ضمن واقع الاحتلال والانقسام، تطفو الجريمة على السطح، وتصيرُ عرفاً جديداً من أعراف المجتمع-القبيلة. إذ إنّ الرواية التي تتحدث عن دولة فلسطينية أنتجتها أوسلو، تروي حكاية أفراد ضائعين ضمن تياراتٍ وقوى متضخّمة وواهمة، ليكون الاحتلال بما أحدثهُ من واقع هو صانع الحكاية، التي تدور بين رحاها مصائر أفراد غاضبين، يوجّهون غضبهم في كلّ اتجاه، ليرتد ذلك الغضب العارم إلى ذواتهم انتكاساتٍ وآمال محطمة.
يرصد الكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي في روايته "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" الصادرة عن دار الآداب (2019)، الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي والانقسام الداخلي، ويقاطع ذلك الواقع مع عوالم غرائبية، في حكاية تطفو على السطح، وهو سطح يحتشد بالمقولات جميعها.
يودّ الكاتب الفلسطيني أن ينقل للقارئ كلّ شيء، كلّ ما يحدث في الأراضي المحتلة، إلى جانب الاتجاهات الفكريّة والانتماءات السياسيّة الموجودة في المجتمع الفلسطيني كافةً. الأمر الذي أثقل على الحكاية التي أراد أن يرويها عن نوح ومصيرهِ. وربما يكون الشتات الذي أصاب الحكاية وحاول الكاتب أن يلملمهُ بصورة مستمرة، هو الشكل الفنّي الذي أراد من خلاله أن يقدّم مقولتهُ الخاصة عن "الحلم الفلسطيني". ولو أنّه استند في بنائهِ على عوالم هاروكي موراكامي، وبول أوستر وغيرهما. كما لو أنّ الواقع بذاتهِ، لا يجيب عن الأسئلة التي تزخر فيها الرواية؛ لذلك استعان الكاتب بعوالم أضفت على النص بريقاً ما، إلا أنّها أضعفت بناءهُ السردي. الواقع مهما بدا غرائبياً فإنّه يفسّرُ نفسهُ عبر أدواتهِ، إذ إنّ الحكاية نفسها التي أضاعها الكاتب في حفلٍ غير متسق من الأساليب كانت تقول للقارئ: في فلسطين تحت الاحتلال، لا توجد دولة مستقلة. في فلسطين، في ظل الانقسام، تنمو العصبيات، ويعود الأفراد إلى انتماءاتٍ أضيق. الخوف يتحكم بالأفراد، بعدما تخلّصوا من الأوهام النضاليّة الكبرى، ودخلوا نضالاتٍ ضيقة، تعنيهم بصورة فردية.
في الرواية صوتٌ رافض، يسخط على الواقع، وعبر نبرة السخط تلك فإنّه يسخط على من قاد إليه. والهزيمة الكبرى التي يمثلها ضياع الوطن وانكشاف الأوهام الكبرى في تحقيق الدولة المستقلة تحت الاحتلال، قد أفضت في النتيجة إلى هزائم في حياة الفلسطينيّين؛ وهي هزائم متنوّعة وعديدة بتنوع التجارب التي يخوضها أفراد هذا الشعب، بدءاً من الأشغال اليوميّة إلى مسائل الحبّ وبناء العلاقات بين الأصدقاء ومع العائلة.
يستخدم الكاتب الحبّ للتعبير عن المجتمع، ويستخدم حال المرأة ليعبّر عن الفساد العام. وهذان استخدامان مثاليان للحديث عن الفصام الذي تشكو منهُ المجتمعات الذكوريّة، يعزز ذلك الصورتين النقيضتين اللتين بنى الكاتب حكايته بينهما؛ عاشق طهرانيّ من جهة، يلتزم بأن يحافظ على فتاته عذراء طوال فترة هروبهما، ومجتمع عصبي يريدُ أن يغسل عاره بالدماء. لكن الكاتب عبر حبكة ترتبط بالقيم والأعراف والشهامة يصل إلى حلّ توافقي، إذ تعفو عائلة الفتاة عنهما في اليوم التاسع والثلاثين من هروبهما، وقد بقي لنجاتهما بصورة كاملة يومٌ واحد. سوف يعوّض العاشق اليوم مقابل عملٍ في الأرياف لمدة عامٍ كامل. هذا الحل التوافقي وإن كان ينجي الشخصيات من سوداوية القتل والظلم إلا أنّه يردُّ الإجابة عن سؤال الحرية الفردية إلى المنظومة ذاتها التي كان نوح يرفضها. يبدو بذلك أنّ مصائر الأفراد هي مصائر معلّقة دائماً في أتون ما تراه الجماعة وما تقرره. ومحاولة الفكاك التي أدّاها نوح، انتهت بهِ إلى صورة ناجٍ جديد يدينُ بنجاتهِ إلى قيمٍ يرفضها. إنّ نوح عبر رفضهِ الجزء وقبولهِ بالجزء الآخر، يُفشِل مشروعه في أن يطرح الأسئلة دائماً. فحياتهُ برمتها، هي محضُ إجابة عن سحق الأفراد والتحكم بمآلات حياتهم.
يجعل الكاتب من رحلة بطلهِ في البحث الدائم عن عمل، ومن ثمّ في رفضهِ الاستمرار في الأعمال بسبب التعامل غير الإنساني مرةً، وبسبب فساد صاحب العمل مرة أخرى، ومن رحلةِ هروبهِ مع عشيقتهِ من مدينة إلى أخرى؛ يجعل من هذين الحدثين فرصة كي يصوّر فلسطين تصويراً بانوراميّاً، عن المجتمع والمدن. تتساقط الغربان من سماء فلسطين، والكاتب أراد من ذلك المشهد أن يقول لنا إنّ ثمة أشياء غريبة تحدث في بلداننا. لكن خلال الحكاية برمتها لم يحدث إلا ما هو مألوف في مجتمعاتنا. حتى بالنسبة إلى أفراد مهزومين فإنّ المجال الذي أتاحهُ لهم السرد، كما الواقع، هو الأحلام، وقد حمّل الكاتب المنامات دلالات شتى، في مقاومة الاحتلال وفي ممارسة الحبّ. يصحو نوح من مناماتهِ، خائفاً يتساءل حيال الدماء، ليعرف عبر سماعه للأخبار أنّها دماء جنود إسرائيليين. تتداخل العوالم التي يعيشها نوح، واقعهُ مهزوم ومناماتهُ ظافرة، ولم يكن قادراً على الفصل بينها. بذلك كان يهرب إلى مناماتهِ بصورة مستمرة، تهزه وفاة والدتهِ، يهزه جمال حبيبتهِ. لكن خوفاً مديداً يحركهُ دائماً، ينقلهُ من مكان إلى آخر، من مهنة إلى مهنة، ومن علاقة إلى أخرى، إنّه رجلٌ عابر، رجلٌ مرآة، يكشف طريقة الآخرين في التعاطي معهُ، فهو رجلٌ ظل يسيرُ في ركاب الآخرين.
ضمن واقع الاحتلال والانقسام، تطفو الجريمة على السطح، وتصيرُ عرفاً جديداً من أعراف المجتمع-القبيلة. إذ إنّ الرواية التي تتحدث عن دولة فلسطينية أنتجتها أوسلو، تروي حكاية أفراد ضائعين ضمن تياراتٍ وقوى متضخّمة وواهمة، ليكون الاحتلال بما أحدثهُ من واقع هو صانع الحكاية، التي تدور بين رحاها مصائر أفراد غاضبين، يوجّهون غضبهم في كلّ اتجاه، ليرتد ذلك الغضب العارم إلى ذواتهم انتكاساتٍ وآمال محطمة.