أعثر عليّ في احتدام الشارع
إنّني سرّه الصغير لا صرخته
همسه لا غضبه
وأنا أضفي معنى
على الشجرة المقابلة
أحاول أن أنظم سطراً من دبيب أقدام
ومن طرطقة في الأعلى
لا بدّ أن أصبح على هذا المدى
الذي أطعمته روحي
لا بأس أن أصل النهاية بالنهاية
وأكون وحيداً
فوق النهايات
نتبادل الأسرار ونتبادل الشوارع
لكنّ الذاكرة تلد أسماءً ومدناً
وأكثر من ذلك
حياةً للجميع
حياةٌ في الخلف ولا مكان فيها
سوى لِما ينبت تحت الأطلال
ويحمل الموج إلى جزر
صعد حَجرها من الهواء
أعثر على نفسي في احتدام الشارع
أعرف أنّني لم أخرج جريحاً
من هذه الضجّة
لم أنجُ عبثاً
ولا عبثاً وجدني المهتدون
مطروحاً على الشباك
سلّمتُ حيوانات البرّ وطيور اليابسة
أسماءً باضتها على الشاطئ
سلّمت المجهولين
وجوهاً تعارفوا بها
الكلمات التي ألقيتها إلى الخارج
لم تكن لتعود إليّ
لولا أنّها ازدحمت في البراري
ولولا أنّها احتدّت في عصفها
وتدوّرت زواياها
وجدنا على الشطّ
ما كان أعشاباً، وكان رسائل
ما لم يعد هراءً بحريّاً
ولم يقتل عبثاً مقاصد ونوايا
ولم يصرخ عبثاً فوق الرمل
نقلنا الجريح وهو يتمتم فوق الحمّالة
وبالأحرى
كان العالم هواءً في عينيه
بينما وجد الكلمات التي يقطّب بها ألمه
كان الشعر لاطياً هناك
وبالتأكيد
لم يعد متّصلاً بالدم
والألم نفسه مادّة للحبّ
كان يحوّم فوق الأزهار
لا شكّ في أنّنا قدِمنا جميعاً من هذا الجوّ
وأنا لم أكن عبثاً هناك
أسلمت نفسي لمطبّات الطريق
وعدت مملوءاً بالأحجار
لكن مملوءاً أيضاً بالفراشات
ثمّة شرارة واحدة تغرّد على الغصن
في مقابل الشارع
الذي نظمته أقدام كثيرة
وحملته سطراً واحداً
إلى جسر النهايات
كانت الأرقام تغنّي
وتتحوّل إلى قوافٍ
وأحياناً إلى صيحات
لم يكن عبثاً أنّنا تسلّمنا
بلغاتٍ شتّى
تلك البطاقات التي سمّتنا
ولمرّة أخيرة
لم يكن عبثاً أنّنا سمعنا
صرخة ذلك القمر
وهو يتحطّم على الأسوار
لقد تكالمنا مع الأرواح
في ذلك الفضاء العريض المضاء
بالانتقامات
وجدنا فجأة تاريخاً
وملابس لما بعده
الألفاظ التي استعملناها لغسيلنا الرثّ
وصارت بعدها أظافر ومشابك
وحدها ظلّت مع الأرقام الباقية تغنّي
سقط ذلك الضريح على الغابة
لكنّ السماء عجّت بالمدن
والذاكرة ظلّت تفيض أنهاراً
من كلّ جانب
القوافي الطائرة تغدو أهدافاً
نصيبها بأصواتنا
عدنا مليئين بالفراشات والمعاني
التي أطلقناها على البناء المقابل
تفاعيل وأوزاناً مهجورة
تعود وتسقط حيّة بلا رأس
فوقنا
منفيّاً إلى غرفتي أجرّ أنا كسيحة
من أمام التلفزيون
أسحبها الى السرير
حيث يبدأ عذابها مع الوقت
الذي يتقلّب معها
لا يكفي أن أغلق الباب
لقد مرّ (...) غالباً
وترك على المقبض
نظرته الماحية
البارحة ترابط في الخلف
إنّها عدد يكبر ببطء
نهارٌ واحد يقفز من تحت النافذة
يرتمي على المنضدة
التي ماتت أمس
حيث هناك موتى آخرون
على المنصّات، كانوا أمس كتباً
كانوا قناني انتحرت، حين
الحياة توقّفت وسطها
كانوا أيضاً قامتي التي منحتها للشتاء
وشبحي الذي لم ينهض من السرير
أتكلّم معه
ليفسح لي جنبه
لأكون رسالته إلى الحياة
التي هي الآن
باب البرّاد
وصمت التلفزيون
الأشياء تنام على منصّاتها
لا نعرف متى تحجّرت
ومتى أُمرَت بذلك
لا نعرف متى وجدنا القرن
يغطّ في الزاوية
نافثاً عشرين عاماً نافقاً
نحن المحاطون بأشباه الأمس
الذي يتكرّر عدداً بعد عدد
هرير صامت يستعد لمواكبتنا
حين يأتينا نحن أيضاً
الأمر نفسه
لقد جاء الوقت
علينا أن نستعدّ لمغادرة أشباحنا
التي لا نستطيع أن نخرج منها
بدون أن نقصّ مجالاً لأنفسنا
في داخلها
إنّنا فقط في البعيد
حتى في أسرّتنا
في البعيد، ودائماً أشباح أنفسنا
لقد رمونا للآخرين
وتكوّم علينا أشباهنا
المعتقلون في أجسادهم
إنّنا نتكرّر على طول هذا اليوم
وأحياناً، أحياناً فقط
نحصل على عطلة
أمام التلفزيون
أحياناً نحمل هذه الحياة المُعارة
إلى المطبخ حيث نقليها
ونرمي قشورها
ولا نعرف كيف تنقلب في الطبق
إلى كمامة تنظر إلينا
لا نعرف ما الذي وراءها
عقود سنين فقط
عجزَت عن أن تكون ماضياً
عقود سنين سقطت منّا
كوجبة أسنان بصقناها
أمام قرن لم يزل قاعداً
وإن انقصف في سنّه العشرين
منفيّاً إلى غرفتي
أجرّ أنا كسيحة
من أمام التلفزيون
أنسحب الى السرير
وأعدّ خمسة وسبعين عاماً
قبل أن أنام
صدرت المجموعة الشعربة "الحياة تحت الصفر" لعباس بيضون قبل أيام عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان