقداتها، كما سخر من معتقدات اليهود والنصارى والمعتزلة والأشاعرة والمتصوفة والعلماء والفلاسفة والنحويين والسنة والشيعة والعلويين والقرامطة وغيرهم، كانوا يلومونه على ما رأوه تشبهاً بمُلة الكفر. 

على العموم، يرتاب علماء السنّة بكل غريب دخيل مبتدع: ارتابوا بالتصوف ونسبوه إلى تأثيرات هندية ومسيحية، وارتابوا بالمتكلمين والفلاسفة واتهموهم باتباع الإغريق، وارتابوا بالشيعة واتهموهم بالتشبه بالفرس وعاداتهم وأديانهم، وارتابوا بامتناع المعري عن اللحوم. أعاد المستشرقون فحص كل هذه التأثيرات، ولم يخرجوا بنتائج حاسمة. لماذا، يسأل المرء نفسه، اهتمّ المستشرقون وعلماء السنة بالتأثيرات؟ هل هناك أية إضافة حقيقية لفهمنا الحلاج أو المعري أو السهروردي بالقول إنهم تأثروا بديانات وثقافات أخرى؟ ألسنا كلنا، في النهاية، أبناء ثقافات متشابكة، لا يخلو أي عنصر فيها من تأثير خارجي؟ 

دافع أبو العلاء عن نفسه ببساطة ووضوح: ألم الحيوان عند الذبح يمكن تجنبه. والله تعالى لم يأمر بالامتناع عن اللحم، ولكنه لم يأمر بأكل اللحم أيضاً. 

لم يقتنع الناس، ولكنه تركوا حكيم المعرة وشأنه، ساخرين منه، متوجسين من شذوذه، متهيبين من صدقه وعلمه وأمانته، معجبين بلغته وشعره، مأخوذين ببساطته، مسحورين بما احتوته كتبه من نثر لا سابق له في العربية، شكلاً ومضموناً. 

تنضح اللزوميات بشكّ يشمل كل ما اتفق العصر على التسليم به فلسفياً. ولكن المعري لم يكن شكاكاً، بالمعنى المعرفي / الإبستمولوجي: لم يعتقد بأن المعرفة مستحيلة تماماً على طريقة الشكاكين اليونان. كما لم يكن شكاكاً بالمعنى الأخلاقي: كان يعرف الخير والشر بوضوح شديد. ولم يكن ملحداً: الفصول والغايات، كتابه العجيب المُضجر قليلاً، تسابيح مخلصة لتمجيد الله تعالى. ولكنه شكّك في الأديان كلها، وبأصل الوجود وبمصيره، وبالجنة والنار. كل هذا الشك جعل المعري متفرّداً، معذّباً بجهل لا حدود له. 

يشرح المعري موقفه:

سألتموني فأعيتني إجابَتُكم
من ادّعى أنه دارٍ فقد كذبا

بقي على هامش التيار العام للشعر العربي: أطلقوا عليه لقب شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، للتخلص من الإحراج الذي يمثله شعره وطريقته، وهو لقب سخيف، يدل على جهل بالاثنين: بالشعر وبالفلسفة. في الحقيقة، كان المعري شاعراً، فقط لا غير. كان شاعراً يفقه الفلسفة بعمق، كما كان بورخيس، على سبيل المثال. حاول المعري أن يثوّر الشعر كله من جذوره: في مقدمتي سقط الزند واللزوميات، يصرّح بأن شعره لا يشبه في شيء أشعار العرب تقريباً، ويشير إلى أن من استخدم الشعر قبله صادقاً بدون أكاذيب ومبالغات، ولكنه فشل: أمية بن أبي الصلت.

رفض المعري، إذن، كلياً "الأغراض الشعرية". رفض، بشكل قاطع، أن يقترف سخافات المدح والهجاء. لم يقف على الأطلال يوماً، ولم يقرب الغزل قط، كما يبدو أنه لم يقرب النساء أبداً، ولا حتى قبلة بريئة. (هل مارس العادة السرية، أم امتنع عنها كالمتبتّل إمانويل كنط؟) 

أعاد كتابة الشعر العربي، ليملأه بمرح مسلّ أحياناً، وبقصص عن الحيوانات، وبتشابيه خارجة من الدهشة -أكثر سحراً حتى من بديع أبي تمام. نجح نجاحاً ساحقاً فيما فشل فيه أمية بن أبي الصلت وصالح عبد القدوس وأبي العتاهية وغيرهم، الذين قدّموا الحكمة في ثوب شعري: على العكس، أبو العلاء يكتب الشعر أولاً، ويترك الحكمة تتسرب منه كما يتسرب الفرح من أغان شعبية. فاللزوميات مدرسة كاملة مكتملة، عيبها الرئيس هوسها بالمقاربات والمقارنات اللغوية، التي أولع بها شيخ المعرة بشكل ممل ومكرّر. 

مات المعري، ولم يترك خلفه تلامذة: لا يوجد مدرسة تتبع المعري. على العكس، انهار الشعر العربي بعده، وتحول بالتدريج إلى مجموعة مملة من البديع والتشابيه المكررة والمواضيع الهامشية تماماً. 

يجب أن أعترف بأنني لم أفهم رسالة الغفران. تبدو الرسالة كتاباً متعدد الأبعاد، مثل يوليسيس، أو الكتب المقدسة. ولكن العبرة ليست في الفهم. قد لا يكون هناك عبرة في الغفران؛ قد يكون الكتاب أقرب إلى الروايات والنصوص المعاصرة في مبناه ومعناه: تأملات متنوعة، متناثرة، متوترة، مازحة، مرحة، عابثة، عن الحياة والموت والتاريخ والمعنى، والسياسة والدين والنساء والصداقة والخير والشر والحيوانات، وكل شيء تقريباً- أي، مشابهاً للزوميات. 

تفرّد المعري في مواقفه الأخلاقية، والفكرية، والشعرية، تفرداَ لم يلق قبولاً ممن اعتاد على التماثل والانصياع. لم يتجاهله عصره، وتواصل معه الشعراء والكتاب والمتكلمون والسياسيون والعسكر. بقي موقعه في التراث العربي متخلخلاً، إلى أن جدّد ذكراه طه حسين، رافعاً إياه إلى المكانة الشعرية والفكرية والميتافيزيقية التي يستحقها، أخيراً. 

قراءات أخرى حديثة فشلت تماماً في فهم المعري، كقراءات هادي العلوي ونجيب سرور. الأول حوّل المعري إلى مصلح اجتماعي، ولم يفهم شكوكه المتيافيزيقية ولا إنجازه الشعري الساحر؛ والثاني حوّله إلى متآمر باطني اشتراكي حاذق، أي إلى رجل خيالي لا يشبه المعري في شيء. أغرتهما انتقادات المعري لكل أشكال السلطة والدين المنظّم فتصوّراه كماركسي ثوري في القرن العشرين. كلا الرجلين قرأ في المعري نفسه وآماله، متجاهلاً المعري الحقيقي، وهو أمر يتكرر كثيراً في الأدب والفكر العربي الحديث.

تفرّد المعري، فخاصمه الناس وخاصمهم. اشتُهر المعري -وهدايت أيضاً- بتشاؤم كئيب سوداوي ضارب في أعماقهما؛ ونظرا إلى كل البشر نظرة سوداوية محتقِرة، أدت بالأول إلى عزل نفسه وبالثاني إلى الانتحار المبكر. وقد اعتاد المعري على أن يأكل وحده في نفق مظلم تحت البيت، كي لا يضحك عليه الناس عندما يوسخ نفسه دون أن ينتبه: أعمى وحيداً لا يشارك البشر طعامهم أبداً.

يقول المعري في اللزوميات:

إِذا عُدَّتِ الأَوطانُ في كُلِّ بَلدَةٍ
لِقَومٍ سُجوناً، فَالقُبورُ حُصونُ

وَما كانَ هَذا العَيشُ إِلّا إِذالَةً
فَعَلَّ تُراباً بِالحِمامِ يَصونُ

فَكُن بَعضَ أَشجارٍ تَقَضَّت أُصولُها
وَلَم يَبقَ في الدُنيا لَهُنَّ غُصونُ!

على أن كراهية البشر والدينا ترافقا مع رأفة ورحمة لا مثيل لهما، رأفة شملت الحيوانات كلها. هذا التلازم بين الاحتقار والكراهية والرحمة والمحبة، قد يكون متكرراً في التاريخ. ربما، نستطيع أن نلمحه عند دوستويفسكي، وعند شاعر الهايكو إيسا. 

يعطف المعري على كل الناس، من كل الأديان والأجناس، وعلى النساء اللواتي شهّر بهنّ على الدوام وخاف منهنّ، وعلى الشيوخ والاطفال. 

في أحد أشهر أبيات الشعر العربي، يناقض المعري كل وحدته وعزلته وحقده على البشر، قائلاً برقّة أبويّة جيّاشة:

ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً
لما أحببتُ بالخلد انفرادا 

فلا هطلتْ علي ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظم البلادا 

تفرّد المعري، فلم يغفر له الناس، ولم يغفر له التاريخ أيضاً.

بعد سنوات قليلة من وفاة الشاعر الذي سخر من كل الحروب، اجتاحت جحافل من البرابرة الهمج الغربيين معرة النعمان، تحت راية الصليب، كي يطهّروا الارض المقدسة من المسلمين، ليحرقوا بعض أهم كتب المعري، كما أحرقوا المدينة وأهلها ومساجدها ومكتباتها.

اختفت كتب المعري تلك إلى الأبد، في نيران لا تبقي ولا تذر.