جحيمنا الذي يحبون

2021-02-01 14:00:00

جحيمنا الذي يحبون
Antonio Povedano, Picaor, década, 2000

والهواء حينَ يلملمُ القصص التي تركناها هُناك، يخجلُ من طبيعته التي لا تُسعفُ جائع، ويغضبُ حينَ يرى أقرباءه يتهافتونَ على مساعدةِ أحدًا منهم حُشرَ في حيّزٍ مطاطي ليحمل عبرَ سطح المتوسط أرواحًا متلاصقة، يساعدونَ الهواء لينجو من حَبسهِ، فيطعموننا للبحر، ويرحلون، كما رَحل الجميع عنّا. 

عليلٌ هذا الهواء، مُثقلٌ بأرواحٍ كثيرة، لكلٍ منها رائحة مختلفة، مميزةٌ ككلمةِ المرورِ على حساباتنا البنكية، تُشكلُ معنىً مفهوماً لصاحبها فقط، وللآخرين، مجردُ كلمة سرٍّ أخرى تافهة. 

قيلَ لنا فيما قيل من تجهيل؛ أننا نتكونُ من روحٍ وجسدٍ ونَفْس، لكنهم لم يحددوا كم لنا منها، وكم تمتدُّ صلاحيةَ الروح إن انتهى الجسد، وكم تستقرُّ النَفْسُ على الأرض حينَ تقررُ الروح أن تعترض فتتوقفُ عن إعطائنا أيَّ اشارةٍ جديدة، لنسيرَ خلفها. 

وهل علينا أن نستسلمَ لكلّ شيء حين يُطلب منا ذلك؟ 

أرواحنا كَقشورِ المَوز تَسوَدُّ مع الأيام، مع ميزةٍ إضافية لم يُنبهنا اليها البائع بأنَ سنةَ واحدة من حياتنا لا تُشكّلُ سوى ثوانٍ قليلة من حياةِ ذلك المَوز. 

تخدعنا الستائر.

وبقدرتها على امتصاص أيامنا وهيَّ مُقفلةٌ على زجاجِ الغد، تقولُ لنا كلِّ شيء بلغةٍ لا نفهمها حينَ نُباعدُ نِصفها عن نصفها، ويمرُّ اليوم، والغد، وما يشبههم من أسماء مرّةً بعدَ مرّة، دونَ أن نستبقي أنفسنا دقيقةً واحدة اضافية لنسمع ما تقول، وفي الوقتِ الذي نُقرر فيه أن ننفضها لتبدو أكثرَ قبولًا، ننسى، ببلاهةِ أيٍ مِنّا، أنها تحملُ صورتنا الصباحية، التي تقولُ كلّ شيء.

*

يُفزعني سؤال بسيط؛

لماذا استعان الله بالشيطان ليُقنعنا أنه الخيارُ الأفضل؟

**

لعلّها مباراة.

وللفريقين كادرٌ تدريبي ومساعدونَ ومرؤسون ورؤساء، وتنتهي الحلقةُ برأي واحدٍ يقررُ مصيرَ مباراة طويلة، طويلةٍ كحياة، لا لأنه الأجدر به، بل لأنه يعتقد أنّه كذلك. 

***

للكلمات التي نسمعها من الآخرين سِحرٌّ خاص ولو كنّا نعرفها، ورددناها في داخلنا مرّة بعد أخرى، وصوتنا هو ليس صوتنا الذي نسمعه حين نحَكي، تتحايلُ علينا أعضاؤنا فنتوهمُ أننا كَنُدفِ الثلج، خفيفو الظل، نأخذُ وقتنا في الطريق كلّ موسمٍ فَرحينَ بمن ينتظرنا، تَغشانا اللذة ولهفةُ المُتدفئين، وننسى من لا يملكونَ رفاهيتها. 

نظنُّ أننا نتراكم على بعضنا لنخلقَ ما نُريد، وفي اللحظةِ التي نبدأ فيها عّدّنا التنازلي لننطلق؛ يهزُّ حديدَ آمالنا انفجار الصدأ الذي لم نأبه له، فأكلنا، مِثلَ الحارة التي قتلت جميعَ سُكّانها لتبقى الأولى على مؤشرِ جودةِ الحياة، فلم يتذكرها أحد. 

****

هو الهواءُ ذاته الذي حَمَل بعضًا من عطرنا إلى قارّة أخرى، وفي الطريق، طُحنَ مع غيره فصارَ قصّة استقرت في مكاتبِ منظمات أجنبية، ولم يميّزوا بينِ رائحةٍ وأخرى فوضعونا في قائمةٍ موحدة ووسمونا بـ"الهاربين من الجحيم."

جحيمنا الذي ماتوا لاحتلاله.

حينَ قَطعنا الماء أوّلَ مرّة، تركنا علامّة لنستدلَ بها على أعمارنا، وفي المرّة الثانية صارت علاماتُنا تاريخًا باتجاه الشرق، ومن بعدها، حين توجهنا غَربًا، لم ننتبه أن الماء اختلطَ بالماء، وعلاماتنا التي تركناها في النهر، سارت لتصيرَ ميناءً لعودةٍ ما، لكلِّ من قطع ماء.

صارَ الماءُ يابِساً من بعدنا، كشيخٍ ينتظرُ أحفاده. 

*****

ثقيلة هذه الريح.

ثقيلة كاللجوء، باردة كالملاجئ.

والهواء حينَ يلملمُ القصص التي تركناها هُناك، يخجلُ من طبيعته التي لا تُسعفُ جائع، ويغضبُ حينَ يرى أقرباءه يتهافتونَ على مساعدةِ أحدًا منهم حُشرَ في حيّزٍ مطاطي ليحمل عبرَ سطح المتوسط أرواحًا متلاصقة، يساعدونَ الهواء لينجو من حَبسهِ، فيطعموننا للبحر، ويرحلون، كما رَحل الجميع عنّا. 

******

ستائر ثقيلة تحجبُ كل شيء، 

وفي اللحظةِ التي ينشقُّ نصفها عن نصفها الآخر، تُعمى العيون،

ويصيرُ الخلاصُ نُورًا.