فصل من «الجنّة أجمل من بعيد» لكاتيا الطويل

2021-04-05 13:00:00

فصل من «الجنّة أجمل من بعيد» لكاتيا الطويل

لا تظنّوا أنّكم خارج هذه الدوّامة. فأنتم أيضًا بتّم جزءًا من هذه الرواية. إن لم أنل نهايتي فستظلّون عالقين معي عاجزين عن بلوغ النهاية وعاجزين عن قراءة رواية أخرى. بتّم الآن معي. مخلوقان مغضوب عليهما. مخلوقان بلا نهاية واضحة ولا مكتوب معروف ولا خالقة متوازنة. ثلاثة نحن في هذه الهزيمة. كاتبة وشخصيّة وقارئ. ثالوث مفلس.

ولدتُ ذلك المساء من دون أن ينذرني أحد. هكذا هي الحياة لا تأخذ برأيٍ ولا تستشير. ولدتُ ولم يسألني أحد رأيي. لو سُئِلْت لربحتُ سنتين أو عشرًا أو ألفُا من العيش الهامشيّ. لم أُرِد أن أولد. لكنّ خالقتي لم تقتنع بحججي وخلقتني. رغمًا عن أنفي كما تقولون.

أظنّها كانت نصف ثملة عندما قرّرت أن تكتب. أخبرها أحدهم أنّ الكتّاب عمومًا يحبّون الخمرة فقرّرت أن تثمل حتّى تكتب تحفتها الروائيّة. بدأت بروايتي ثمّ تمسّكت بالخمرة وانتظرت أن تأتي الكتابة. فأتت النتيجة أنّها أصبحت زبونة الحانات وصرتُ أنا ملفًّا مرميًّا يخنقه الملل.

كاتبتي بسيطة. جميلة ومُضحكة إنّما بسيطة. هادئة هي بعينيها الصغيرتين وبشرتها البيضاء النقيّة. شعرها نبيذيّ اللون كلون الغيوم عند المغيب. وجهها جميل مشرق بلا أقلام الكحل والتلوين الموجودة أمام مرآتها الخشب المزخرفة. جسمها معتدل السمنة محتقن بالدوائر الأنثويّة الماكرة. جميلة كاتبتي. لكنّها لا تستثمر جمالها. أجد أنّ أفظع الأمور ألّا تجيد المرأة استثمار جمالها. 

إذًا منذ سنتين أو عشر أو ألف. لا أذكر. نالت الخمرة من أفكار صديقتي الكاتبة وتلاعبت بها وجعلتها تصدّق أنّ بإمكانها أن تخلُق شيئًا. أخبروها بأنّ بإمكانها أن تكتب. فوقعت المصيبة وخُلقتُ. أخبروها بأنّ عددًا من الكتّاب يعجزون أحيانًا عن الكتابة. فألصقَت بنفسها هذا العذر وأوقفت الكتابة. أخبروها بأمور كثيرة عن عادات الكتّاب فصدّقتهم وأرهقتني. لو أنّها لم تستمع إلى ما أخبرها به الناس لكانت وفّرت عليّ سنوات من الملل والإرهاق. إنّما لا بأس. الشرّ واقع ولا مفرّ منه. 

كانت بدايتها متعثّرة. كتبت أسطرًا ثمّ محتها. كتبت صفحات ثمّ مزّقتها. مرّت الأيّام وهي تتصارع معي. لا أنا قادر على إرشادها ولا هي قادرة على تطويعي. أرادتني مخلوقًا حرًّا ثمّ منعتني من التصرّف. في البدء كان الكلمة والخلق. فصمتُّ وقبلتُ بوضعي ملزمًا. ثمّ وصلتُ إلى هذا المأزق الذي أنا فيه الآن. مأزق العيش في جنّة بلا نهاية. بلا موت.

دأبت كاتبتي على عملها ستّة أسابيع ثمّ ارتاحت في الأسبوع السابع. منحتني بداية رواية لكنّها توقّفت. لم تمنحني الحبّ على الرغم من أنّني أردتُ أن أغرم. طلبتُ منها بخجل أن تخلق لي أنثى وحبيبة أعشقها. فرأت في الأمر مخرجًا لمللها ومنحتني ما أشاء. جعلتني في إحدى المرّات ألتقي بنادلة جميلة ولطيفة. كان مشهدًا هشًّا وركيكًا إنّما لم أعترض عليه خوفًا من أن تغيّر رأيها. كانت الفتاة طيّبة وعاملتني بلطف. كانت تقدّم لي الأطعمة والفواكه من المطعم الذي تعمل فيه. وذات مساء تجرّأتُ على تقبيلها. كانت صديقتي تحبّني وتدسّ في جيبي التفّاح الأحمر كلّما غفل عنها صاحب المطعم. فكان من الطبيعيّ أن أقبّلها. فهل أخطأتُ؟ هل تسرّعتُ؟ لا أدري. لكنّ الأمر انكشف لعيني كاتبتي وغضبت. لم تسر الأمور بهدوء في جنّتنا البيضاء الصغيرة مدّة طويلة. فبعد قبلتي المسروقة والتفّاحة المختبئة في جيبي طردت خالقتي حبيبتي من جنّتنا وغضبت عليّ. عادت خالقتي من عملها مصابة بإحباط فصبّت جامّ غضبها عليّ وعوقبتُ منذ ذلك الحين.

هناك ما يجب أن تعلموه أيضًا. إنّ كاتبتي غير متّزنة تمامًا. إن فرحَت منحتني ما يُفرح وإن غضبت أغلقت الأبواب في وجهي. تنصرني في يوم وتنصر الحياة عليّ في اليوم التالي. تُغرقني تارةً بالذهب والحبّ وتغرقني طورًا في وحول البؤس والحزن سفينةً بائسة تنتظر مرور الطوفان. لا أدري أهو مرض عرضيّ ما تمرّ به أم اضطراب عقليّ مزمن. إنّما النتيجة واحدة. بؤس شامل وكامل يحلّ عليّ.

فصرتُ أهوى البقاء على رفّي لأراقبها. صرتُ أخشى أن تتذكّرني. خالقتي أعني. أتمنّى أن تنهي هذه الرواية البائسة وأخشى ذلك في الوقت نفسه. فأنا لا أدري كيف ستنتهي الأمور. لا أدري إن ندمَت على محاولة الخلق التي قامت بها إنّما أنا متأكّد من أنّها لن تمنحني حرّيّتي مجدّدًا.

(بين هلالين: أعلم أنّكم ما زلتم تنتظرون بداية لهذه الرواية إنّما لا تقلقوا. لم أنسَ ذلك وسأتصرّف قريبًا بهذا الشأن).

فلنعد إلى خالقتي. منذ دخولها الغرفة اليوم وأنا أراها مستلقية على سريرها تبكي. تركت لدموعها حرّيّة السيطرة عليها. طالما استمتعتُ بالتفرّج عليها. كأنّها هي الشخصيّة وأنا الخالق. 

استلقت صديقتي على سريرها وأخذت في البكاء. أظنّني أعرف السبب وراء هذا الانهزام الساحق. منذ مدّة وأنا أتتبّع قصّة صديقتي التي لا تنفكّ تروح وتجيء في غرفتنا بنزق وملل.

في بادئ الأمر استغربتُ مشاعرها. فالمتعارف عليه أن تكون الخالقة قويّة صارمة معتدلة المزاج. إنّما رحتُ أكتشف شيئًا فشيئًا أنّ الأوضاع انقلبت هذه الأيّام. إنّ خالقتي امرأة تشعر بالملل كثيرًا. وهو أمر سيّئ جدًّا. لكم ولي. 

ستعيدون الأسطوانة نفسها بشأن حقوق المرأة وتحرّرها. أشعر بالدوار من نغمتكم هذه. مهلكم عليّ. لستُ أنكر على الأنثى غرابتها ونزقها. لكنّني أبدي استغرابي فحسب. استعيدوا رباطة جأشكم فأنا لا أتعرّض بكلماتي لأحد. لو كانت خالقتي رجلًا لربّما اختلفت الأمور. على أيّ حال. لن أنساق الآن إلى تحليل اجتماعيّ أنتروبولوجيّ كما تتوقّعون. لن أطيل وعظتي السوسيو-أدبيّة هذه. لم تمنحني كاتبتي رأيًا في هذا الخصوص والأجدر بي أن أغيّر الموضوع. 

نحن في الغرفة إذًا. الشخصيّة التي هي أنا جالسة كالعادة على الرفّ تروي. والكاتبة التي هي صاحبة الشعر النبيذيّ مستلقية على السرير تبكي. الشخصيّة تؤدّي دور الكاتبة والكاتبة تؤدّي دور البطلة وأنتم تتململون بحيرة وتوتّر. وبما أنّ الأدوار كلّها مقلوبة تمامًا كما هو مطلوب. فلنكمل. 

كنتُ أفهم حزنها ومللها. خالقتي طبعًا. منذ انخراطها في الكتابة وهي مرتبكة. منصب جديد أو قديم لا أدري. لكنّني أظنّها غير سعيدة في عالمها. 

أراها ما زالت تبكي على السرير. لا أريد أن أعرف لماذا تبكي. الكاتبة هي التي يجب أن تعرف لماذا تبكي شخصيّتها وليس العكس. أنا أفضل حالًا هكذا. أنعم بِجَهلي. أنعم بالقليل الذي أملكه. وما شأني بها؟ ما شأني بكلّ ما خلقته حولي؟ وضَعَتْ حولي سماءً وأرضًا ونورًا وعتمةً وحيوانات وأناسًا ثمّ كفّت عن الخلق. لم تمنحني قواعد اللعبة. أظنّ أنّني اتّخذتُ ذات يومٍ قرارًا خاطئًا أوصلني إلى مكاني الجحيميّ الذي أنا عالق فيه الآن. اتّخذتُ أنا أو اتّخذَت هي هذا القرار البائس. لا أدري. لكنّ أحدنا اتّخذ قرارًا مؤسِفًا أوصلنا إلى نقطة اللاعودة التي نحن عالقان فيها. لا هي تكتب ولا أنا أتصرّف.

لا تظنّوا أنّكم خارج هذه الدوّامة. فأنتم أيضًا بتّم جزءًا من هذه الرواية. إن لم أنل نهايتي فستظلّون عالقين معي عاجزين عن بلوغ النهاية وعاجزين عن قراءة رواية أخرى. بتّم الآن معي. مخلوقان مغضوب عليهما. مخلوقان بلا نهاية واضحة ولا مكتوب معروف ولا خالقة متوازنة. ثلاثة نحن في هذه الهزيمة. كاتبة وشخصيّة وقارئ. ثالوث مفلس.

لن أدعكم تغادرون هذه الرواية. سأستلقي إلى جانبكم وألتصق بكم ليل نهار. سيلتصق وجهي بوجهكم. عندما تذهبون للاستحمام سأدخل الدشّ معكم وسينزل الماء على جلدي وعلى جلدكم في الوقت نفسه. ستفكّرون فيّ وأنتم في عملكم. ستتذكّرون الكاتبة الديكتاتوريّة التي أجبرتنا على البقاء في هذا اللامكان أنتم وأنا على حدٍّ سواء. وبعد انتهاء دوام عملكم ستهرعون إلى البيت لتكملوا الصفحات الباقية من هذه الرواية. ستتناولون القهوة سريعًا مع أصدقائكم لتعودوا إليّ. وأنا سأبقى هنا حتّى إشعار آخر. لا تقلقوا. لن أذهب إلى النهاية من دونكم. صدّقوني. لستُ أكذب عليكم. شخصيّات الروايات وحدها لا تكذب.

لقد حلّ الليل وما زالت كاتبتي تبكي على السرير. ماذا تراني أفعل؟ كيف تراني أبني روايتي؟ لستُ لاجئًا ولا مهجّرًا. لستُ مصابًا بإعاقة ولا مريضًا عقليًّا. لم يغتصبني أحد ولم أدخل السجن. لم أشارك في ثورة ولم أقرأ كتاب تاريخ أصلًا. ليست لديّ مأساة ولا مغامرة ولا حتّى قصّة أخبرها. تُرى هل أسرق رواية أحدهم وأجعلها لي؟ لكم ولي؟ تُرى هل آتي ببطل من رواية أخرى وأبتزّه ليؤدّي دورًا في هذه الرواية؟ لينهيها بدلًا منّي؟ 

هناك شخصيّات تتحدّث عن مشاكل اجتماعيّة من بطالة وفقر أو متاجرة بالأعضاء حتّى. هناك شخصيّات تتأرجح على حبال السياسة فتروح تدخل التظاهرات وتختبئ في الأزقّة وتتلقّى ضربًا مبرحًا يوميًّا. كلّ شخصيّة في هذا العالم يمنحها خالقها نوعًا من المغزى. همّ إنسانيّ وجوديّ أيديولوجيّ. إلّا أنا. وأراني الآن مضطرًّا إلى إيجاد ما يميّزني. أراني مضطرًّا إلى إيجاد بداية أو أقلّه نهاية لهذه الرواية. الآن وقد نامت خالقتي يجب عليّ أن أكتب روايتي. الآن وفورًا.

أرجوكم. أغلقوا باب غرفتكم لئلّا يبلغكم صوت التلفاز. حسّنوا وضعيّتكم في السرير واستلقوا بطريقة مريحة. رتّبوا البطّانيّة جيّدًا واجعلوها على كامل جسدكم. أرجّح أنّكم تقرؤون هذا الكتاب مساءً. أنيروا الضوء واتركوه مواجهًا لكم. استديروا إلى ناحية اليمين. ضعوا وجهكم بموازاة الصفحات وأبعِدوا الهاتف من متناولكم. حاولوا التركيز معي لأنّ الرواية ستبدأ الآن. الكاتبة نائمة ويجب أن نستغلّ الوضع. حان الوقت لنحلّ مكانها.

هذه المرّة أنا متأكّد ممّا أقول. 

فلتبدأ الرواية الآن.

البداية.

 

صدرت «الجنّة أجمل من بعيد» لكاتيا الطويل، حديثاً عن دار نوفل/هاشيت أنطوان