ماهر الشريف: التزام المثقف السياسي يكون بحفظ استقلاله المعرفي وروحه النقدية

2020-12-14 14:00:00

ماهر الشريف: التزام المثقف السياسي يكون بحفظ استقلاله المعرفي وروحه النقدية

وبعد النكبة، لعب عدد من المثقفين الفلسطينيين دوراً بارزاً في تشكيل الحركات والأحزاب السياسية التي راحت، من منطلقات مختلفة، ترنو إلى فلسطين، ثم في تشكيل "حركة فتح" ومنظمات المقاومة الفلسطينية الأخرى، واستشهد عدد منهم بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، مثل غسان كنفاني وكمال ناصر وماجد أبو شرار وغيرهم.

في حوارنا هذا مع المثقف اليساري والمؤرخ والباحث الفلسطيني الدكتور ماهر الشريف، نتوقف وإياه عند كتابه «المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)» الصادر حديثاً عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، والذي ينطلق فيه من افتراض أن فلسطين عرفت مشروعاً فكرياً حداثياً، حمله مثقفون فلسطينيون، تأثروا بأفكار رواد النهضة العربية، واحتكوا بالثقافات الأوروبية الحديثة، ووضعوا لأنفسهم هدفاً رئيسياً هو نقل مجتمعهم من التقليد إلى الحداثة، كي يتمكن من كسب صراع "تنازع البقاء" الذي فرض عليه منذ مطالع القرن العشرين.

هنا نص الحوار مع صاحب «البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1993-1908»، لمعرفة المزيد من الأفكار والأطروحات التي قدمها لنا في كتابه الجديد. 

بداية، اسمح لنا دكتور ماهر أن نقف وإياكم عند كتابكم الأخير «المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)». ماذا تحدثنا عنه؟ وفي أي أجواء كتبته؟

في الواقع، لم يكن البحث في حقل الفكر العربي في تصديه لإشكالية النهضة والحداثة، جديداً عليّ؛ فأنا شرعت في الاهتمام بهذا الموضوع منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، عندما عكفت على دراسة نتاجات المفكرين في العصر الذي أطلق عليه ألبرت حوراني في كتابه الشهير اسم عصر النهضة أو العصر الليبرالي، وهي الدراسة التي تكللت سنة 2000 بصدور كتابي: «رهانات النهضة في الفكر العربي». 

وفي العقد الأول من هذه الألفية الثالثة، تابعت الاهتمام بهذا الموضوع، وانكببت على دراسة أفكار رواد الإصلاح الديني، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من فكر النهضة، فنظمت من خلال عملي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق، وبالتعاون مع زميل وزميلة، ندوتين فكريتين، في سنتَي 2002 و2005، في مناسبة مرور مئة عام على رحيل المصلح الحلبي الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، ومرور مئة عام على رحيل المصلح المصري الإمام محمد عبده، صدرت أوراقهما في كتابين باللغتين العربية والفرنسية عن منشورات المعهد نفسه.

وعلى الرغم من انشغالي بمتابعة جهدي البحثي الرئيسي في حقل التاريخ السياسي الفلسطيني، فإن اهتمامي بدراسة إشكالية النهضة والحداثة في الفكر العربي لم يفتر، بل استمر وتجسد في عدد من الدراسات، ومن أبرزها: «رواد الحداثة المجتمعية في بلاد الشام»، و«مفاهيم الحداثة في فكر رواد النهضة العربية»؛ و«مضامين مفهوم المواطنة في فكر رواد النهضة العربية»؛ و«تحرر المرأة في خطاب عصر النهضة». 

وقد شكّلت هذه الدراسات علامات أضاءت لي طريق إنجاز هذا البحث، الذي استندت في إعداده إلى مصادر أولية ثلاثة رئيسية، هي الدوريات، من صحف ومجلات، التي راحت تصدر منذ الإنقلاب العثماني في سنة 1908 وطوال عهد الانتداب البريطاني، مثل "الكرمل"، و"النفائس"، و"مرآة الشرق"، و"فلسطين"، و"الجامعة الإسلامية"، و"الدفاع"، و"الغد"، و"الاتحاد"؛ واليوميات والمذكرات التي خلفها لنا، عن تلك الفترة، عدد من المثقفين الفلسطينيين، مثل خليل السكاكيني، وواصف جوهرية، وعمر الصالح البرغوثي، وأكرم زعيتر ومحمد عزة دروزة؛ ومؤلفات عدد من مثقفي تلك الفترة، مثل مؤلفات إسعاف النشاشيبي، ومحمد روحي الخالدي، وأحمد سامح الخالدي، وخليل طوطح، وقدري حافظ طوقان ونجاتي صدقي. كما رجعت إلى بعض المصادر التي أضاءت لي واقع التعليم، والثقافة، والأدب والترجمة في فلسطين من جوانبه المختلفة في تلك الفترة، وكذلك إلى عدد من كتب الأعلام والسيرة، وبعض الكتب التي عالجت، في السنوات الأخيرة، إشكالية النهضة والحداثة في فلسطين. 

من خلال بحثكم ودراستكم المعمقة أسألكم، ما هي رهانات الحداثة التي واجهها المثقفون الفلسطينيون في المرحلة التاريخية التي يغطيها الكتاب؟

توقفت في كتابي عند أربعة رهانات رئيسية واجهها المثقفون الفلسطينيون في المرحلة التي درستها: الأول هو رهان الثقافة والمجتمع، الذي انطوى على موقف المثقف الحديث والمعاني التي حمّلها لمفهوم الحداثة، ورسالته وتصوّره لدوره في المجتمع، ورصده أسباب تأخر مجتمعه، وسبل تقدمه ونقله إلى الحداثة، ودور الصحافة بوصفها وسيلة تعبير هذا المثقف الرئيسية عن أفكاره الحديثة وترويجها؛ والثاني هو رهان تنازع البقاء -وهو مفهوم كان نجيب نصار، صاحب "الكرمل"، أول من لجأ إلى استخدامه على الأرجح، وعنى به نجاح الشعب الفلسطيني في توفير شروط بقائه على أرضه وكسب المعركة التي فرضها عليه الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية عقب الحرب العالمية الأولى؛ والثالث هو رهان الهوية الذي انطوى على المعاني التي حمّلها المثقف الفلسطيني لمفاهيم الوطن والوطنية والوحدة الوطنية والعروبة، ومقاربته الظاهرة الدينية، وتصديه لمحاولات توظيف الدين في زرع بذور التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وفضحه دور الاستعمار في ذلك، وتأكيده على العلمانية، بوصفها أساس الوحدة الوطنية؛ والرابع هو رهان بلوغ الحداثة والسبل التي اقترحها المثقف الفلسطيني لذلك، وخصوصاً التعليم والتربية الحديثين بوصفهما أهم وسيلتين لولوج الحداثة، وتنظيم الشعب وتعبئة طاقاته وموارده البشرية والاقتصادية، والحفاظ على الأرض وتعظيم شأن العمل المنتج.

ما هي قراءتكم لمقاربة المفكر القومي قسطنطين زريق للعوامل التي أفضت إلى نكبة العام 1948؟ وهل فعلاً افتقدت فلسطين مشروعاً مجتمعياً حداثياً، أم أنها عرفت مثل هذا المشروع؟

كان المفكر القومي قسطنطين زريق رائد المنهج النقدي في دراسة النكبة وأسبابها، وذلك في كتابه: «معنى النكبة» الذي أصدره في آب/ أغسطس 1948. فهو قدّر أن النكبة الفلسطينية هي، في نهاية المطاف، تفوّق نظام حديث على نظام تقليدي، معتبراً أن النظام القائم على المدنية الحديثة لا يُغلب إلا بنظام أكثر حداثة منه، ودعا العرب، كي ينجحوا في مواجهة الخطر الصهيوني وكل الأخطار الأجنبية، إلى إحداث انقلاب حقيقي في تفكيرهم ونظم معيشتهم، وإقامة كيان قومي عربي متحد. 

هذه الأفكار التي طرحها قسطنطين زريق، غداة نكبة فلسطين مباشرة، كانت في ذهني عندما فكرت بإعداد هذا الكتاب عن المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة. فأنا، ومن منطلق اعتقادي بسلامة مقاربة هذا المفكر القومي للعوامل التي أفضت إلى النكبة، أردت أن أعرف ما إذا كانت فلسطين قد افتقدت فعلاً مشروعاً مجتمعياً حداثياً، أم أنها عرفت مثل هذا المشروع. وأظهر البحث الذي قمت به أن فلسطين لم تفتقد، قبل نكبتها، مشروعاً حداثياً واضح الملامح، بل عرفت هذا المشروع الذي حمله وروّج له مثقفون حديثون، لكنه لم يوضع موضع التطبيق، لأسباب موضوعية، تتعلق باختلال موازين القوى الكبير بين الشعب الفلسطيني، من جهة، وقوى الاستعمار والصهيونية التي واجهها، من جهة أخرى، ولأسباب ذاتية تتعلق ببنى المجتمع الفلسطيني، التي حافظت على طابعها التقليدي، وبالطبيعة الاجتماعية للقيادة التي هيمنت على الحركة الوطنية الفلسطينية.

إذا كانت فلسطين قد عرفت في مطالع القرن العشرين مشروعاً فكرياً حداثياً، حمله مثقفون فلسطينيون، تأثروا بأفكار رواد النهضة العربية، واحتكوا بالثقافات الأوروبية الحديثة، سؤالي: أين ذهبت جهود هؤلاء المتنوّرين ومن تلاهم من نخب فكرية وثقافية في نقل مجتمعهم من التقليد إلى الحداثة، خلال المئة والعشرين سنة الماضية؟

لا يكفي وجود مشروع حداثي على مستوى الفكر كي يتحقق هذا الانتقال من نمط حضاري تقليدي إلى نمط حضاري حديث، بل لا بدّ من توافر تربة اجتماعية مناسبة تنمو فيها بذور الحداثة التي يروّج لها أصحاب هذا المشروع. وقد ذكرت في ردي عن سؤالك السابق الأسباب الموضوعية والذاتية التي حالت دون توافر هذه التربة. وأضيف إلى هذه الأسباب بعض الشواهد المعبّرة؛ فنجيب نصار، وهو واحد من أصحاب المشروع الحداثي في الفترة التي سبقت النكبة، عبّر، في إحدى المناسبات، عن خيبة أمله لأن تأثير الصحافة، التي كانت تنشر الأفكار الحديثة في المجتمع الفلسطيني، بقي محدوداً جراء استمرار انتشار ظاهرة الأمية في المجتمع الفلسطيني على نطاق واسع، وعزوف الناس عن اقتناء الصحف وقراءتها، بينما عبّر اثنان آخران من أصحاب هذا المشروع، هما خليل السكاكيني وبولس شحادة، عن خيبة الأمل نفسها، جرّاء استمرار غلبة الولاءات الجزئية، الدينية والطائفية، على الولاء الوطني في مجتمعهما.

أما محمود درويش، وهو واحد من أبرز المثقفين الفلسطينين الذين ساروا على نهج أسلافهم الحداثيين، في فترة ما بعد النكبة، فهو رد، في حوار أجراه معه الكاتب اللبناني عبده وازن، عن سؤال الحداثة بما معناه أن مأزق الحداثة العربية يتجلى في كونها متحققة اليوم في بعض أشكال التعبير الثقافي، وربما في مراكز الأمن، ولكنها غير متحققة في المجتمع، معتبراً أن الحداثة الثقافية لا يمكن أن تقوم مقام الحداثة الفكرية والاجتماعية، وأن بلوغ هذه الحداثة يستدعي إعادة النظر في التراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد والانفتاح على "الآخر"، كما استغرب درويش حديث بعض المثقفين عن ما بعد الحداثة في مجتمعات عربية لا تزال تعيش في عصر ما قبل الحداثة.

بتقديركم، إلى أي مدى استطاع المثقف الفلسطيني من أيام طوقان والخالدي والنشاشيبي والسكاكيني... وصولاً إلى سعيد وأبو لغد وشرابي... مروراً بكنفاني وحبيبي وزيّاد وتوما... تفكيك المشروع الصهيوني ثقافياً؟

كما هو معروف تدّعي الرواية الصهيونية أن الشعب الفلسطيني لم يوجد قط، وأن "اللاجئين العرب" الذين تركوا "أرض إسرائيل" لم يخلفوا وراءهم أي أثر. بيد أن التراث الذي خلفه لنا مثقفو ما قبل النكبة الفلسطينيون أظهر خطل هذا الادعاء وكذبه، وبيّن أن الشعب العربي الفلسطيني عاش قروناً طويلة فوق أرضه، وأن ثقافة حية وراسخة ولدت من انتماء الإنسان الفلسطيني إلى أرضه الفلسطينية. ويمكن القول إنه بفضل هذا التراث، الذي اغتنى بمساهمات مثقفي ما بعد النكبة، استطاع الشعب الفلسطيني، على الرغم من تداعيات النكبة، أن يحافظ على شخصيته السياسية ويحمي هويته الوطنية، التي تشكّل الرواية التاريخية الفلسطينية أحد أبرز مقوماتها، وهي رواية لم تبدأ، كما يعتقد البعض، من سنة 1967، وإنما بدأت منذ مطلع القرن العشرين مع بدايات الغزوة الصهيونية ومقاومتها. 

كيف بدا دور النخب من مثقفين وكتّاب فلسطينيين خلال الثورات والهبات الشعبية منذ عشرينات القرن الماضي وحتى ثورة الـ 65؟

منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، شارك المثقفون الفلسطينيون فئات شعبهم المختلفة في مقاومة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، وتعرضوا، مثل غيرهم، للسجن والنفي والقتل. فقد اعتقلت السلطات البريطانية خليل بيدس، صاحب "النفائس"، لاشتراكه في مظاهرة القدس سنة 1920 وأودعته سجن عكا، وتعرض أكرم زعيتر، في نيسان/ أبريل 1930، للسجن والمحاكمة بتهمة التحريض على الثورة، كما اعتقل، في شباط/ فبراير 1931، نجاتي صدقي بتهمة الشيوعية واحتجزته السلطات البريطانية في سجونها مدة عامين، وكان عوني عبد الهادي ومحمد عزة دروزة من ضمن الوطنيين الذين اعتقلتهم هذه السلطات في معتقل الصرفند لبضعة أشهر خلال الإضراب العام والثورة الكبرى. بينما كانت ساذج نصّار، مسؤولة الصفحة النسائية في "الكرمل"، أول امرأة فلسطينية تخضع للاعتقال في عهد الانتداب بسبب نشاطها الوطني، إذ اعتقلتها السلطات البريطانية في أواخر سنة 1938 بتهمة إمداد الثوار الفلسطينيين بالأسلحة، ودامت فترة احتجازها في سجن في بيت لحم أحد عشر شهراً. ولم يتعرض أولئك المثقفون للسجن والنفي فحسب، بل قدم بعضهم حياته دفاعاً عن وطنه، كما فعل الشاعر عبد الرحيم محمود الذي استشهد في "معركة الشجرة" في 13 تموز/ يوليو 1948، ولُقّب بـ "الشاعر الشهيد".

وبعد النكبة، لعب عدد من المثقفين الفلسطينيين دوراً بارزاً في تشكيل الحركات والأحزاب السياسية التي راحت، من منطلقات مختلفة، ترنو إلى فلسطين، ثم في تشكيل "حركة فتح" ومنظمات المقاومة الفلسطينية الأخرى، واستشهد عدد منهم بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، مثل غسان كنفاني وكمال ناصر وماجد أبو شرار وغيرهم.

من منظوركم، ما هو مفهوم الثقافة الوطنية الفلسطينية في ظل ما نشهده من عولمة، وهل تمكن الشعراء والأدباء والكتّاب والمثقفون الفلسطينيون من أنسنة قضيتنا عالمياً من خلال الأدب والثقافة؟ وهل تراهم استطاعوا تقديم القضية على الصعيد العالمي بالشكل المطلوب؟ 

لقد احتل عدد من المثقفين الفلسطينيين مكانة عالمية مرموقة منذ سنوات طويلة، وترجمت أعمالهم إلى عشرات اللغات الأجنبية. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، بتنا نلحظ توجهاً واضحاً لدى تعبيرات الثقافة الفلسطينية نحو غزو العالمية.

صحيح أن تيمة المقاومة بقيت تطبع هذه التعبيرات الثقافية، إلا أنها لم تعد تعرّف نفسها فقط من منظار النكبة أو الاحتلال الإسرائيلي، وإنما أيضاً من منظار طابعها الإنساني وانفتاحها على العالم. فراحت السينما الفلسطينية، إنسانية الطابع، تبرز بصفتها فناً حقيقياً يغزو العالمية. إذ حاز، في سنة 1987، فيلم ميشيل خليفي الروائي الأول «عرس الجليل»، الذي يحكي عن سكان قرية فلسطينية في مواجهة الحكم العسكري الإسرائيلي، جوائز دولية عديدة؛ وفي سنة 2013، نجح فيلم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد «عمر»، الذي يحكي معاناة عامل مخبز شاب يعيش تمزقاً بين عشق حبيبته ومقاومة الاحتلال، في الفوز بجائزة النقاد ضمن فعالية "نظرة ما" في مهرجان كان السينمائي العالمي. كما صار المسرح الفلسطيني يتطبع، في السنوات الأخيرة، بطابع إنساني أعمق، ويلجأ أكثر إلى التجريب والمغامرة على المستوى الفني، وخصوصاً بعد أن تجاوز مرحلة الشعارات والتحريض المباشر. ويقاوم الفلسطينيون اليوم عبر أنماط تعبير فنية أخرى، مثل فن الغرافيتي وفن التجهيز، والرقص والموسيقى، بما في ذلك موسيقى "الراب" التي ظهرت على المسرح في مطلع الألفية الثالثة. 

ما الذي تبقى من الأدب المقاوم/ الملتزم اليوم. وما هو مفهومك للالتزام في ظل اتجاه الكاتب الفلسطيني نحو الذات أكثر فأكثر؟

لقد أشرت في ردي عن سؤالك السابق إلى أن تيمة المقاومة بقيت تطبع، عموماً، أشكال التعبير الأدبي والفني الفلسطيني، على الرغم من التطوّر الذي طرأ على هذه الأشكال، إذ نلاحظ منذ فترة توجهاً لدى الأدباء والفنانين الفلسطينيين - مع تمسكهم بتيمة مقاومة الاحتلال - نحو ترك الشعارات للخطابات السياسية، والميل إلى اليومي، والواقعي، وإلى تفاصيل الحياة الإنسانية، أكثر من ميلهم إلى المشاريع والأفكار الكبرى.

أما بخصوص مسألة الالتزام السياسي للمثقف، فأنا شخصياً من الذين يعتقدون بأهمية هذا الالتزام، وأرى أن انكفاء قطاع واسع من المثقفين الفلسطينيين عن السياسة وتعبيراتها كان من أسباب الأزمة التي تواجهها الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم؛ فالمثقفون كانوا دوماً حملة السياسة وتعبيراتها في مجتمعاتنا العربية، والسياسة "فينا" -إن صح القول- في حالتنا الفلسطينية التي تتميّز بخوضنا معركة شاقة لحماية الأرض والهوية. لكن عليّ أن أؤكد، في الوقت نفسه، أن التزام المثقف يجب أن يكون التزاماً بالسياسة بمعناها الواسع، أي بما يمكنّه من أن يبقي مسافة بينه وبين الحدث السياسي ويحفظ له استقلاله المعرفي وروحه النقدية.

كيف تنظرون من موقعكم كمثقف فلسطيني إلى ما يُطرَحُ الآن حول مسألة التطبيعِ العربي مع الكيان الصهيوني؟

عند الحديث عن التطبيع العربي مع إسرائيل، يتوجب علينا التمييز بين مواقف الأنظمة العربية، من جانب، ومواقف الشعوب العربية، من جانب آخر. صحيح أن هناك توجهاً لدى الأنظمة، أو عدد منها، لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن هذا التوجه لا يلقى عموماً تأييداً من الشعوب العربية ولا من المثقفين، العرب وهو ما برز بصورة جلية عقب توقيع اتفاقيتّي السلام بين كل من مصر والأردن، من جهة، وإسرائيل، من جهة ثانية. واليوم، بغض النظر عن تنكر بعض الأنظمة العربية، وخصوصاً في منطقة الخليج، لالتزاماتها القومية إزاء قضية الشعب الفلسطيني ومسارعتها إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فإن استطلاعات الرأي تبيّن أن أغلبية ساحقة بين صفوف الشعوب العربية ما زالت ترى في القضية الفلسطينية قضية مركزية، وتدرك دور الصهيونية وإسرائيل في تكريس تجزئة الوطن العربي، وفي إعاقة تنميته وتقدمه، وتعتقد بأن الصراع بين العرب، وفي مقدمهم الفلسطينيون، وبين الصهيونية، بصفتها حركة كولونيالية استيطانية، هو صراع مستمر، وخصوصاً في ظل تزايد ميل المجتمع الإسرائيلي نحو مواقع اليمين القومي والديني. وهذه المواقف التي تقفها الشعوب العربية تستند في الواقع إلى علاقات تاريخية بينها وبين الشعب الفلسطيني، تعمدت بدماء المناضلين العرب الذين انخرطوا في النضال الوطني الفلسطيني، عبر مراحله المختلفة، وبكد وعرق الفلسطينيين الذين ساهموا في نهضة بعض الدول العربية، وبغنى وتشعب علاقات التفاعل المتبادل القائمة بين سكان المخيمات الفلسطينية في دول اللجوء وبين سكان محيطها العربي. 

سؤال أخير، هل هناك مشروع كتاب قادم؟ ما موضوعه؟ 

أفكر حالياً بكتابين الأول يندرج في حقل تاريخ الفكر السياسي الفلسطيني، ويتناول نشأة وتطور المشروع الوطني الفلسطيني منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وهو مشروع بدأت التفكير فيه عقب مشاركتي في ندوتين عقدتا في العام الماضي وهذا العام عن هذا الموضوع. وكما تعرف، فإن النقاش حول المشروع الوطني الفلسطيني ومآلاته احتدم كثيراً في السنوات الأخيرة، وخصوصاً مع تزايد الشعور بأن المشروع الذي كان في قلبه إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تكون عاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين على أساس قرار 194 الدولي، قد وصل إلى طريق مسدود.

أما الكتاب الثاني الذي أفكر فيه فهو في حقل تاريخ الصحافة الفلسطينية؛ فأنا لاحظت، بعد أن انتهيت من إعداد كتابي عن المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة، الذي استند إلى صحف المرحلة التي درستها بوصفها أحد مصادره الأولية الرئيسية، أن هناك عدداً كبيراً من مقالات الصحف، الصادرة ما بين سنتَي 1908 و1948، تستحق أن تنشر كما هي، بعد تقديمها وإدراجها ضمن سياقاتها التاريخية، في كتاب «مختارات» أو «منتخبات» من الصحافة الفلسطينية.