الشّيخ جرّاح... سرديّة النّزوح الثّاني

2021-05-24 16:00:00

الشّيخ جرّاح... سرديّة النّزوح الثّاني
صورتان من عائلة الكرد في الشيخ جراح.

امتلكت الذّات الفلسطينيّة وعياً تراكمياً بحيثيّات النّزوح وتأثيراته، نتيجة معايشتها لفعل نزوح سابق، ما زالت تداعياته النّفسيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة حاضرة في مختلف تفاصيل الحياة الفلسطينية. وقد مكّنها هذا الوعي التّراكميّ من مجابهة فعل التّهجير القسري الذي تتعرّض له في حي الشيخ جراح، إذ غدت الذات الفلسطينية، مدركة الآليات التي يتبعها الاحتلال لإجبارها على النزوح، ومبتكرة أساليب عدّة، سلمية وغير سلمية، لمواجهة هذه الآليات وتعطيلها.

نور عبّاس* وبشار بكّار**

لعلّ سرديّة النّزوح الفلسطينيّ من أبرز السّرديّات التي عرفها التّاريخ المعاصر؛ إذ هُجِّر، بالقوة، أكثر من 750 ألف فلسطينيّ، وهُدِّمت معظم ملامح مجتمعهم الحضاريّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، وذلك لصالح قيام دولة إسرائيليّة مزعومة على أرضهم.

وإذا تأملنا هذه السّرديّة التّاريخيّة سنجد أنّ لها ملامح عدة:

الملمح الأول؛ سرديّة شفاهيّة

سرد الجيل الفلسطينيّ الأول، الذي تعرّض للتّهجير القسريّ حيثيات النّزوح اليوميّة إلى الجيل الثّاني، والجيل الثّاني بدوره سرد هذه الحيثيات إلى الجيل الذي يليه، فغدا لدينا سرديّة نزوح حيّة، مستمرة، مُتناقلة شفاهياً، ومحفوظة في ذاكرة الأجيال على مرّ سنوات المظلوميّة الفلسطينيّة. ونحن، هنا، لا ننكر دور المؤرخ في تقديم السّرديّة الفلسطينيّة، إذ وُثِقَت هذه السّرديّة تاريخيّاً أيضاً، ولكنّنا نؤكّد أنّ التّناقل الشّفهيّ للسّرديّة له دور مهمّ في تعميق بنيتها في وعي الأجيال، وجعلها جزءاً مركزياً من ثقافتهم غير العالمة. فالمتلقي الشّفهي للسّرديّة سيستوعبها من خلال الصّوت، والإيحاء، والانفعال، وسيحفظ تفاصيلها في ذاكرته، لينقلها إلى الجيل الآخر، مما يضمن لها ديمومة تأثيريّة، توصيليّة، تفاعليّة أكبر ممّا لو تمّ تلقيها مباشرةً من الكتب التّاريخيّة.

الملمح الثّاني؛ سرديّة مدوّنة جمالياً

تمتاز سرديّة النّزوح الفلسطينيّ بأنّها سرديّة مُعَبّر عنها جمالياً؛ إذ تناول العديد من الفنانين تفاصيل هذه السّرديّة تناولاً إبداعياً، سواء أكان هذا التناول شعريّاً، أم نثريّاً، أم بصريّاً، أم صوتيّاً. وهذا التّعامل الإبداعيّ مع السّرديّة جعلها حاضرة، فنّيّاً، في وعي المتلقي العربيّ عموماً والفلسطينيّ خصوصاً، وضمن لها ترسخاً في الُبنى الذهنية الجماليّة للمتلقي. فالسّرديّة المُعَبّر عنها بآلية فنّيّة ذات تأثير كبير في وعي الذّات المتلقية؛ إذ أنّها تنفذ إلى البنية الذهنيّة بطريقة غير مباشرة، وذلك على عكس السّرديات التي تُنقَل بآلية غير فنّيّة وبأسلوب تقريريّ مباشر؛ فهذا النقل قد يفقدها قوة الرّسوخ في البُنى الشّعوريّة والجماليّة والنّفسيّة للمتلقي.

الملمح الثّالث؛ سرديّة مُعَادةٌ باستمرار

لم تتوقف مأساة النّزوح الفلسطينيّ عند عام 1948؛ إذ مازالت الذّات الفلسطينيّة معرضة باستمرار لتكرار فعل النزوح، فهي، بالنسبة للاحتلال، مشروع تهجير قسريّ دائم. وهذا ما تؤكده لنا أحداث الشّيخ جرّاح، إذ يتعرض أهل هذا الحي لمحاولات التّهجير القسري باستمرار، ويتبع الاحتلال، في سبيل هذا التهجير،  مختلف الأساليب، القانونيّة والعنفيّة. ومن هنا فقد غدا الشيخ جراح صورة مصغرة عمّا حدث في فلسطين عام 1948، إذ كان التّهجير القسريّ، سابقاً، على مستوى وطن، وهو الآن على مستوى حي. أي نحن الآن نعيش ضمن سردية نزوح في طور الخلق (سرديّة نزوح أهالي حي الشّيخ جرّاح)، وهي سردية مصغرة عن سردية كبرى سابقة عليها زمنياً.

وتمتاز هذه السردية الجديدة بملمحين:

الملمح الأول؛ سرديّة مصوّرة تفاعليّة

تمتاز سرديّة النّزوح الثّاني بأنّها سرديّة في طور الخلق والتّشكّل، ويُرصَد هذا التّشكّل، مباشرة، من خلال عدسة الكاميرا؛ إذ غدت عدسة كلّ شخص حاضر في فلسطين أداة لنقل السّردية وتوضيحها للرأي العام. فلم نعد متلقين سامعين للسّردية بعد انتهائها، كما حدث في السّرديّة الأولى، بل أصبحنا نراقب هذه السّرديّة مباشرة، ونشهد تحوّلاتها، ونهتم بتفاصيلها اليومية، ونتفاعل معها من خلال شتى أنواع المناصرة. فنحن أمام سرديّة يشكّل كلّ شخص فيها عنصراً فاعلاً مؤثراً، سواء على مستوى المواجهة المباشرة، أم على مستوى النّقل التواصلي، أم على مستوى المناصرة.

الملمح الثّاني؛ سردية تراكمية

امتلكت الذّات الفلسطينيّة وعياً تراكمياً بحيثيّات النّزوح وتأثيراته، نتيجة معايشتها لفعل نزوح سابق، ما زالت تداعياته النّفسيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة حاضرة في مختلف تفاصيل الحياة الفلسطينية. وقد مكّنها هذا الوعي التّراكميّ من مجابهة فعل التّهجير القسري الذي تتعرّض له في حي الشيخ جراح، إذ غدت الذات الفلسطينية، مدركة الآليات التي يتبعها الاحتلال لإجبارها على النزوح، ومبتكرة أساليب عدّة، سلمية وغير سلمية، لمواجهة هذه الآليات وتعطيلها.

ماذا لو تبدّل عنوان السّرديّة؟

لقد وضعنا لهذه المادة عنوان (سرديّة النّزوح الثّاني)، ولكننا نؤمن بقدرة الذّات الفلسطينيّة على تبديل هذا العنوان، وذلك من خلال تحويل هذه السّرديّة، التي هي في طور التشكل، من سرديّة نزوح ثانٍ إلى سرديّة نفي وخلق؛ نفي لكلّ السّياقات الاستعماريّة اللاإنسانيّة التي تعيش ضمنها الذّات الفلسطينيّة، وخلق لفضاء جديد، يعيد للفلسطينيّ حقوقه الطّبيعية على أرضه.


* ماجستير في النقد الأدبي الحديث، جامعة حلب
** إجازة في الهندسة المعمارية، جامعة حلب