هذه نتيجة التطرف العنصري القابع في جوهر الفكرة الصهيونية، فبعد عقود من محاولات الدولة تهميش الفلسطيني عبر تشكيل جماعات مختلفة منه، يجد الفلسطيني ذاته موحداً كما لم يكن من عقود في مواجهة الهجمات المسعورة في الشيخ جراح، القدس، اللد، يافا حيفا، ورام الله ونابلس والنقب، وطبعاً غزة.
دوماً نعود للبدايات. والبداية هنا هي الأيديولوجيا الصهيونية والتي منذ بداياتها نشأت على فكرة اختلاف اليهودي عن غيره من البشر. وعندما باشرت الصهيونية في اعتماد فلسطين كأرض مشروعها لبناء دولة يهودية، لم تأخذ بعين الاعتبار أن فلسطين بلاد لها أهلها الذين يقطنون فيها ولهم طموحاتهم كغيرهم من الشعوب في مستقبل خاص بهم. ومنذ بدايات الاستيطان في فلسطين اعتمدت الصهيونية سياسة إبعاد الفلسطيني عن أي منطقة تسيطر عليها وتقيم عليها مستعمراتها. فقد أغلقت كيبوتساتها الأولى باستخدام السياج الحديدي، ومنعت المارين أو الرعاة من الدخول عبرها، وطردت الفلاحين الذين اعتاشوا على زراعة الأراضي قبل أن يستحوذ عليها الصهاينة، ووضعت حراساً مسلحين لإبعاد "الغرباء" مبتدئة بذلك أولى الاشتباكات المسلحة مع فلاحي تلك المناطق. ومن ثم قامت بابتداع مفهوم العمل العبري وهاجمت اليهود الذين يوظفون عرباً والعرب العاملين في مستعمراتها.
كل هذا قبل أن تكون هناك دولة تقوم بذلك بقوة القانون (قانونها). وبعد قرار تقسيم فلسطين بدأت بخطوات حثيثة لطرد الفلسطينيين من قراهم ومدنهم التي كان من المفترض أن تقع ضمن حدود الدولة المقترحة في قرار التقسيم، ونجحت بذلك واستمرت بعد إعلان تأسيس الدولة عندما قام جيشها بحملات تطهير عرقي في كل المناطق التي سيطرت دولتهم عليها مما أدى إلى تحول غالبية الفلسطينيين إلى لاجئين في الدول المجاورة أو في داخل فلسطين بما في ذلك في داخل الدولة ذاتها. وعملت على مصادرة أملاك الفلسطينيين وتحويلها لملكية يهودية بحتة لا يسمح لغير اليهودي باستخدامها عبر قوانين منها قانون أملاك الغائبين في أوائل الخمسينات.
فلسطينياً، تقسّم الشعب إلى عدة فئات منتشرة في مناطق مختلفة كل منها تقبع تحت سلطة مختلفة وقوانين مختلفة، فهناك بلدان اللجوء التي استضافت الفلسطينيين ولكل منها سياسته الخاصة تجاههم، وهناك من قبع في قطاع غزة الواقع تحت السيطرة المصرية، أو من أصبح مواطناً أردنياً بعد إلحاق شرقي فلسطين بالمملكة الأردنية، أو من أصبح مواطناً منقوص الحقوق في دولة الاحتلال. وبعد الاحتلال الكامل لبقية فلسطين عام ١٩٦٧، أبقت دولة الاحتلال هذه الفروقات ما بين الفلسطينيين الذين أصبحوا تحت سيطرتها عبر قوانين خاصة بكل جماعة وقيود على حركتها وتعاملها مع الجماعات الأخرى، بل واستحدثت جماعة قانونية جديدة هي قاطني مدينة القدس كجماعة قانونية مختلفة عن بقية سكان شرق فلسطين. وقد نجحت لدرجة ما في تفريق الفلسطينيين وخلق مطالب وإشكاليات خاصة بكل جماعة منهم تختلف عما تعانيه الجماعة الأخرى.
لكن طبيعة الأيديولوجيا الصهيونية ذاتها وقفت عائقاً أمام هذه التقسيمات التي قامت بها الدولة، فبرغم الاختلافات التي تم خلقها بين الفلسطينيين، بقيت العقيدة القائمة على إعلاء أهمية اليهودي المثال الأعلى، وازداد انتشار العنصرية كلما ازدادت انتصارات دولتهم. فبرغم أنهم وجدوا قيادة فلسطينية قبلت بالتقسيمات المفروضة، لا بل وعمقتها، سواء عن قصد أو غير قصد، بقيت عقلية استثناء الآخر مسيطرة وازدادت الممارسات العنصرية تجاه الفلسطيني بغض النظر عن مكان إقامته أو الأوراق التي يحملها. والنتيجة أمامنا اليوم تتمثل في انفلات عقال العصابات العنصرية اليهودية ومعها جيش وشرطة الاحتلال في الهجوم على الفلسطينيين في كل مكان؛ في القدس وغزة والجليل والساحل والضفة الغربية.
هذه نتيجة التطرف العنصري القابع في جوهر الفكرة الصهيونية، فبعد عقود من محاولات الدولة تهميش الفلسطيني عبر تشكيل جماعات مختلفة منه، يجد الفلسطيني ذاته موحداً كما لم يكن من عقود في مواجهة الهجمات المسعورة في الشيخ جراح، القدس، اللد، يافا حيفا، ورام الله ونابلس والنقب، وطبعاً غزة.
في المحصلة، هذا إنجاز هام للفلسطينيين، حتى لو لم يكونوا المبادرين له. يبقى السؤال، هل يمكن البناء على مثل هذا الإنجاز فلسطينيا؟ هل يمكننا أن نشكل حالة سياسية موحدة تمثل مطالبنا في الحرية وحق تقرير المصير وفي مواجهة العنصرية والانبطاح العربي المخجل؟ هل سيسمح لنا العالم، والأهم قياداتنا المتنفذة، في تشكيل لأول مرة منذ أيام الانتداب البريطاني، حالة واحدة وقيادة موحدة؟ لقد وحدتنا عنصرية الصهيونية التي لا تعرف حدوداً.
هذا هو المحك العملي، والذي بدونه لن ينقى لنا صوت واحد موحد يمثل طموحاتنا ويعالج بعضاً من إشكالياتنا في مختلف مناطق تواجد شعبنا. فهل هناك أمل؟